الهلال يرفض السقوط.. والنصر يخدش كبرياء البطل    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الجيش ينفذ عمليات إنزال جوي للإمدادات العسكرية بالفاشر    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالفيديو.. تاجر خشب سوداني يرمي أموال "طائلة" من النقطة على الفنانة مرورة الدولية وهو "متربع" على "كرسي" جوار المسرح وساخرون: (دا الكلام الجاب لينا الحرب والضرب وبيوت تنخرب)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    عصار تكرم عصام الدحيش بمهرجان كبير عصر الغد    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الخرطوم قبل وبعد 30 يونيو 1989: (6) .. بقلم: د.عصام محجوب الماحي
نشر في سودانيل يوم 01 - 08 - 2013


الخرطوم قبل وبعد 30 يونيو 1989 (الحلقة السادسة):
لماذا طلب الميرغني لقاءا "تيت آ تيت" مع رئيس الاستخبارات العسكرية؟!
ما هي السيناريوهات التي وضعها الفريق يوسف أ. يوسف لإفشال الانقلاب؟
بقلم: د. عصام محجوب الماحي
[email protected]
أواصل اليوم، حلقات:... الخرطوم قبل وبعد 30 يونيو 1989، التي تكشف أسرار حوارات أجريتها ومقالات تحليلية كتبتها، خلال الفترة التي سبقت انقلاب 30 يونيو 89 وبعده مباشرة. استعرضنا فيما سبق من حلقات، اجتماع التنوير الذي عقد في (الجنينة) وجمع وزير الدفاع مبارك عثمان رحمة ومعه هيئة قيادة قوات الشعب المسلحة وعلى رأسها القائد العام الفريق أول فتحي أحمد علي من جانب، ومن الأخر السيد محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي وبصحبته السادة محمد الحسن عبد الله يسن ووزير الخارجية سيد أحمد الحسين والفريق يوسف أحمد يوسف وكان هنالك المرافق الخاص للميرغني الجنرال أمين عثمان، وحضرته بطلب من الميرغني لتدوين وقائعه.
انتهى الاجتماع وقد نجح أمين عثمان في توصيل طلب من الميرغني لرئيس الاستخبارات العسكرية اللواء صلاح مصطفى ليزوره لوحده بالمنزل مساءا. فما هي خلفية كل ذلك؟ وعلى ماذا استند صاحب الفكرة، بل من هو صاحبها؟ كل ذلك سنتابعه في هذه الحلقة،،،
****
برغم انه لم يخبرني بكل الحكاية، كان واضحا ان الفريق يوسف الذي ظل صامتا ولم يتحدث مطلقا في لقاء الجنينة، هو صاحب فكرة دعوة رئيس الاستخبارات العسكرية اللواء صلاح مصطفى للقاء منفرد مع الميرغني. ويبدو انه آثر الصمت وعدم التحدث داخل اجتماع الجنينة حتى لا يترك احتمالا ولو ضئيلا ليساء فهم حديثه أو استفساراته حول كيفية مواجهة التحركات الانقلابية التي كانت تَجْرِي داخل الجيش وتداعياتها، ولذلك قرر الفريق يوسف ان يوعز للميرغني ليطلب لقاءا منفردا مع رئيس الاستخبارات العسكرية، وتلك كانت اللحظة التي اخترق فيها بنظرته سيد أحمد الحسين لينظر ابعد منه وينفذ للميرغني، ولم يفعل ذلك مرة واحدة، وانما اثنتين على الأقل، ولا شك انه تبادل معه بالنظرات، ما يعني ان لديه ما يريد ان يطلعه به.
وما ان انتهى الاجتماع، وربما بِصَمْتِه المستمر ساهم نوعا ما في إنهائه مبكرا، حتى توجه الفريق يوسف مسرعا نحو الميرغني وفي اقل من ثانية همس له بضرورة توصيل رسالة للواء صلاح مصطفى، ولم يستفسر الميرغني منه لماذا وأين ومتى، فهو في مثل هكذا حالات سريع الاستجابة، خاصة للذين يثق فيهم. لم أدر ولم ألحظ كيف كلف الميرغني الجنرال أمين عثمان بالمهمة، ولكنني فجأة لمحت صديقي الجنرال مسرعا حتى لحق باللواء صلاح مصطفي في اللحظة التي كان يَهِم فيها ركوب السيارة، وبعد حديث قصير جدا عاد مبتسما.
الشاهد ان الفريق يوسف كان يعيش حالة قلق مزدوج، فهو يعرف، بحكم مهنته السابقة التي من الصعوبة الخروج من محدداتها حتى بعد تركها، وبحكم تجربته أيضا يعرف الكثير عن الانقلابات العسكرية، وهو في نفس الوقت يقف متحسسا موقفة ووضعه أمام زملائه وهم كبار قادة جيش، كان هو قائده في يوم ما. ووفقا لتقييمه الخاص، اختار أفضل معالجة، فقرر ان يبذل المعلومات والأفكار التي تدور في رأسه عن طريق طرف قادر على توصيل الرسالة.
فما ان غادر الضيوف الجنينة حتى جلس الفريق يوسف إلى الميرغني ومعهما أمين عثمان، في حديث ثلاثي لم يقطعه أي احد ولم يشوش عليهم أي فرد، ولم أعلم ما دار بينهما من حديث استغرق فيما أظن نصف ساعة تزيد أو تنقص قليلا، فقد كنت نفسي أسابق الزمن.
صعدت الدرج منتقلا إلى صالة المكاتب وجلست على مكتبي وأمسكت القلم لأدون ما أحتاجه من معلومات وحديث استمعت إليه قبل وقت قصير. كنت حقيقة أسابق الزمن، وأخشى ان يطل عَلَيَّ من يطلب مني الذهاب إلى الميرغني، وبين يدي ما اعتبرته كنزا، فكيف أفرط فيه دون ان آخذ منه ولو القليل. فككت شفرة الخطوط العريضة للرسومات الهيروغليفية ثم تركتها جانبا وبدأت بالأسهل، ان أنقل نقل مسطرة بدءا بالأهم فالمهم في نظري، حتى لا يحدث ما أخشاه، وقد حدث بالفعل وتم استدعائي فهبطت الدرج مرة أخرى، وهنالك وجدت الميرغني وأمين عثمان وسألني الأخير عن دفتر سميته "الكنز" دون ان أوفي بحق "السماية". ابتسمت وقلت محاولا التسويف لتأجيل التسليم: محفوظ في درج المكتب. فتدخل الميرغني الذي كان متجها إلى باب الخروج من الصالون وحسم الأمر بقوله لأحدهم: أذهب معه لمكتبه وأحضر منه الدفتر.
أخخخخ.. لماذا لم يطلب من أمين عثمان ان يقوم بعملية الاستلام؟ كنت انتظر ذلك وقد جهزت نفسي للفوز بأريحية الجنرال ليجد لِيَّ مخرجا ويترك الدفتر معي أو يمنحني مزيدا من الوقت، ولكنها أحيانا تصاريف ليس لنا حيلة أمامها، "ما تخشاه يحدث وما تأمل فيه لا يحدث" عندما يكونان، الخشية والأمل، متعلقان بنفس الشيء، فلماذا لا يحدث نصف ما تخشاه أو أكثر مثلا وبعض ما تأمل فيه. انتهى الأمر إلى ما أمر به وأراده السيد محمد عثمان، ومع ذلك بقيت في المكتب وقلت لنفسي: حسنا... وقد صار ما صار، فما عليك يا بطل إلاَّ الجلوس وكتابة موضوعك للمجلة، فغدا لن يسابقك الزمن لوحده وإنما سيطاردك ومعه سكرتير التحرير قسم السيد الطيب، الذي كثيرا ما هدأت ثورته على تأخير مادتك لما يربطك، أو بالأصح يربط والدك محجوب الماحي، من علاقة مع الباقر أحمد عبد الله وقرينته ابتسام عفان المدير العام للمجلة. ابتسمت عندما تذكرت انه فوق ذلك، لِيَّ كما لجميع العاملين في المجلة، تقدير واحترام من قبل رئيس التحرير الأستاذ الكبير قيلي احمد عمر، قَلَّ ان يجود بمثله شخص أخر. وكنت أقول مع كل "وَرْطَة" يُخَارِجْنَا منها ومن ثورة الباقر: إذا كان "ملحوس" عسل يجب ان لا تلحسه كله! كان الأستاذ قيلي صاحب الصفحة الأخيرة بالمجلة وترويستها "ملحوس"، لا يرفض لنا طلبا ويؤيد مواقفنا ويتبنى اخطاؤنا ويتحمل مسؤليتها وكأنها اخطاءه. وعطفا على ذلك، ربما لاحظ وهو اللمَّاح جدا جدا جدا، تعامل حبيبته وابنته ابتسام معي. يا لحظ كل من عمل مع قيلي، وجالس قيلي، وتحدث مع قيلي وتعلم من حديث وحِكَم قيلي وصقل قلمه من تجربة أستاذ الاجيال قيلي أحمد عمر الذي لم تُزعج خطواته الارض التي مشى عليها، فقد مشى بالخير وبالصدق وبالصراحة في موضع كل منها، وبالحق والحقيقة في لحظتهما، فلم يتأخر عنهما منتظرا أخرين ان يفتحوا له الطريق فكان مقداما في التقدم، سَلَّ قلمه مبارزا، ووزع العفو والتسامح لمن وقف في الجانب الاخر، واكتفى بالكنز الذي لا يفنى، وفاءا لدروس وحكمة القناعة.
بعد ان أُخِذَ مني الدفتر، صار لدي فائضا من الزمن الذي كنت قبل قليل أسابقه. جلست على مكتبي ووضعت الخطوط العريضة لمقالي التحليلي لمجلة (الأشقاء) "لأحبره" في صورته النهائية في المنزل، بعد ان إتضخت لي الكثير من المسائل ووضحت أمامي اللوحة، أو قل زالت عنها بعض عناصر التضليل التي تعمد البعض وضعها بجانبها في ذات حائط "الجاليري" ليصعب على الناس تفسير اللوحة، وتختلط عليهم الأشياء والمسميات، فيرتبكون لِيَسْهَل "ركوبهم" جسرا للعبور أو سلما للصعود.
انتهيت من كتابة المقال وبقيت في مكاني حائرا بعد ان وضعت له عنوان: انقلاب للبيع...! بدأت أقرا ما نقلته من الدفتر الذي أُخِذَ مني، وأدَوِّن معلومات اضافية لم أسجلها من الحديث الذي استمعت إليه قبل وقت قصير، محاولا رسم الصورة بأكملها، متمنيا ان لا أجبر على مغادرة المكان قبل الانتهاء من مهمتي. فهل هنالك من أمر بان أترك في حالي؟ الله أعلم، بيد انه عندما نزلت الدرج لم أجد غير الشخص المكلف باغلاق المكاتب، وغادرت الجنينة من نفس البوابة التي وجدتها مغلقة ومجنزرة أيضا عند خروجي، كما كانت عند دخولي، ففتح لِيَّ من يعرفني لأخرج، فشكرته وذهبت.
لم ألِمّ في نفس اليوم بتفاصيل الزيارة الخاصة التي تمت بمنزل الميرغني بين أربعة عيون، غير انني أرجح ان آمين عثمان حضرها وشارك في توصيل رسالة الميرغني للواء صلاح، غالبا دون الاشارة للفريق يوسف، وحتى صديقي الجنرال نفسه لم يخبرني بذلك ولكنني، وب "السليقة كدا"، كما يقول سيد أحمد حسين، لا أخمن وانما أُجزم انه شارك في الاجتماع الثنائي فأصبح ثلاثيا، منطلقا من ان جلوس الثلاثي "الميرغني _ يوسف _ أمين" لنصف ساعة بعد اجتماع الجنينة، كان الغرض منه وضع سيناريو للقاء الميرغني واللواء صلاح مصطفى "تيت آ تيت" وجها لوجه. ولا أشك مطلقا ان اللقاء كان ثنائيا برغم مشاركة الجنرال، وذلك جَزْم سيفهمه كل حسب هواه! فالإتفاق أو الإختلاف مع أي شخص لا يفسد للانضباط قضية. فتأمل روعة الانضباط.
وعليه، ومع ذلك الجَزْم، يبقى السؤال: كيف علمت باللقاء، وبما دار فيه، وماذا كان الهدف منه؟ باختصار، مع حسرة وزفرة حرى، علمت به صباح يوم 30 يونيو 89، يوم ان وقع الفأس في الرأس.
الشاهد ان اللواء صلاح مصطفي رئيس الاستخبارات العسكرية عاد مساء نفس يوم الأحد 25 يونيو 1989 لابسا جلابية وعمة و"مركوب"، يقود عربته بنفسه، للقاء أخر مع الميرغني بداره الكائنة في الخرطوم 2، وليس في الجنينة. وأيضا "بالسليقة كدا"، يبدو انَّ طلب عقد لقاء ثاني "تيت آ تيت" مع رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية لا مفر من ان يُفْهَم منه، كهدف، العمل على تفادي حدوث انقلاب أو إفشال الحركة الانقلابية التي تَجْرِي استعداداتها على أكثر من قدم وأكثر من ساق. وبما ان الانقلاب حدث، فماذا يمكن ان نطْلِق على اجتماع الخرطوم 2، وبِمَ تصفه؟ فهل كان الاجتماع الذي لم يتمخض عن شيء؟ وهل صار اجتماعا تاريخيا لم يغير مجرى التاريخ، وكان مفترضا فيه ذلك؟ ولماذا؟ إنها أسئلة، تطرح لا للعبرة ولا لزيادة الاسئلة الحائرة، ولا لفتح ملفات.. اذن لماذا؟ ليست لدي اجابة! ومع ذلك أطلب إنزال الأصابع التي ارتفعت بعد 30 يونيو 89 تشير للواء صلاح مصطفى باجترار ذات تلك الاسئلة السابقة ومترادفاتها، فالرجل وبحسب معلوماتي، لم يتواطأ مع الانقلابيين، هذه واحدة، والثانية ربما استفاد الانقلابييون من بعض تقديراته والتي ربما أفشلها له آخرين أو لنقل لم تكن هي نفسها صائبة، ولكنها تبقى في آخر الأمر تقديرات الجالس على مِقْوَّد قيادة وليس مُسَاعِدا "كوبايلوت"، قريبا أو بعيدا قد يكون ساهم في رسمها. والثالثة ربما دخل اللواء صلاح في "سراديب المتاهة"، لا أقول مغمض العينين فالذي في مثل حالته لا يغمضهما البتة حتى وهو نائم، وإنما وجد نفسه وهو يتابع خيطا ما داخل "سرداب المتاهة" فاخذ منه البحث عن مخرج وقتا وطاقة ومزيدا من "الربكة"، وتلك في حالة جرى استدراجه لسرداب المتاهة، ما يمكن ان يؤاخذ عليها في ظل تمتعه بحسن النية والطوية. ومع ذلك، فان ثبت يوما ما انني أخطأت في تقييمي، فلن يتبقى والأمر بِرُمَتِه قد قضى ومر عليه حوالي ربع قرن من الزمان، إلا الاكتفاء بلعن مصدر معلوماتي وليس ناقلها فمصادر التشويش والتضليل حينها كانت على قفا من يشيل. وعندها يحق لِيَّ طلب أجر المجتهد، وهو لو تعلمون كثير.
المهم في الأمر، لنقفز أيام قليلة للأمام من مساء الأحد إلى صباح الجمعة، حيث "وقع الفاس في الراس". يومها فقط علمت ان الفريق يوسف قد لاحظ خلال اجتماع التنوير، ان "الاستاند باي" أي حالة الاستعداد في الجيش، ليست 100%، وعندما جلس للميرغني، ومعهما أمين عثمان، ربما يكون قد قال: ليس هنالك وقتا لمتابعة خيوط انقلاب يبدو، بل من المؤكد، انه دخل مرحلة العد التنازلي وربما الانقلابيين الآن عند الرقم (3) او (2) وأخشى ان تكون تبقت لهم إعلان "ساعة الصفر"، والمطلوب الان، وأكرر الان قبل فوات الأوان، إعلان حالة استعداد 100%، وفي هذه الحالة ربما لن يكون هنالك مفر من ان يُقَابَل الانقلاب عندما يخرج معلنا عن نفسه، وهو أمر اعرف انه صعب على رجال القوات المسلحة ويضطرون إليه اضطرارا إذا استطاع الطرف المُتَآمِر الخروج ولكن دعونا نأمل ألاَّ يفعل. إذن المطلوب إعلان حالة استعداد 100% حتى يتم، إما ردع الانقلاب فلا يتحرك ليستمر البحث عن خيوطه، أو تُفَشِّل له فرصة استغلال حالة السيولة والاسترخاء في انتظار "حركة المذكرة" التي قد يركبها الانقلابيين. وفوق ذلك فان الخطوة التالية لدرء خطر الانقلاب، يجب ان تتأسس على جمع الحقائق المجردة عن الحركة التي لا زالت تجري وعن الحركتين اللتين تحدثوا عنهما، وتقديم كل ذلك أمام كبار الضباط بالصراحة والوضوح حتى لا ينخدع من يمتلك نصف حقيقة، وتلك نفسها مغلفة بغرضِ مَنْ أوصلها له. وهنالك خطوة ثالثة سيكون الحديث حولها حاليا ترف ما بعده ترف (يوم الأحد 25 يونيو 1989)، ولنتركها بعد الخروج من "الزنقة" التي نحن فيها الان!
أعدت في ذهني مشهد ذلك اليوم وحديث لم اسمعه، وبدأت أتساءل: هل قال الفريق يوسف "نحن"؟ ومن يقصد بها، ولماذا لم يقل "الجميع"؟ وهل اذا ذهبنا في البحث عن من هم "نحن"، منطلقين من ان الميرغني قال لهيئة القيادة بكل الوضوح ان أي انقلاب يحدث سيكون وراؤه جهة سياسية، هل نستطيع ان نفهم لماذا لم يقل الفريق يوسف "الجميع"؟ إذن، البعض خارج "الزنقة" بل انهم "زانقين" وليسوا "مزنوقين"، وبالتالي يصح ان ينخفض السقف من "الجميع" الى "نحن"، ويبقى الامل ان لا ينخفض كثيرا فيصعب البقاء تحته، ولا اعتقد ذلك طاما ان "الزانقين" هم الانقلابيين، وكل انقلابيين يجب ان يكونوا أقلية عندما تكون وراءهما جهة سياسية، وإلاَّ لِمَ الانقلاب في ظل توفر الصعود للسلطة بادوات الديمقرطية التي ننتظرها بفارغ الصبر في منتصف العام القادم 1990؟! أيكون أصحاب الانقلاب هم الذين اقتنعوا بانهم لا محالة سيخسرون انتخابات منتصف 1990؟ سؤال بريء، فليست الجبهة الإسلامية القومية وحدها التي كانت تُحَمِدها الخسارة! أيكون أول انقلاب شراكة، انفرد به واحد وترك الأخر "دايش" لا يستقر له مقام بين تهتدون وتفلحون ولا تستحون سعيا بين الملازمين والقصر (فيا) جامع الخليفة؟
لا أشك ان ما أراد الفريق يوسف توصيله لرئيس الاستخبارات العسكرية وبالتالي لهيئة القيادة العامة للقوات المسلحة، قام بتوصيله وبالطريقة الصحيحة، وأجزم ان الاجتماع الثنائي "الميرغني_اللواء صلاح" أصبح ثلاثيا بمشاركة صديقي الجنرال أمين عثمان ليقدم أمام اللواء صلاح الحديث الذي جرى الاتفاق حوله بين الميرغني والفريق يوسف في حضور ومشاركة الجنرال، علما بانه ضباط سابق بالقوات المسلحة، ولم يأت اللقب الذي أطلقناه عليه من فراغ. ومع ذلك، حدث الانقلاب، ولم يجد مقاومة، والشيء الثالث الدي توقعه الفريق يوسف وأراد إفشاله أو سحب البساط من تحت الذي يمشي عليه "لِيَتْشَنْقَلْ"، حدث بالفعل في اتجاه "كلما تخشاه لا تنفد منه"، فقد ركب الانقلابييون مذكرة القيادة. المُثير والمُلفِت للانتباه ان أول سؤال حاول الفريق يوسف البحث عن إجابة سريعة له صباح يوم الجمعة 30 يونيو 89، وكنت معه برفقة الاستاذ ادريس حسن، هو: أين اعتقلت هيئة القيادة العامة للقوات المسلحة؟ الإجابة على السؤال كانت كفيلة لتحدد وتكشف له العديد من المعلومات وصحتها. فهل اعتقل كل منهم في منزله أم في مكتبه، أم في مكان أخر اقرب لمنزل منه لمكتب؟
****
.... والى الحلقة القادمة لنقرأ معا موضوع غلاف مجلة (الأشقاء) الصادرة يوم 27 يونيو 89 تحت عنوان: انقلاب للبيع...! لنبدأ بعهده قراءة حوار مع المرحوم الاستاذ احمد عثمان المكي وأخر مع السيد علي عثمان محمد طه، وبالأخص الجزء الذي لم ينشر من قبل، ومنه أمسكت بالمُحَاوِر عبارة: شيوخ الجبهة يحبذون بعض السلطة اليوم وشبابها يريدون كل السلطة غداً. فماذا كان رد فعل الشيخ الترابي على تلك العبارة وعلى مقدمة الحوار؟ نواصل الخميس القادم....


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.