بسم الله الرحمن الرحيم ان المتابع لأنظمة الدساتير والقوانين في العالم ليقف حائرا ومشدوها أمام الحالة السودانية ، التي تتفرد بانتاج كم غير عادي من الدساتير والقوانين المصاحبة والمعدلة في فترة زمنية تتجاوز القرن من الزمان ( من عام 1903 قانون ناحتي الأختام الي عام 2003 قانون الحكم المحلي) *1 ، الأمر الذي يبدو للوهلة الأولي أن انتاج هذا الكم الثري من الدساتير والقوانين هو نتاج طبيعي لنشاط هذه الدولة وتفاعلها مع الأحداث الجارية في المجتمع وأن المجتمع نفسه يمتلك ديناميكية فعالة تطال كل مناحي حياته السياسية ،والاقتصادية ، والاجتماعية ، ومسيج بكل هذه القوانين ولكن !!..هل هذا واقع حقيقي ؟ أم أن كل هذه الدساتير والقوانين ما هي الا نتاج ظروف سياسية معينة ما تلبث أن تتغير أو تتبدل بتغير الظروف وتغير أنظمة الحكم ، ويؤتي بغيرها؟. يمكن اختصار الرحلة التي مرت بها الدساتيروالقوانين في السودان الي المراحل الثلاث الآتية : 1- المرحلة الاستعمارية ( القانون الانجليزي تحديدا) 2- مرحلة ما بعد الاستقلال . 3- مرحلة الدساتيروالقوانين المصاحبة لأنظمة الحكم المتعاقبة والتي يمكن اعتبار جلها " انقلابية المظهر" . "عنيفة " السلوك مع المعارضين . ومهما كان شكل الدساتير والقوانين التي صيغت في تلك المراحل ، وما تلاها ، فقد كان الهدف الأساسي منها هو احكام سيطرة نظام حكم بعينه علي مقاليد الأمور بالبلاد ، ...تماما كما هو حاصل الآن . وعليه ، يمكن اعتبارالسودان من الدول القليلة في العالم التي عانت من ثلاث ظواهر ما فتئت أن تتكرر منذ استقلاله وحتي الآن ، وهي : 1- الانقلابات المتعددة وغالبا ما تأتي كلها بحكومات عسكرية. 2- الدساتير الكثيرة ( قرابة ال 12 دستورا منها الدائم ومنها المعدل ومنها المؤقت). 3- القوانين المرتبطة بأنظمة الحكم المختلفة التوجه والمأرب . والتي عادة ما يكون هدفها الأساسي هو تعزيز السلطة بدلا من تعزيز القانون. وبصرف النظر عن نوايا الحكام فان هذه الظواهر ستؤدي بنا في النهاية الي نتيجة واحدة هي ترجيح غلبة "القوة " دائما علي غلبة العلم والمعرفة . نتج عن هذه الظواهر السالبة والمتكررة أن شكل الدولة لم يتبلور في الواقع لدي النخب التي حكمت السودان منذ الاستقلال وحتي الآن وأن هذه البلاد لم تفلح بعد في تبوء مكانها الحقيقي تحت الشمس. والسبب ، هوعدم فهم الحكام للطبيعة الكلية للمكون السوداني علي كل الأصعدة تقريبا بالرغم من أنه هو النواة الأساس التي تشكل ما يسمي بالوطن ، لذلك دائما ما تصف الدساتير السودانية هذه "النواة" في شكل تعريف انشائي هلامي، ملامحه اما ناقصة أو مشوهة ، اذا ما قورنت بما هو علي الأرض، وتظهر هذه "العورة" جلية عند التطبيق. ... دائما هناك شئ ...اما ناقص ، أو مبهم ، أو عكس ماهو متوقع!! ... انه طبيعة الدولة التي تشكل في اطارها العام هويتها أو.. ما يعرف بالوطن . طبيعة الدولة حسب ما ورد في الدساتير السودانية: 1953- دستور الحكم الثنائي : لم يذكر هذا الدستور طبيعة الدولة لأن البلاد كانت "مستعمرة " وكانت رهنا للوصاية المصرية البريطانية لذلك وضع هذان المستعمران هذا الدستور لادارة "المستعمرة" 2-" "The Agreement" means the Agreement dated the 12th day of February 1953 and made between the Egyptian Government and the Government of the United Kingdom of Great Britain and Northern Ireland." ومع ذلك ، يمكن أن يحسب لهذا الدستور أنه قد وضع السودان لأول مرة في اطار هيكل اداري عصري منظم بدء من الحاكم العام ومهامه ، وأعضاء اللجنة الفرعية والتنفيذية ، والقاضي العام ، ولجنة السودنة ، والخدمة المدنية ، وكيفية ادارة الجنوب ، والتصرف في المال العام . * راجع دستور 1953(النسخة الانجليزية). 1956- الدستور السوداني المؤقت: لعل هذا الدستور هو الأول الذي حدد طبيعة الدولة بعد الاستقلال في بنود واضحة وعكس رغبة الشعب السوداني الحقيقية في شكل الحكم. 2 - (1) يكون السودان جمهورية ديمقراطية ذات سيادة . (2) تشمل الأراضي السودانية جميع الأقاليم التي كان يشملها السودان الإنجليزي المصري قبل العمل بهذا الدستور مباشرة 1958-1964: دستور الحكم العسكري: بداية تغول الحكم العسكري علي سيادة البلاد في شكل "ديموقراطية " عسكرية تملك كل السلطات 1 - جمهورية السودان ديمقراطية ، السيادة فيها للشعب . 2 - المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو السلطة التشريعية العليا في السودان . 3 - المجلس الأعلى للقوات المسلحة هو السلطة القضائية العليا في السودان . 4 - خول المجلس الأعلى للقوات لرئيسه جميع السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وقيادة القوات المسلحة السودانية . 1964- دستور جمهورية السودان المؤقت: (2) (1) يكون السودان جمهورية ديمقراطية ذات سيادة . (2) تشمل أراضيه جميع الأقاليم الواقعة داخل حدوده الدولية . 1965- دستور السودان المؤقت (المعدل سنة 1964م) (2) تعدل المادة (5) من دستور السودان المؤقت (المعدل سنة 1964م) على الوجه الآتي : (1) يضاف الحكم الشرطي الآتي في آخر البند (2) من المادة (5) : " على أنه لا يجوز لأي شخص أن يروج أو يسعى لترويج الشيوعية سواء كانت محلية أو دولية أو يروج أو يسعى لترويج الإلحاد أو عدم الاعتقاد في الأديان السماوية أو يعمل أو يسعى للعمل عن طريق استعمال القوة أو الإرهاب أو أية وسيلة غير مشروعة لقلب نظام الحكم " . 1966- دستور السودان المؤقت (المعدل سنة1964): يتناول هذا الدستور التغيرات الجذرية للنظام القضائي ويقسمه الي قسمان :المحكمة المدنية الكبري ومهمتها حراسة الدستور ومحكمة الاستئناف المدنية العليا وهي معنية بتطبيق القضاء الشرعي ، ولكن كلاهما يخضعان لسلطة مجلس السيادة ، وهو شكل واضح من أشكال الحجر علي القانون وتبعيته للسلطة الأعلي في البلاد. (89) (1) يتولى إدارة القضاء في السودان قسمان منفصلات ومستقلان يسميان الهيئة القضائية . (2) الهيئة القضائية مسئولة أمام مجلس السيادة وحده عن أداء أعمالها . 1968- تعديل رقم 6 لسنة 1968م: تناول هذا التعديل تمديد مدة صلاحية الجمعية التأسيسية بسبب فشلها في وضع الدستور الدائم للبلاد خلال المدة المحددة سابقا(سنتان). (3) (53) " تستمر الجمعية التأسيسية إلي أن تضع وتصدر الدستور الدائم وقانون الانتخابات الصادر بموجبه على ألا يتجاوز ذلك مدة سنتين من بدء أول دورة انعقاد لها ، ولا يجوز حلها " 1973- الدستور الدائم لجمهورية السودان الديموقراطية: جمهورية السودان الديمقراطية جمهورية ديمقراطية اشتراكية موحدة ذات سيادة وهي جزء من الكيانين العربي والأفريقي اتي هذا الدستور بمضمون جديد ينص علي أحادية الحزب الواحد وهيمنته علي حكم البلاد من خلال "الاتحاد الاشتراكي" ، ولكن ، يحسب له أيضا أنه بمثابة أول دستور دائم للبلاد منذ الاستقلال. المادة (4) الاتحاد الاشتراكي السوداني هو التنظيم السياسي الوحيد في جمهورية السودان الديمقراطية ويقوم على تحالف قوى الشعب العاملة المتمثلة في الزراع والعمال والمثقفين والرأسماليين الوطنيين والجنود وتؤسس تنظيماته على مبادئ المشاركة الديمقراطية وفقا لما هو منصوص عليه في نظامه الأساسي . يقوم الاتحاد الاشتراكي السوداني بتعميق قيم الديمقراطية والاشتراكية والوحدة الوطنية ويمثل سلطة تحالف قوى الشعب العاملة في قيادة العمل الوطني . 1985- دستور السودان الانتقالي: جمهورية السودان 2 - السودان دولة ديمقراطية موحدة ذات سيادة على جميع الأقاليم الواقعة داخل حدودها الدولية . 1998- دستور حكومة الانقاذ الوطني: 2- السودان جمهورية اتحادية تحكم في سلطانها الأعلى على أساس النظام الاتحادي، الذي يرسمه الدستور مركزا قوميا وأطرا ولائية ، وتدار في قاعدتها بالحكم المحلي وفق القانون ، وذلك تأمينا للمشاركة الشعبية والشورى والتعبئة ، وتوفيرا للعدالة في اقتسام السلطة والثروة . 2005- دستورحكومة الوحدة الوطنية (الانتقالي): 1 (1) جمهورية السودان دولة مستقلة ذات سيادة، وهى دولة ديمقراطية لا مركزية تتعدد فيها الثقافات واللغات وتتعايش فيها العناصر والأعراق والأديان. هذا هو خلاصة طبيعة الدولة في دساتير السودان المختلفة ، تتغيرمن دولة "تحت الوصاية " ، الي دولة ديموقراطية ، الي دولة ديموقراطية اشتراكية ، الي دولة اتحادية "اسلامية"، الي دولة ديموقراطية لا مركزية ، أنها كلها مظاهر تخفي في طياتها حقيقة مؤداها أن السودان ، وان اختلفت مسميات حكمه وحكامه، ظل ، ولا يزال يرزح تحت ظل أنظمة ديكتاتورية قمعية عسكرية، تستخدم بهرج القول من المفاهيم السياسية السائدة ولا تطبق أي منها ، بل ولا تعمل بالدساتير القوانين التي وضعتها لنفسها ، ولا تلتزم بالعهود والمواثيق ، أيا كانت ،. والحقيقة الأمر من ذلك... أن السودان لايمتلك دستورا دائما بعد ، وأن حظه من الحكم ومن الحكام هو، هو... نظام :"ما أريكم الا ما أري"!؟. أليست هذه ظاهرة جديرة بالتحليل. من يصدق، في هذا القرن بالذات ، أن بلدا مثل السودان لا زال في طور المخاض الدستوري لأنه ببساطة لم يحدد كينونته بعد ، لا في طبيعة الحكم ، ولا في كيفية تداول السلطة ، ولا في احترام الدساتير والقوانين الموضوعة والسبب يكمن دائما في الحكام ، لأنهم هم الذين يفرضون علي الشعب "عنوة" شكل الحكم الذي يريدون. وعليه ، يمكن أن نخلص من هذا أن كل الأنظمة التي حكمت السودان انتهجت نهجا واحدا تقريبا في حكمها البلاد ، تمثل في : 1- فرض سياسة الأمر الواقع وترجيح الغلبة لقوة الحزب ومراعاة المصلحة الحزبية دون المصلحة القومية الشاملة. 2- عدم قدرة النظام الحاكم علي استيعاب مشكلة جد معقدة تتمثل في تلبية احتياجات وتطلعات شعب مكون من اعراق وديانات ولغات مختلفة اختلافا جذريا عن بعضها البعض ، تبحث كلها عن العيش علي أرضها حياة كريمة ومستقرة يسودها العدل الأمن والأمان ، والعدل والمساواة في ظل نظام حكم ثابت أو شبه ثابت يتم تداول السلطة فيه بشكل سلمي وديموقراطي وتكون الثروة للجميع دون استثناء. 3- عدم وجود دستور ثابت يكون بمثابة وثيقة عهد بين الحاكم والمحكومين ، يستوعب تعريفات واضحة لشكل الدولة وماهيتها والأهم من كل ذلك أن لا يتغير بتغير الحكام . 4- عدم وجود قوانين ثابتة وواضحة تتلائم وطبيعة المكون الديني والعرقي والثقافي للشعب . اذ بخلاف أحكام الشريعة الاسلامية التي تمثل المصدر الأساس القابل للتطبيق علي شعب يدين خمسة وسبعون في المائة منه علي الأقل بالاسلام ويلزم من هؤلاء ، حكاما كانوا أم محكومين أن يعتبروا بهذا المصدر ، شاءوا أم أبوا عند سن قوانينهم ، نجد أن المسألة تزداد تعقيدا بوجود ربع السكان الآخر(25%) يدين بمعتقدات ومذاهب أخري تستلزم مراعاتها عند وضع الدساتير وسن القوانين. الملة الدستور القانون النسبة % حالة الاختيار المهام للمسلمين القرآن اقامة العدل+اجراء أحكام الشريعة 75 (تقريبا) ملزم حفظ الشريعة وتنفيذ أحكامها لغير المسلمين علماني اقامة العدل+اجراء أحكام القانون الوضعي 25 (تقريبا) حر تطبيق الدستور وأحكام القانون الوضعي 5- اصرار الحزب الحاكم علي الانفراد بصياغة الدساتير والقوانين دون الرجوع الي القواعد الشعبية والحزبية الأخري– صاحبة المصلحة الحقيقية- أو أخذ رأيها أو حتي الاستعانة بخبراءها في المشاركة في صياغة تلك الدساتير والقوانين بتأن وحكمة وشوري ..وحيادية كاملة . 6- انتفاء النزاهة والحيادية والتجرد لدي النخب الحاكمة ، وعدم احترامهم للدساتير والقوانين ، ولا حتي للشرائع السماوية . 7- تستر الحزب الحاكم "بحصانات" جعلت منها "درعا واقيا " ضد الدستور والقانون وبذلك سهل مخالفتهما الأمر الذي اختل معه ميزان العدل الذي يفترض الا يستثني أحدا أبدا ... حتي ولو كانت "فاطمة" بنت محمد صلي الله عليه وسلم ، وبذلك تجاوزت صلاحية الحصانة قبة البرلمان لتصبح سيفا مصلطا علي رقاب الجميع ودائما ما يشيع الفساد من هنا ... وقد شاع ، بالرغم من أن لدينا حقيقة أزلية تقول :"والله لا يحب الفساد" . ندلل علي ذلك بمثل بسيط ورد في "قانون مكافحة الثراء الحرام و المشبوه لسنة 1989م"*2 نورده كما هو بالنص حتي تكون الصورة واضحة.... وبالقانون! "يُقصد بالثراء الحرام كل مال يتم الحصول عليه بأيٍ من الطرق الآتية: وهي: ( أ ) من المال العام بدون عوض أو بغبن فاحش أو بالمخالفة لأحكام القوانين أو القرارات التي تضبط سلوك العمل في الوظيفة العامة. (ب) إستغلال سلطة الوظيفة العامة، أو نفوذها بوجه ينحرف بها عن الأغراض المشروعة و المصالح العامة. (ج) الهدية المقدرة التي لا يقبلها العرف أو الوجدان السليم أو القرض لأي موظف عام من جانب أي شخص له أي مصلحة مرتبطة بالوظيفة العامة أو ممن يتعاملون معها." الفصل الرابع إقرارات الذمة تقديم إقرارات الذمة 9-(1) يجب على كل شخص من الأشخاص الآتي بيانهم أن يقدم للإدارة إقراراً بذمته و الأشخاص هم: (أ) رئيس المجلس و أعضائه و رئيس الوزراء و نائبه و الوزراء و وزراء الدولة، و أي شخص يشغل أي منصب بدرجة وزير للدولة و حكام الأقاليم و نوابهم و معتمد العاصمة القومية و نائبه و المفوضين و محافظي المديريات وأي شخص آخر يقرر المجلس إضافته (ب) رئيس القضاء و النائب العام و المراجع العام و رئيس هيئة الخدمة العامة و أعضائها و القضاة و المستشارين القانونيين بديوان النائب العام و المراجعين بديوان المراجع العام، (ج) شاغلي الوظائف القيادية العليا وفقاً للتفسير الممنوح لهذه الوظائف في قانون الخدمة العامة لسنة1973م، (د) ضباط قوات الشعب المسلحة والقوات النظامية الأخرى من ذوي الرتب التي يقررها المجلس لهذا الغرض، (ه) شاغلي أي وظائف عامة أخرى أو يقررها لهذا الغرض الوزير المختص أو حاكم الإقليم أو معتمد العاصمة القومية بحسب الحال بالتشاور مع النائب العام. (2) يجب أن يشمل إقرار الذمة المنصوص علية في البند(1) ذمة زوج المقر ما لم يكن ممن تشملهم أحكام البند المذكور كما يشمل كذلك أولاده القصر. هذا نموذج معتبر من قوانين السودان ، فمن طبقه من هؤلاء بحق الله؟ أين "الذمة " التي يتحدث عنها هذا القانون؟ .... وهل هناك "ذمة" أصلا !؟. أن ما نعيشه الآن هو نتاج طبيعي لسوء فهم الحكام وانانيتهم وجهلهم التام بأن هذا السودان هو دولة موجودة في هذه الدنيا منذ الآف السنين وأن مصدر قوتها يكمن في وحدتها ...هكذا. أما محاولة تجسيد كينونتها في شكل أشخاص بعينهم ، فان هذا أمر مناف للحقيقة والواقع ، ولا تعمل دول العالم المتحضر ولا حتي الجاهل بهذه المقاييس "الفجة" ، فأمريكا ليست "أوباما " وفرنسا ليست "ساركوزي" ، ....أن تضع الدولة في كفة وتساوي الكفة الأخري برجل واحد وترهن مصيرها بمصيره!؟.أي دولة هذه ؟ وماهو السؤال الاستنكاري الذي ذكره طيب الذكر...الطيب صالح (رحمه الله)..في هؤلاء ؟ ولتعزيز هذا الاستعراض العام ، لابد أن نلفت الانتباه الي أن شكل الدولة ظل يرواح مكانه لدي انظمة الحكم المتعاقبة وحسب توجهات الحكام وثقافاتهم الخاصة وتحديدا بين ملامح وارهاصات الدولة "اليموقراطية" "والاشتراكية" و"الاسلامية " الذي تمت تجربته في "قوانين سبتمبر" و"قوانين حكومة الانقاذ" ، وبين ملامح دولة "غامضة " ربما ستفرضها المعطيات الحالية علي الأرض وتحولها الي واقع في المستقبل المنظور، ذلك أن تجربتي الدولة "الاسلامية" السابقة والحالية قد فشلتا فشلا ذريعا ، اذ جعلتا من الاسلام يبدو وكأنه هو الذي يفرق بين الناس ويظلمهم ، وهو من كل هذا براء. عجبا... ألم يقل رسولنا الكريم صلي الله عليه وسلم :" من آذي ذميا فأنا خصيمه يوم القيامة"؟. فلماذا لم يطبق هؤلاء هذا الحديث منذ البداية وفيهم من الفقهاء والعلماء من يهدي الي سواء السبيل؟! عجبا... بل لماذا لا يهدي هؤلاء العلماء والفقهاء النجباء حكامهم ....سواء السبيل؟. ذكر في االحديث الشريف أن للحاكم بطانتان : بطانة تأمره بالمعروف وتحضه عليه وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه..... ليت لحكامنا ...بطانتان بدلا من تلك الواحدة التي لا تتغير. العفو نسأل كل من طاله الأذي من أهل هذا البلد من أصحاب الديانات الأخري ، فالاسلام يحفظ الحق لهم وانه في هذا العالم مسلمين من "الأعراب " حدثنا عنهم القرآن الكريم ، ينظرون اليه بشكل يجافي جوهره فتأتي أمورهم دائما بعكس ما يريده الاسلام ،. وبسبب هذا التعنت وعدم العدالة والغلو والجهل في التطبيق فقد باتت الفئة الأخري من الشعب والتي تمثل 25% تقريبا من غير المسلمين ترفع صوتها منادية بحكم علماني ، يحميها من هذا القهر الغير مبرر ويحفظ حقوقها ،ومن هنا أتت اتفاقية السلام الشامل لتستوعب هذا الخلاف وتعترف بحق الآخر، وفي هذا الاطار تحددت الملامح في دستور السودان الانتقالي لعام 2005. فهل حسم الخلاف ؟ ربما حسم الخلاف جزئيا ، ولكنه سرعان ما أتي بمشكلة أخري – قد تكون ظرفية ولكنها جديرة بالتوقف . اذ في مفاوضات "نيفاشا " تمحور التفاوض بين شريكين محددين لا ثالث لهما ، المؤتمر الوطني وينوب عن شعب السودان فيما يليه(؟؟!!) ، والحركة الشعبية لتحرير السودان ، وينوب عن شعب جنوب السودان وأيضا باقي أجزاء السودان الأخري (؟؟!!). كان الغرض من هذا التحديد – حسب نصوص الاتفاقية -هو حل نزاع مسلح بين طرفين متحاربين من بلد واحد علي أرض واحدة . وقد تم بشكل ما ، ولكنه سرعان ما ولد نزاعا آخر عند التطبيق ، لا زال قائما حتي الآن وهو الصراع علي "السلطة" و "الثروة" . ولأن الدستور الانتقالي لعام 2005 "مؤقت" ينتهي أجله بعد فترة زمنية محددة(2011) فقد رأي المشروعون الذين وضعوه أنه لا غضاضة من استخدام مصطلحي "قسمة السلطة والثروة" حسب النص العربي أو”Power Sharing” and “Wealth Sharing” حسب النص الانجليزي- وهو كما ذكرنا آنفا ،أن الاتفاقية نفسها حالة ظرفية واستثنائية بكل المقاييس تنتهي بانتهاء أجلها لأنه ، لا يعقل أن يصاغ أي دستور أي بلد في العالم تقسم فيه السلطة والثروة علي طرفين محددين دون باقي الشعب ، والحقيقة التي يجب أن توضح هنا هي أن هذا الخلط والتداخل في المصطلحات جعلت من طرفي الاتفاقية يظهران ويتصرفان كأنهما "حاصدا" غنائم لا أكثر ، يقتسمان سلطة وثروة بلد كامل النمو والهوية بمنتهي الأنانية والعنجهية بل وجعلا من نفسيهما أوصياء علي الجميع . هذا هو عين العوج وهذه هي نتيجته التي نعيشها الآن ، فكما قيل في المثل "اذا اختلف اللصان ظهر المسروق". والمسروق هنا واضح ، سلطة وثروة أمة تصبحان بسبب السياسة الرعناء رهنا للمصالح الشخصية والحزبية..... وحسابات الوطن تبدو في هذه المعادلة غير واردة علي الاطلاق ، بل وبعيدة المنال. ينتظر السودان حدثان مهمان ، ربما سيكونان المنعطف الحقيقي لمستقبله في الأيام القادمات ، الانتخابات ، وحق تقرير المصير للجنوب وكلاهما منغص بحق.. لأن الأمور تمضي بشكل غامض وبنفس نمط أصحاب "التركات" ، .فبالعودة الي منطق القوة يبدو أن المؤتمر الوطني يملك كل "الكروت تقريبا " مما سيرجح فوزه الساحق في الانتخابات ، وربما لن نسمع صوت الحركة الشعبية لتحرير السودان في هذه المعركة التي بدأت وستنتهي وهي غير متكافئة من الأساس ، علي الأقل،الي حين موعد تقرير المصير ، وهو الحدث الثاني الذي فشل الطرفان في جعله "جاذبا" حتي الآن . ماذا سيحدث بعدئذ؟ في حالة ما فاز المؤتمر الوطني في الانتخابات وفاز بالتركة "السودان " فسيكون لزاما عليه تنفيذ الاتي : 1- صياغة دستور جديد للبلاد يتلائم ومتطلبات "المرحلة "لأن دستور 2005 سيكون في "مزبلة التاريخ". 2- مراجعة واضافة وحذف ما يراه مناسبا من القوانين لمتطلبات " المرحلة ". 3- تشكيل حكومة "أزلية" علي كيفه ليس فيها "أغلبية " ولا " معارضة ". 4- اعادة ترويض الشعب السوداني من جديد كي يتقبل الواقع رغما عنه... فقط ، لأن الأمور تسير هكذا ... حسب رأي الحزب. 5- سيتقبل الشعب السوداني هذا الحكم ، رضي أم لم يرضي ، لأنه ...... ليس هناك بديل . 6- سيذكر التاريخ يوما أن بلدا اسمه " السودان " عاش ومات أهله علي هذا الكوكب ولم يشعر بهم أحدا. أين هذا الشعب الذي يرضي لنفسه أن يفعل فيه ما يفعل به الآن ؟. هل هناك خطب ما يمنعه أن يكون حاضرا ؟......هل هو جاهل الي الحد الذي لا يعرف فيه حقوقه ؟ أم هو راض بما هو جار ؟. أم ليس لديه قيمة "مضافة " يمنحها لهذا الكوكب؟ ليكن ...فالقيمة المضافة الوحيدة والحاضرة لهذا البلد تشهد عليها حضارة تركها لنا أجدادنا في الشمال ، فمن هذه البوابة كتب كل التاريخ ودخلت عبرها أعظم الديانات . الحمد لله الذي لنا ربا نعبده ونوحده ،ونتجه اليه ونلوذ برحمته ، بعيدا عن هذا الهراء . اللهم صلي وسلم وبارك علي نبيك المصطفي ... فقد نذر نفسه لهذه الأمة وبلغ ..ووفي ، وأكشف عنا وعن بلدنا هذا وسائر بلاد المسلمين هذه الغمة والحقنا بزمرته ..آمين هذا والله أعلم وهو من وراء القصد. الدمازين في 12/09/2009 محمد عبد المجيد أمين(عمر براق ) [email protected] *1- قوانين السودان