السودان شهد 6 آلاف معركة.. و17 ألف مدني فقدوا حياتهم    شاهد بالفيديو.. مذيعة تلفزيون السودان تبكي أمام والي الخرطوم "الرجل الذي صمد في حرب السودان ودافع عن مواطني ولايته"    مسيرات تابعة للجيش تستهدف محيط سلاح المدرعات    مصر: لا تخرجوا من المنزل إلا لضرورة    الملك سلمان يخضع لفحوصات طبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    واصل برنامجه الإعدادي بالمغرب.. منتخب الشباب يتدرب على فترتين وحماس كبير وسط اللاعبين    عصر اليوم بمدينة الملك فهد ..صقور الجديان وتنزانيا كلاكيت للمرة الثانية    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حاضرٌ رغم الغياب؛ عشرون عاماً على رحيل محمد عبد الحي .. بقلم: عمر جعفر السَّوْري
نشر في سودانيل يوم 11 - 09 - 2009

العبقرية الشعرية هي تجسيد للإنسان الحق، كما أن جسد أو مظهر ذلك
الإنسان منبثق من تلك العبقرية الشعرية ذاتها. (وليم بليك)
في مثل هذه الأيام منذ عشرين سنة رحل عبقري ما فتئ يلهم أعداداً متزايدة من الناس، مبدعين ودارسين وغاوين؛ يثير فيهم روح التأمل، و يحفزهم على الانطلاق إلى رحاب واسعة، ويطلق منهم و فيهم مكنونات قرائحهم، و دفين مشاعرهم وأحاسيسهم. بقي محمد عبد الحي، ذلك السامق الجميل، حاضراً في عصفِ الغيابِ ريحَ عطاءٍ متجددٍ كلما نظر المرء إلى عمل من أعماله، إلى قصيدة من درره، بل إلى بيت من شعره.
التقيت محمداً أول مرة في منزل كان يسكنه مع الصحافي جمال عبد الملك (ابن خلدون) في الخرطوم بحري. ففي ذات ليلة خريفية من أخريات ليالي الستينيات ترك ابن خلدون دار الرأي العام مبكراً، إذ لم يكن في الأفق ما يستدعي البقاء لملاحقة نبأ أو متابعة قصة صحافية بدأت في التدفق عبر المذياع أو المبرقة أو الراقمة. كانت ليلة راكدة خبرياً، مملة ناعسة. كنت عنده في المكتب، حينما بدأ كلانا يتثاءب ضجراً لا نُعاساً، فدعاني لمواصلة "الثرثرة"، في منزله، حول رواية لويس عوض "العنقاء: أو تاريخ حسن مفتاح"، و خصوصا الفصل الأخير منها. كان جمال يرى نفسه في فصولٍ من تلك الرواية، إذ انتمى في فترة من الفترات إلى الجماعات الماركسية المصرية؛ نشط في بعضها، وعرف أخرى، وتعاون مع غير واحدة، حتى قدومه إلى السودان. كانت تلك الرواية وأحداثها وظلالها وإشاراتها، وإنجيلها المقلوب محور أحاديث طويلة دارت بيني وبينه في أوقاتٍ مختلفة، كشف لي خلالها رموز أسماء وردت بين دفتي الكتاب، وفسر لي بعض ما جاء فيها من وقائع اختلطت بالخيال والسرد الروائي. لم أعرف وقتذاك انه شريك محمد في السكن حتى دلفنا إلى الدار.
رأيت محمداً راقداً في فناء البيت وعلى راحتيه كتاب تبينت فيما بعد انه ترجمة إنقليزية لرواية "موت مريح" لسيمون دوبفوار! صاحبة الفيلسوف الوجودي الفرنسي سارتر ورفيقته فكرياً وإنسانياً، وإحدى رائدات الحركة الأنثوية. في تلك الفترة أهتم كثير من "المثقفين" السودانيين بمتابعة الوجودية و كتّابها و أدبائها كما فعل نظراؤهم المشرقيين. كانت بيروت من روافد الترجمات العربية لذلك الفكر، لا سيما المكتوب بالفرنسية. إلا إن الخرطوم قد ذهبت أبعد من ذلك حينما أسس عدد من "المثقفين" تياراً وجودياُ نشيطاً، رغم صغر حجمه، نطقت باسمه مجلة "الوجود" التي لم تعمّر الا قليلاً، و احتجبت بعد صدور أعداد قليلة. لعل نقص التمويل، وضيق ذات اليد من بين عوامل التوقف. كان من ابرز وجوه ذلك التيار، بشير الطيب، الذي رأس تحرير المجلة، و المحامي كمال شانتير. حينذاك كان تلاقح الأفكار والتيارات وصراعها في السودان ثراً و متمدناً؛ و التسامح قائم على ترك الحكم للناس فيما يتلقون من معارف ومذاهب، وليس مرتكزا على قضبان الحديد والعصي الغليظة والعنف الغاشم الأهوج الأعمى، وإنزال العقوبات الجسدية بالرجال والنساء والأطفال، وقتلهم وإخفاء جثامينهم. كان للوضعية المنطقية – على سبيل المثال - أنصارها، و حتى البنيوية و كلود ليفي اشتراوس وجدا آنذاك من ينافح عنهما في محيط الصفوة.
كانت تلك من خصال محمد: القراءة في كل وقت، فان لم يكن كتاباً مطبوعاً، فتصفح عقول الآخرين و آرائهم؛ حتى حينما أصبح التلفاز آفة العالم، غنيه و فقيره، المتعلم منهم و الجاهل، يسرق وقتهم، و يصرفهم عما يميط العُصب عن العيون. خصلة القراءة تلك تعدي من يخالط محمداً وتسري فيه. فحين التقينا في دمشق صيف العام 1980 لم أشاهد وجه هذا الغول الكاسر حتى غادرنا هو وأسرته عائداً بعد شهر أو بعض شهر إلى السودان، فعدنا نحن سيرتنا الأولى، نصرف ساعات ثمينة فيما لا يجدي!
في تلك الليلة دار حديث تعارفٍ لمس سطوح مواضيع شتى. و محمد يسبر غور من يتعرف إليه لأول مرة بشفافية الشاعر المتبتل، و رؤية المعلم الحاذق، و نفس الكريم المعطاء.
كنت التقي محمداً في أوقات متباعدة، الا إنني قضيت معه وقتاً طويلاً في دمشق، اقتربت منه وحاورته من غير إلحاح. كنت اذكر له شيئاً بصورة عابرة دونما أبيّن له بأني متقصد ذلك. لكنه كان يدرك قصدي، فإما يسهب في الحديث أو يختصر. قبل لقائنا في جُلًقْ الشام، استضافني في منزله بالخرطوم في أواخر سبعينيات القرن المنصرم حيث أفرد لي مجلساً عامراً بالود والأدب والثقافة بكل ألوانها وأشكالها وحديثاً مستطرداً يؤمه شاعر العربية والسودان محمد المهدي مجذوب، ثم أعقب ذلك، في وقت متأخر من الليل، بمأدبة حافلة بما لذ وطاب صنعته أيدي زوجه ورفيقة دربه الدكتورة عائشة. كان ثلاثتنا في انتظار عبدالله على إبراهيم. لكنه لم يأت مضطرا، فقد لبث (تحت الأرض) يومذاك، إذ كانت العيون و العسس تقتفي أثره. لعل الطريق لم تك آمنة و سالكة له ذاك المساء. قبل أن أغادر الخرطوم حمّلني شاعرنا مخطوطة دراسة له عن قصيدة بدر شاكر السياب "أنشودة المطر"، كتبها في ذكرى انقضاء ربع قرن على نظمها.
طلب مني أن أحاول نشرها في سورية أو لبنان. اقترحت أن أقدمها إلى مجلة "المعرفة" السورية، وهي مجلة ثقافية شهرية راقية تصدرها وزارة الثقافة في سورية، كانت تذكرني بمجلة "الخرطوم" أيام مجدها. لقي اقتراحي قبولا لديه، بل ترك تقدير مكان النشر لي. حينما وصلت دمشق ذهبت على الفور إلى مقر المجلة في مبنى ملحق بالوزارة. استقبلني في مكتبه رئيس تحريرها يومذاك الصديق الأديب زكريا تامر. طلب فنجانين من القهوة. قلت له: زكريا، قبل أن نتحدث في أي شأن آخر، أود أن أخبرك بأنني قادم من الخرطوم و أحمل إليك منها هدية قيمة، هي دراسة للدكتور محمد عبد الحي لنشرها في "المعرفة"، و ناولته مظروفا يحوي ما كتبه محمد. أشعل زكريا لفافة اخرى من عقب سيجارته، فهي لا تفارق شفتيه الا وقت المنام. فتح المظروف وبدأ قراءة الدراسة. ظننته في البدء سيبدأ بتقليب أوراقها سريعاً أثناء زيارتي. الا انه أخذ يقرؤها، و مع كل صفحة يطويها كان يشعل لفافة اخرى و يرشف رشفة خفيفة من فنجان القهوة حتى آخر صفحة. لم يكلمني البتة أثناء القراءة ولم ينظر إلي. استغرق ذلك وقتاً طويلاً لم يكن في حسباني. حينما انتهى من القراءة نهض إلى مكتبه ورفع سماعة الهاتف وأمر من أجابه بالحضور فورا لأخذ مادة جديدة للعدد القادم الذي كان مقرراً صدوره بعد أيام. أخذت الدراسة طريقها إلى المطبعة مباشرة قبل أن نتبادل الأحاديث في شؤون وشجون شتى. ونشرت الدراسة في عدد ذلك الشهر.
بعدها بأشهر قليلة جاء محمد وأسرته إلى دمشق، وأتينا على ذكر دراسته فقلت له أنها نشرت في المعرفة ذات الشهر الذي تسلمتها منه وله أن يأخذ نسخاً من ذاك العدد من دار المجلة التي انتقلت حينذاك من مقرها قرب مبنى وزارة الثقافة إلى شارع فرعي من ساحة النجمة حيث ملتقى الأدباء والمثقفين في مقهى الاتوال (النجمة)، و كنت اختلف إليه. صحبت محمدًا إلى مقر المجلة ورجوته أن يصعد إلى مكاتبها وحده وسأنتظره في المقهى أو نلتقي في المنزل إذا ما طالت جلسته هناك. عرفت منه فيما بعد أنهم احتفوا به أيما احتفاء. أطالوا الجلوس إليه فلم يوافني في المقهى ولم انتظره سوى نصف ساعة ثم مضيت إلى موعد لي وانصرفت إلى شغل كان ينتظرني.
رغم مضي ساعات على تركه مقر "المعرفة" ، الا أن الدهشة ظلت ترتسم على وجهه حينما رأيته في البيت ذاك المساء. بادرني بالقول انه أمر غريب يحدث في هذه البلاد. لقد زودوه بنسخ من العدد الذي نشرت فبه دراسته وطلبوا منه قبل مغادرتهم أن يعرّج على محاسب المجلة ليتسلم المكافأة المقررة له واعتذروا منه لعدم إرسالها إليه قبل ذلك التاريخ لأنهم لا يعرفون له عنوانا وليس لديهم حسابه المصرفي في السودان. لم يكن محمد فرحاً بالقيمة المادية للمكافأة - إذ لم تكن في حسبانه - ولكن في القيمة المعنوية وفي التقدير الذي يلقاه العمل الفكري، وفي أن هذا التقدير المادي جاء بدون مطالبة، وأن انقضاء الشهور الطوال عليه لم تلغه أو "تشطبه من الدفاتر". قارن محمدٌ ذلك بما يجري في الصحافة السودانية. تدفق حديث ثر ممتع تلك الأمسية من جداول أحاديث محمد الرقراقة الجزلة.
كان بعض المثقفين والشعراء السوريين على دراية بجماعة الغابة والصحراء. فقد دار حديث استغرق وقتاً طويلاً عنها يوم احتفى الشاعر السوري علي الجندي بمحمدٍ. كان لقاؤهما حميماً وحاراً أطلق قريحة علي الجندي وتعليقاته الظريفة ودعاباته وسخريته الودودة. كان لون بشرة شاعرنا هو منطلق الحديث عن تلك الجماعة وشعرها، قبل أن نخوض في حال الشعر العربي الحديث، وحال العربية نفسها. تذكرت يومئذ أبياتاً للشاعر والتشكيلي الانقليزي وليم بليك فيها جرعة كبيرة من العنصرية، و تناقض واضح، يقول فيها:
لقد حبلت بي أمي في برية الجنوب
وأنا أسود اللون، آهٍ! لكن لي روحاً ناصعة البياض
أبيضٌ مثل ملاك ذلك الطفل الانقليزي.
غير أني أسودٌ، كأنما حرمتُ من نعمة الضياء.
كم يبدو محمد عبد الحي أكثر وضوحا وانسجاماً في قصيدته "العودة إلى سنار"، حينما يشير إلى ذات الامر!
انحصرت غالب الدراسات و المقالات والرسائل الأكاديمية التي تناولت هذا العبقري في عمله الكبير "العودة إلى سنار" الذي أعاد كتابته أكثر من مرة. ورأيت أنها أيضاً لم تشر إلى مغزى تلك الإعادة، أو بالأحرى تلك العودة إلى القصيدة منذ أن كتبها أول مرة إلى أن رحل. و بعضهم مر عليها مرور الكرام! يقول في نسخة منها:
عربي أنت؟ لا.
من بلاد الزنج ؟ لا
و لكن أبدل ذلك فيما بعد:
بدوي أنت؟ لا
من بلاد الزنج ؟ لا
خشي محمد من أن العبارة الأولى قد تضع معولاً هداماً في أيدي من يريد سوءاً – بغير وجه حق – بالثقافة العربية في السودان. ورغم ذلك حدث ما كان يخشاه و ينفر منه، رغم التعديل الذي أجراه، حينما استشهد بتلك الأبيات منصور خالد (طبعة الحركة الشعبية لتحرير السودان) إظهارا للعداء نحو الثقافة العربية في ربوع السودان وأنحائه. بئس ما فعل حينما وقف عند "لا تقربوا الصلاة".
لكن الكثيرين – إن لم يكن الجميع – أغفل نثر محمد الذي كتبه بالعربية والانقليزية، وتجاوزوا عمله الأكاديمي وجهوده الثقافية الموازية، مثلما عبروا فوق أعماله الإبداعية الأخرى. فقد خاض عبد الحي غمار النقد، كدراسته عن "أنشودة المطر" و التجاني يوسف بشير وغيرها. وله كراسة منشورة باللغة الانقليزية بعنوان "الشعر السوداني المعاصر" فيها نظرة عميقة نحو حركة الشعر في السودان. أهداني تلك الكراسة و ديوانه "السمندل يغني" حينما جاء إلى الفيحاء يستريح فيها قليلاً. لم أضن على أحد بكتاب أو مطبوعة من قبل ومن بعد، الا بتلك الكراسة، حتى غافلني أحدهم و أخذها. عدد من الطلاب السودانيين والعرب الذين كانوا يدرسون في قسم اللغة الانقليزية بكلية الآداب في جامعة دمشق استفاد منها في كتابة مشاريع وأوراق تخرجهم. كانوا يأتون إلى منزلي لقراءة الكراسة. لم يكن لأحد استعارتها البتة وإخراجها من المنزل! كذلك كتب محمد المسرحية. وحينما أراد أن يلج أبواب السياسة، فعل ذلك بأسلوبه الرفيع وعلى رؤوس الأشهاد، إذ نشر في الصحف رسالته إلى علي محمود حسنين التي يطلب فيها الانضمام إلى الحزب الوطني الاتحادي. أما ما فعله في وزارة الثقافة، فإنني أدعو غيري للكتابة عنه تفصيلاً، إذ لم أكن في السودان لأشهد بذلك.
كان محمد المعلم حاضراً دوما حينما يدعى إلى الدرس و التدريس. تلقيت ذات مساء هاتفاً من وردتين شاميتين من الورد الجوري الذي تشتهر به دمشق. هما شاميتان من قلب حي الميدان الدمشقي العريق. طلبتا أن أشرح لهما أبياتاً من الشعر الانقليزي، حيث ستجلسان لفحص التخرج في اليوم التالي، اعتذرت منهما لأنني في حضرة ضيوف كرام، الا أنهما ألحتا إلحاحاً لا يجدي معه اعتذار، ثم قلت كيف أفتي ومالك في المدينة. فسألته العون، فأجاب من غير تردد. كنت في تلك الأمسية صحبة محمد وأسرته و الشاعر السوري، نزيه أبي عفش، وأسرته. جاءت الجوريتان فجلس محمد يشرح لهما أبيات الشعر ويحدثهما عن الشاعر والمناسبة لساعة من الزمان. استأذنتا بالانصراف بعدها، و لكن قبل خروجهما قالتا أنهما استوعبتا "الأدب الانقليزي في هذه الساعة بمقدار ما درستاه في سنوات الجامعة الأربع!" كنت أصيخ السمع لشرح محمد، فأدركت أن التعليم عنده إبداع كما الشعر والأدب. فهل يكتب تلاميذه عن محمد عبد الحي المعلم؟
نزيه أبي عفش شاعر وتشكيلي وموسيقي ومتمرد من بلدة مرمريتا في جبال الساحل السوري. وهي بلدة تحدث أهلها عن الأمية كخرافة يوم كان المشرق يغط في نوم عميق. ارتحل سكانها إلى مشارق الأرض ومغاربها وهاجروا، لكنهم ما انفكوا يعودون إليها بما غنموا، وما كسبوا، يضعون فيها جنى العمر، حتى بدأت الهجرة بين أبنائها في الانحسار بينما تزايدت عند غيرهم. أبو عفش –وإن لم يكن معروفاً خارج بلاد الشام كما يجب – شاعر رائد يسبق غيره ويظل سبّاقاً في تجديده للشعر المعاصر من كل جوانبه لغة وموسيقى وغير ذلك.
التقيت محمداً للمرة الأخيرة في العام 1981 حينما توقفت لمدة يومين في لندن عند عودتي من أكابولكو بالمكسيك حيث انعقد الاجتماع الثاني لوكالات الأنباء العربية والاميركية اللاتينية، بعد اجتماعها الأول في دمشق. و كالعادة كان السودان غائباً عن كل تلك المؤتمرات و الاجتماعات. كنت احرص على أن التقي بعثمان وقيع الله في المرات المتباعدة التي ازور فيها عاصمة الإنقليز. يومذاك اتصلت به فأنبأني بان صديقنا الشاعر الكبير محمد عبد الحي في العاصمة البريطانية للعلاج رفقة زوجه ووالدته. طلبت منه أن يصطحبني إليهم لأعوده، وازور أسرته الكريمة. كنت أقيم – كعادتي – في كيو غاردنز في منزل صديق وزميل صحافي أميركي، هو شارلس قلاس، تربطني به وشائج مودة قديمة. وشارلي حاول أن يسبر - من خلال رحلة برية قام بها – أعماق ما وراء سايكس – بيكو، فكتب "قبائل ترفع أعلاماً: رحلة مبتورة من الاسكندرون إلى العقبة". الكتاب مرجع مهم لفهم ظلال وخطوط تقسيم المشرق. وقد انقطع خط رحلته تلك في بيروت عندما خُطف صحبة علي عادل عسيران، نجل رئيس البرلمان اللبناني الأسبق، ثم أطلق سراحه من الأسر بعد عشرة أسابيع، أما السياسي اللبناني فقد خُلي سبيله بعد أيام ثلاثة!
ألح التشكيلي المبدع عثمان وقيع الله أن يصحبني من كيوغاردنز، رغم بعد المسافة، إلى حيث يقيم محمد عبد الحي. ولم أتمنع كثيرا، إذ عرفت إن تنقلنا من قطار إلى حافلة حتى نصل هناك سيمتعني بطلاوة حديثه وروائع حكاياته ورواياته. و كان كما حسبت. كان عثمان من جيل أبي و لكنه أبى إلا أن يأتي ليصحبني بدلا من أن نلتقي عند شاعرنا الكبير.
تردني في هذه الذكرى أبيات للشاعر الانقليزي أدوين موير في قصيدته "إبراهيم"، فهو قد رحل غرير العين، رغم إن الوعد لم يتحقق بعد، و لم يقترب من دار أبيه في أرض كنعان البعيدة:
لقد جاء، و استراح، و أصاب نجاحاً و ازدهاراً، ومضى
مخلفاً وراءه ممالكَ رعاةٍ صغيرةٍ مبعثرةً هنا و هناك
و فوق كل مملكة سماؤها المميزة.
تلك السماوات لا تشبه السماء الكاملة العظيمة التي سافر عبرها.
و التي ارتحلت معه، لكنها تغيرت لما استراح.
فاض ذهنه بالأسماء
التي تعلمها من غرباء يتكلمون ألسنة غريبة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.