بسم الله الرحمن الرحيم مسائل فكرية 3 [email protected] ختمنا المقال السابق بتساؤل عن موقف أصحاب الطرق الصوفية من المستعمر ، قبل ثورة الإمام المهدى ، برغم الفساد المستشرى والظلم الطاغى والاستنزاف الكامل لموارد البلاد. المعروف أنّ الكثير من شيوخ الطرق الصوفية حاربوا فى صفوف الإمام المهدى وكثير منهم استشهد ، برغم تحفّظ بعضهم على مهديته ، ولكنّهم لربما رأوا فيه قائداً ناجحاً وفرصة سانحة لمحاربة المستعمر. الوحيد منهم الذى سعى لإحداث نوعٍ من الثورة كان أستاذه محمد شريف نور الدائم ، الذى فكّر فى التحدّث لجمع من شيوخ المتصوّفة لتوحيد صفوفهم لإنشاء دولة بديلة للدولة الخديويّة الظالمة تتبع روحياً للخلافة العثمانية ، ولكن شقيقه عبدالمحمود نهاه عن ذلك "لأنّها جرى وراء السلطة". ولربما واتت الإمام المهدى فكرة التغيير والثورة من أستاذه ، ولكن عاب عليه تقاعسه عن تحقيق فكرته ، أو أنّه لم يظن أنّ دعوة أستاذه كانت كاملة الثورية وقد ذكرت مصادر التاريخ اختلافه معه فى أمر ختان أو زواج أبنائه معترضاً عن البذخ الذى يعارض فكرة الزهد قلب الصوفية. وعندما أعلن الإمام المهدى مهديته عارضه وهجاه أستاذه بقصيدة مشهورة أكثرها مدح: "وكم بوضوء الليل كبّر للضحى إلى الله ما زالت مدامعه تجري" ممّا ينبى باختلاط مشاعره تجاه تلميذه الذى كان يأمل فيه الكثير أو أيضاً يدلّ على ورعه فى الشهادة بالحق لخصمه أو أنّه كان يرى ما لا يرى الإمام المهدى وأنّ تقيّمه لمهدية تلميذه كان صحيحاً ، فاعترض عليها ولكنّه لم ينقصه حقّه فى صفاته الشخصيّة: فقال أنا المهدىّ قلت له استقم فهذا مقام فى الطريق لمن يدرى". وقد تكون للغيرة يد فى العلاقة بينهما إذ أنّ المهدى حظى باهتمام المريدين لشدّة إخلاصه وورعه أو أنّ المهدى الذى كان يرى الأشياء إمّا بيضاء أو سوداء ، لم يرض بأىّ شىء يمكن أن يخسر مكانة أستاذه ومنها قربه من السلطة أو بعض لمم السلوك. وفى رواية أنّ حفل الختان الذى أقامه محمد شريف نورالدائم كان لإظهار القوّة تمهيداً لإعلان ثورته فعاب عليه المهدى الإسراف فى المظهر فاتّخذ الأستاذ الانتقاد ذريعة للتّخلّص من المهدى. ونحن عندما نقلّب الفكر فى طبيعة العلاقة بين الإمام المهدى وأستاذه نرى تشابهاً فى نوع الفكر فكلاهما لم يقبل بواقع المسلمين وطغيان خديوى مصر وكلاهما فكّر فى الثورة عليه ولكنّهما اختلفا فى المنهج. الأستاذ رأى أنّ مهدية المهدى مشكوك فيها وأنّ ثورته ستضعف الخلافة العثمانية لصالح النصارى ، أو لربما أراد أن يعلن نفسه المهدى المنتظر والإمام المهدى سبقه عليها، والتلميذ اتّخذ الثورة الشاملة منهجاً فأعلن كفر الأتراك وأوجب قتالهم. الأستاذ لم يخلط بين أوراق الأتراك فى اسطنبول الذين مثّلوا له الخلافة الاسلامية وبين مماليك مصر الطغاة الذين كانت أحلامهم توسّعية لإقامة دولة حديثة شبيهة بالأوربيّة ، والتلميذ لم ير إلا عدوّاً واحداً. ويبدو أنّ الإمام المهدى كان يأمل أن يحافظ شيخه على روح الطريقة التى علّمه إيّاها وأن يقوم بثورته ويعلن مهديته ، فلمّا أحسّ به ركوناً إلى الدنيا ، من علاقة بالسلطة وإسراف فى الاحتفال، إذا صحّت الرواية ، انتقده وفارقه فلزم شيخاً آخر حتى سُلِّك فى الطريقة ثمّ اعتزل فى جزيزة أبا ثمّ مؤخّراً تبنّى مهدية أستاذه وأعلنها فهجاه الأستاذ. المعروف أنّ الخلاف بين الأستاذ وتلميذه سبق إعلان المهدى لمهديته ممّا يثبت تشابه التفكير والشخصية بين الأستاذ وتلميذه والتشابه يؤدّى للتنافس وإظهار الاختلاف لا الائتلاف. وقد رأى الإمام المهدى ، اثناء سياحته ، ما رأى من أسباب الفساد السياسى وتشرذم الطرق الصوفية واختلاط الممارسة الدينية عند العامة بالعادات السيئة فزاده ذلك عزماً على تغيير الوضع. التفسير لهذا الاختلاف المنهجى لا يرجع إلى عدم قدرتهما على التفكير المجرّد ولكن إلى اختلافهما فى استخدام أنواعٍ أخرى من التفكير. فالتفكير المجرّد ينقسم إلى قسمين الأوّل هو التأمّلى والثانى هو التّذكّرى. التّأمّلى أعلى درجة من التّذكّرى. فالتّأملّى يقلّب الأشياء بعين الواقع والحاضر ويحلّلها ليزن مصلحتها مع ضررها وملحقاتهما وأثرهما المستقبلى. وأيضاً يبحث عن الحل من خلال معطيات الواقع ويتّبع سياسة النّفس الطويل والحكمة محكّماً العقل أكثر من العاطفة. واتّخاذ هذا المنهج تكون الثوريّة هادئة وفعّالة فى المدى البعيد ولكنّها لا ترمى ثماراً فى المدى البعيد. ومن الواضح أنّ محمد شريف نور الدائم كان يفضّل هذا الفكر التّأمّلى ويميل إليه وبه يستطيع المرء أن يرى فى الأشياء ألوانها الرماديّة ويصبر عليها ويتحمّلها حتى يحين الوقت لتغييرها ، وهذا مردّه كبر السنّ والتجربة ممّا يورث الحكمة أو كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلّم: "لا حليم إلا ذو عثرة ولا حكيم إلا ذو تجربة". والقرآن الكريم ضرب مثلاً لهذا النوع من التفكير ووضع أسسه فكان المنهج المتّبع لتغيير المجتمع وذلك بتغليب عمل الفكر قبل الأمر بالعمل والدعوة للتّدبّر وأوضح مثال لذلك طريقة تحريم الخمر. فالمولى عزّ وجلّ أدرى بضعف عباده وأدرى بالصفة الإدمانيّة للخمر والميسر فلم يأمر بالنهى عنهما دفعة واحدة ، ولكنّه تعالى أجاب على سؤال بطريقة التحليل المعرفى الذى يعتمد على التفكير التّأمّلى فقط فبيّن المضار وبيّن المنافع وغلّب الضرر على المنفعة. ثمّ اتّجه بعد مدّة من الزّمن للتغيير السلوكى ، بعد أن تعوّد النّاس على طريقة حياة جديدة ، فأمرهم بعدم الصلاة وهم سكارى وعلّله بتعليل معرفى: "حَتىّ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ". ثمّ كانت المرحلة الأخير بالنهى عن شرب الخمر ولكن ذلك دُعم أيضاً بالتفكير المعرفى: " إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ؟"، فهذا تفكير تأمّلى لا يغفل الواقع ويعمل للتغيير الأمثل فى المستقبل بهدوء الحكمة والله هو العليم الحكيم. بينما التفكير التذكّرى يعتمد ، عند صغر السن ، على ما سبق من تجارب عامّة لقلّة الخبرة والتجربة أو المهارة فى حلّ المشاكل أو التجارب ، وهو التفكير المفضّل لكبيرى السّن أو من هو فى حالة عجز نفسى. ومن الأمثلة لذلك ما يقوله الأجداد ، فبعد أن يلعنوا هذا الزمن وسلوك أولادهم يتباكون على الزمن القديم الجميل ويرون فى ردّه حلاً للمشكلة: "يا حليل أيّام زمان أيّام كنّا وكنّا". وهو أيضاً التفكير المميّز فى السودان لمجموعات المثقّفين الذين يرون فى سودان الأمس الحلم المفقود بينما يرى الإسلاميون فى ماضى الحضارة الإسلامية الحلّ المنشود. والمتتبّع لسيرة الإمام المهدى يجد أنّه دعا لبيعته وهو فى الخامسة والعشرين من عمره وتوفّى ، رحمه الله ، ولمّا يبلغ الأربعين. والمصطفى صلّى الله عليه وسلّم تزوّج بالسيدة خديجة ، رضى الله عنها ، وهو ذو خمس وعشرين وبُعث عندما بلغ الأربعين. الحكمة فى ذلك ، والله أعلم ، أنّ الأربعين عمر النضوج العقلى ، حيث يبلغ المرء الوعى ويستطيع أن يكتسب من المهارات ما يدعم مسيرته وبصيرته فيصبر على التحدّيات ويكون له عتاد من التجربة تمكّنه من جمع ذخيرة من مهارات حلّ المشكلات ، والمولى عزّ وجل يقول: "حتى إذا بلغ أشدّه وبلغ أربعين سنة قال ربى أوزعنى أن أشكر نعمتك علىّ وعلى والدىّ وأن أعمل صالحاً ترضاه". هذا مع ملاحظة أنّ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم كان مفكّراً متأمّلاً منذ صغره باعتزاله فى غار حراء وكان ذلك لما يقرب من العشرين سنة ثمّ دخل معركة الرسالة ومحكّ التجربة حتى قوية شكيمته وعزمه ونال من التجارب ما يؤهّله لقيادة الأمّة بعد نشر الدعوة. أيضاً المصطفى لم يكن له علم بتجارب الآخرين ممّا مهّد تشرّبه بالحكمة الإلهية بدون شوائب فكان أرضاً بكراً طاهرة أنبتت من كلّ زوج بهيج بلا أعشاب طفيلية تفسدها. الإمام المهدى كانت له قدرة تأمّلية ولكنّها محدودة توجّهت لتقييم الواقع ورفضه كلّية ولذا اعتمد على التفكير التّذكّرى باللجوء لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلّم ، لحلّ مشكلته مع الواقع الذى رفضه. فقد سعى لأن يعيد التاريخ الإسلامى كما هو مستخدماً فساد الواقع كسبب لإعلان دعوته وثورته ، ولم يشغل نفسه بفهمٍ مستقلّ له بكلِّ تشعّباته وتعقيداته ، وإنما رأى فيه فرصة لبعث الأمّة الإسلامية من أقصاها لأقصاها ، ببعث الكتاب والسنّة من قبريهما. فسلك نفس المنهج الذى اتّبعه الرسول صلّى الله عليه وسلّم من عزلة فى غارٍ حتى أتاه جبريل ، وفى حالة الإمام المهدى ، حسب قوله ، أتاه النبى صلّى الله عليه وسلّم وهو فى غار الجزيرة أبا ، وتكليفه وأمره بنشر دعوته وبحرب الكفار وتطهير الأرض من الظلم والشرك، ثمّ مكاتبته للشيوخ والحكّام ، وإلغائه لما سبق من مذاهب وطرق ، وتقسيم فيالقه باسماء الخلفاء الراشدين ومن ثَمَّ هجرته لجبل قدير حيث "الأنصار" ، والعون الغيبى فى معاركه ، وفتح الخرطوم وتطهيرها من الشرك والظلم ، وختمها بالعفو عن الأعداء والعلماء بما فيهم الشيخ الضرير الذى كان مناوئاً له. وسنواصل بإذن الله ودمتم لأبى سلمى.