[email protected] لا أظن أن قضية ملأت الدنيا وشغلت الناس كقضية الحرية. وما أظن الإنسان ناضل منذ كان, من أجل قيمة إنسانية مثل ما ناضل من أجل الحرية. ذلك شيء طبيعي, لأن الحرية ارتبطت بشخص الإنسان وحياته وإرادته وسلوكه, قبل أن ترتبط بأفكاره وعقيدته وقوله وكتابته. طغيان الإنسان – شبه الطبيعي – الصادر عن قوته العضلية, امتد إلى بسط نفوذه على الآخر ليسخّره, يستعبده, يحقق عن طريقه مصالحه ومتعه, فكانت العبودية وكان الرق. إن مناخ الحرية الكامل لا يعرف الوقوف في أحكامه بين الحلال والحرام وبين الإيمان والكفر، قدر ما يقف بين الصواب والخطأ العقلي على مستوى التفكير والمنهج العلمي، وبين المصالح والمنافع المرجوة على مستوى الفعل السلوكي, لا يمكن لإنسان قد انتقصت حريته ومواطنته أن يُحرّر فكراً أو يبني منهجاً...الحرية الكاملة تعني ديمقراطية كاملة غير منقوصة، لتغييب الفاشية في التفكير، التي لا تغيب إلا بالاعتراف بالتعددية المؤدية إلى التكامل، وهو التكامل الذي لا ينفي التعارض بقدر ما يعني أن الرّؤى المتعارضة لا تنفي بعضها، أو أن أحدها صحيح مطلقاً والآخر باطلٌ، لأنها جميعها في النهاية عملاً حُراً إرادياً تطوّعياً، تفرزه قناعة الناس وليس الإكراه وغسيل الأمخاخ المبرمج. إن الإنقاذ منذ أن أتت في ثوبها القشيب (الحركة الإسلامية), رفعت شعارات صارمة جعلت أصحاب مكة يتوارون خجلا وحياء. ثورة هائجة مائجة, ضرب عرّابها الأرض بعصاه فطرحت أناسٌ لا يشبهون بقية الناس, حتى قال فيهم أحد الحكماء: من أين أتى هؤلاء ؟ . خرجو هكذا من باطن الأرض, من اللامكان, أقوام بدون ذاكرة, تصطك أرجلهم غِيْرَةً وحِمْيةً على الثورة/الدين, تنتفخ أوداجهم وغراً وهوجاً إذا سمعوا كلمة ناقصة أو زائدة في القائد/المرشد. أسّسوا دولة (المدينة) المرتجاة, -الفردوس المفقود- وذلك حسب ما تمثّل لهم من تصوّرات ذهانية دينية, إختلطت بأفكار إشتراكية إلتمسوا فيها جوانب روحية, فوقعو في وهدة تناقض بين جدلية اللاعقلاني وتصوّرات المبحوث عنه, فاستولدوا دولة مريضة منهكة, وشَعبٌ مَسخٌ تشوّهت ملامحه الداخلية والخارجية, فقرروا أن يعدموه ... ويحرقوا الوطن . لا توجد دولة ناجحة عقلها في رأسها تقوم على إيديولوجيا معيّنة تقهر به الشعب وتسومهم سوء العذاب, حتى يتّبعوه ويؤمنوا به. فحتى رب العباد عندما خاطب نبيّه محمد صلوات الله عليه, قال له " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" سورة يونس الآية (99). ما نرمي إليه,-أخي الكريم- هو عدم وقوف مؤسسات الدولة إلى جوار عقيدة دون أخرى، فعلى كل عقيدة أن تبرز بقواها الذاتية، دون عون الدولة التي ربما تفسد المساواة بينهما إذا ساعدت إحداهما على الأخرى، وفي الوقت نفسه وحتى تكون هناك ديمقراطية وحرية حقيقية، يجب على مؤسسات الدولة أن تقف ضد كل الألوان الشمولية التي تزعم الطهارة المطلقة والوطنية المطلقة والحق المطلق، حيث الديمقراطية نصاب سياسي يقوم على مبدأ المواطنة لا الإيديولوجيا ولا العنصر ولا الجنس ولا الدين، والمواطنة مبدأ لا يقبل التجزئة كما الحرية, لأنها ملك الجميع حيث الوطن وطن الجميع كذا الحرية. ولكن للأسف الشديد, أن (هؤلاء) عملوا على اتّباع دينٍ غير دين محمد, ونبيّ أهوج لا يُسأل عمّا يفعل, فأتى خطابهم طائفي متعصّب يضع الإنسان السوداني خارج التاريخ فلا يعيش عالمه ولا يتصالح معه أو يتكيف مع جديده, إنسان بلا هوية بلا ذاكرة بلا ماضٍ, بل ذهبوا أبعد من ذلك, أرادوا تغيير العالم كله ليتفق مع وجهة نظرهم, فبدّدوا ثروات ومدّخرات الدولة, فأرسلوا الرسل إلى الدول المجاورة, لا للتعاون المثمر المعهود بين الدول, بل لهدايتهم, (أسلم تسلم), أو لنأتينكم بجنود لا قبل لكم بها. فدخلت البلاد في فخاخ لا يستفيد منها المواطن السوداني شربة ماء, بمحاولات الإنقاذ الفاشلة في تغيير أنظمة البلدان المجاورة ومحاولة تصفية قادة بلدان أُخَر. إن الحرية تحتاج إلى تربة تُبذر فيها وتُروى لتنمو بتدريب العقل على المنهج العلمي في التفكير لا التكفير وليس منهج الانتظار البليد لحدوث المعجزات وعودة الأساطير الحفرية. بذرة العلم هي منهجها أما تربتها فهي مناخ التسامح الكامل. وهذا لا يمكن في ظل مناخ التجهيل العام السائد. لا يمكن لدولة تريد أن تصبوا إلى الأمام لتقف مع البلدان المتقدمة في صفّ واحد, تضع نقاط بعينها ما تقرب لخمس عشرة بنداً ممنوع تناوله في الصحف العامة, فأصبحت الصحف اليومية عبارة عن نُسخ متشابهة لا تصلح إلا لتنظيف الواجهات الزجاجية. عن أي حريات نتحدث !! . هؤلاء لا يقبلون النصح ولا النقد, يصبح كل ناصح ناقد عدوٌ مبين, أما من يكشف عيوب الإنقاذ ويفشيها أمام الملأ، فهو حتماً في عداد المفقودين. هؤلاء القوم نصّبوا أنفسهم وكلاء عن الله في الأرض، واستثمروا هذا التنصيب إلى حدوده العليا، فدمّروا العقل والثقافة والإنسان، عملوا على تزييف التاريخ السوداني على مدى عقدين ونصف, وكانت كذبتهم أنهم يعلون كلمة الله ويدافعون عنها. لقد استثمروا الله في بنوك الجهل من أجل الدفاع عن مصالحهم الخاصة، وعن المصالح الاجتماعية التي ترى في استمرار الوهم والتفكك العقلي أساساً لبقائهم. وإذا كان كل دين سماوي يحض على الرحمة والتعاون والغفران، فإن هؤلاء انطلق دينهم من عقاله ليرفع شعار الإغتصاب والدمار والتقتيل، ولو كانوا يدافعون حقاً عن إرادة السماء وإعلاء كلمة الله, وهدفهم هو المواطن السوداني في المقام الأول, لدافعوا عن حاجاته الفعلية الأساسية كلها، ولأولى بهم أن يخرجوه من بؤسه الذي يرزح فيه إلى نعيم الدنيا وبرذخها. ولكنهم تناسوا الهدف الحقيقي من كل (ثورة) وبدّدوا الطاقات البشرية لحساب الوهمي عندهم، المتخيّل لديهم, فقادوا معركة دامية من أجل الوهم كان ضحيتها الحقيقي والجوهري هوالإنسان السوداني. قبل الأخير : كل الإحترام لرئيسة ملاوي جويس باندا, حيث آلت لها البلاد وهي في ضائقة إقتصادية خانقة وملايين الجوعى فاتخذت إجراءات تقشفيه منها: بدأت بنفسها حيث خفضت راتبها بنسبة 30% باعت 35 سيارة مرسيدس يستخدمها أفراد حكومتها. ألغت حوافز ومخصصات كثيرة من الوزراء والمسؤلين الكبار. قلّصت عدد الموظفين بالسفارات والقنصليات. ومؤخراً, باعت الطائرة الرئاسية لإطعام مليون جائع, وعندما سألها مراسل All Africa Malawi : ولماذا الطائرة الرئاسية بالذات ؟؟؟ . قالت : بالبلاد جوعى وصيانة الطائرة, والتأمين عليها يكلفنا 300 ألف دولار سنويا" .. المسافرون على الدرجة السياحية والمسافرون على الدرجة الأولى جميعهم يصلون نفس المحطة في نفس التوقيت.. والرفقة في السفر ممتعه. شكرا" جميلا" (جويس باندا) إنابة عن كل جائع, ليت أصحاب (هي لله) بالسودان لهم بضع من أخلاقك. ليت من باعو خط هيثرو الخاص بالسودان أن يتمتعوا بنصف ما تتمتع به رئيسة ملاوي من مسؤولية. ليت من تاجروا بصلوات العباد وحجهم واعتمارهم في بيت الله الحرام ونهبوا أموال هيئة الحج والعمرة – دون أن يرف لهم جفن - أن يتعظوا من هذه المرأة . ليت من أمروا الناس بالبر ونسوا أنفسهم أن يقفوا وقفة مع ذاتهم. اه أخيراً, إقتباس ضروري : (أهْوَنُ لِجَمَلٍ أنْ يَلِجَ مِنْ ثُقْبِ إبْرَةٍ, مِنْ أنْ يَدْخُلَ جَنْجَوِيْدٌ مَلَكُوتَ الله), عن رواية مسيح دارفور. للكاتب عبد العزيز بركة ساكن .