تصريحات عقار .. هذا الضفدع من ذاك الورل    طموح خليجي لزيادة مداخيل السياحة عبر «التأشيرة الموحدة»    السعودية تتجه لجمع نحو 13 مليار دولار من بيع جديد لأسهم في أرامكو    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    عزمي عبد الرازق يكتب: قاعدة روسية على الساحل السوداني.. حقيقة أم مناورة سياسية؟    الحلو والمؤتمر السوداني: التأكيد على التزام الطرفين بمبدأ ثورة ديسمبر المجيدة    هلالاب جدة قلة قليلة..لا يقرعوا الطبل خلف فنان واحد !!    مذكرة تفاهم بين النيل الازرق والشركة السودانية للمناطق والاسواق الحرة    عقار يلتقي وفد المحليات الشرقية بولاية جنوب كردفان    سنار.. إبادة كريمات وحبوب زيادة الوزن وشباك صيد الأسماك وكميات من الصمغ العربي    (شن جاب لي جاب وشن بلم القمري مع السنبر)    شائعة وفاة كسلا انطلقت من اسمرا    اكتمال الترتيبات لبدء امتحانات الشهادة الابتدائية بنهر النيل بالسبت    كيف جمع محمد صلاح ثروته؟    اختيار سبعة لاعبين من الدوريات الخارجية لمنتخب الشباب – من هم؟    حكم بالسجن وحرمان من النشاط الكروي بحق لاعب الأهلي المصري حسين الشحات    شاهد بالفيديو.. القائد الميداني لقوات الدعم السريع ياجوج وماجوج يفجر المفاجأت: (نحنا بعد دا عرفنا أي حاجة.. الجيش ما بنتهي وقوات الشعب المسلحة ستظل كما هي)    المريخ السوداني يوافق على المشاركة في الدوري الموريتاني    شاهد بالفيديو.. مستشار حميدتي يبكي ويذرف الدموع على الهواء مباشرة: (يجب أن ندعم ونساند قواتنا المسلحة والمؤتمرات دي كلها كلام فارغ ولن تجلب لنا السلام) وساخرون: (تبكي بس)    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني أبو رهف يلتقي بحسناء "دعامية" فائقة الجمال ويطلب منها الزواج والحسناء تتجاوب معه بالضحكات وتوافق على طلبه: (العرس بعد خالي حميدتي يجيب الديمقراطية)    شاهد بالفيديو.. بصوت جميل وطروب وفي استراحة محارب.. أفراد من القوات المشتركة بمدينة الفاشر يغنون رائعة الفنان الكبير أبو عركي البخيت (بوعدك يا ذاتي يا أقرب قريبة) مستخدمين آلة الربابة    مصر ترفع سعر الخبز المدعوم لأول مرة منذ 30 عاما    السلطات السعودية تحذر من نقل أو ايواء مخالفي انظمة الحج    هكذا قتلت قاسم سليماني    الكعبي يقود أولمبياكوس لقتل فيورنتينا وحصد لقب دوري المؤتمر    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني في السوق الموازي ليوم الأربعاء    خبير سوداني يحاضر في وكالة الأنباء الليبية عن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في الإعلام    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    الموساد هدد المدعية السابقة للجنائية الدولية لتتخلى عن التحقيق في جرائم حرب    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    السعودية: وفاة الأمير سعود بن عبدالعزيز بن محمد بن عبدالعزيز آل سعود بن فيصل آل سعود    والي ولاية البحر الأحمر يشهد حملة النظافة الكبرى لسوق مدينة بورتسودان بمشاركة القوات المشتركة    مدير شرطة ولاية النيل الأبيض يترأس اجتماع هيئة قيادة شرطة الولاية    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    بيومي فؤاد يخسر الرهان    نجل نتانياهو ينشر فيديو تهديد بانقلاب عسكري    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    بالنسبة ل (الفتى المدهش) جعفر فالأمر يختلف لانه ما زال يتلمس خطواته في درب العمالة    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الطيب صالح وأكتوبر: من أين جاءت حكاية عبود الطيبان؟ .. بقلم: د. عبد الله علي إبراهيم
نشر في سودانيل يوم 21 - 10 - 2013


1- تاريخ ما لم يحدث أبداً: تنازل نظام عبود بسماحة
لا غلاط أن الطيب صالح روائي منقطع النظير ولكنه مؤرخ سيء. فبينما يبني شخوصه الروائية بريشة واثقة راشدة نجد أنه يبسط حياة من لعبوا دوراً في التاريخ إلى حد الكاريكاتورية. فروايته عن تسليم الفريق إبراهيم عبود للسلطة بعد قيام ثورة أكتوبر 1964 مما لا يصدق أن تأتي من الطيب صالح الذي جعل من شخوصه المتخلية مثل مصطفي سعيد كيانات تاريخية من فرط الشحنة الاجتماعية والثقافية التي تخللت فعلهما السردي. فعبود في رواية الطيب صالح "طيبان" في دلالاتها المصرية وهو وصف ربما لم يسعد به عبود نفسه الذي أخذ مسؤوليات الدولة بجد وحزم قتل فيه النفس خلال تأديته لها.
في تقديمه لطبعة لونقمان لروايته "موسم الهجرة للشمال" كتب الطيب صالح عن عودته للسودان في 1966 منتدباً من البي بي سي العربية لإذاعة أم درمان. وصف المناخ في الخرطوم آنذاك بالروعة "لأن السودانيين قد أطاحوا، للتوّ، بحكومة الفريق عبود العسكرية بثورة شعبية أكثر روعة. لم ترق دماء كثيرة، لحسن حظ الجنرال عبود، والذي استجاب فورًا للإرادة الشعبية، وحالاً سلم الحكومة، وبشكل سلمي للأحزاب السياسية". أما تفاصيل القصة فقد رواها في موضع آخر. قال الطيب "كان عبود على سن التقاعد يريد أن يقضى بقية العمر يتعبد ويأنس بصحبة الرجال من سنه فجاءه الضباط وقالوا له نعمل ثورة وأنت قائدها وقال لهم الله يهديكم أنا وصلت سن المعاش. وقبل على مضض. وحكم البلد بلا نفس. شغل روتين. وكان يلقي بعض الخطب بلا قناعة ولا حماسة ترد فيها مثل أننا سنضرب بيد من حديد. ويوم سمع "يسقط عبود الطاغية" جمع جماعته وقال لقد قلتم لى إن الشعب معنا وما هو معنا كما هو واضح. وتحسر على سنوات ضاعت لم يقضها في هناءة المعاش يحكم من ظنهم معه وهم ليسوا معه. وأنزوى وقام ضابط آخر بثورة فهتف له الناس في الأسواق :"يعيش عبود البطل". الشعوب أمرها عجيب وهذا الشعب من أعجب الشعوب".
المؤلف الذي جعل الخيال تاريخاً هبط بالتاريخ إلى "حدوتة" (لست لأني أبخس الحدوتة كدارس لها بل جرياً وراء العبارة). ولم يحدث في واقع الأمر أياً مما ذكره الطيب. فلم يقدم عبود على الحكم يجرجر قدميه. فقد عالجت في مواضع أخرى كيف أنه أخذ الحكم أخذاً وبيلا. وقلت إننا لم نتبين بعد كيف تحول المجلس الأعلى للقوات المسلحة من مهمة "حالة الطواريء" التي أمره بها عبد الله خليل البيه، رئيس الوزراء، إلى الانقلاب والانفراد بالحكم لست سنوات لم يخطر له فيها ليوم العودة القهقري للحياة الدارجة التي صورها الطيب صالح. بل رأيناه يقاتل بالظفر والناب ليبقى في السلطان في وجه مقاومة عسكرية ومدنية. وقد أنكر عبود إيعاز البيه لهم بالتحرك العسكري وهو في السلطة ولكن بادر به حين مساءلته بواسطة لجنة التحقيق في ملابسات انقلاب 17 نوفمبر 1975.
أما ملابسات تنزل عبود عند إرادة الشارع في أكتوبر فقد رواها البروفسير كليف تومسون في كتابه "ثورة اكتوبر في السودان" وليس بينها وبين تصوير الطيب صالح لها صلة البتة. وكليف كان عند قيام ثورة أكتوبر محاضراً أمريكياً شاباً بكلية القانون بجامعة الخرطوم. وأخذت الثورة بلبه فكتب يومياتها وهي تسفر عن نفسها يوماً بعد يوم ثم راح يعقد المقابلات مع وجوهها المدنية والعسكرية ليكتب كتابه. وهو عندي ثقة. وسنرى فيه أن عبود كان آخر من جاء إلى التنازل عن الحكم وسبقه حتى اللواء حسن بشير، نائبه وذراعه اليمني، الذي اشتهر بالبطش. بل تسمع من يقول عنه أنه أراد أن يبيد المتظاهرين عن بكرة أبيهم. ولم يحدث منه هذا أيضاً.
يؤرقني السؤال: كلنا في الجيل يعرف أن الجيش انفصل عن الدولة ومجلسها العسكري بصورة أو أخرى وطالب بحل الأخير ومع ذلك تعامينا عن تسليم عبود للسلطة مجبراً ورحنا ننسج الحدوتات مثل "حدوتة" الطيب صالح. أستبعد أن يكون هذا التعامي قد تم بنية سيئة مثلاَ. ربما. ولكن من المؤكد أنه راجع لطريقة تأرختنا لثورة أكتوبر كواقعة سودانية خالصة ل"معلم الشعوب". فقد نزهناها عن علم الثورات المقارن على أنها احتشدت بالرموز والآليات التي تنعقد بها ألأواصر مع الثورات. خذ مثلاً الإضراب السياسي العام وهو أداة مجربة في تاريخ الثورات الأوربية. بل أخذناه نقلاً عنهم ولم نعد نراجعه على ضوء خبرتهم. ولما لم نكتسب علم الثورة جهلنا حتى بأمر ثورتنا نفسها ورحنا نذيع حقائقها كأحاديث خرافة. فعلماء الثورة تناولوا مثل تنازل عبود عن الحكم بضغط من قوى نظامية. واصطلحوا على تسميه فعل هذه القوى ب"المروق" (defection) أي تنصلها عن الحاكم فيُكره على التسليم. وبعض هذا المروق جزئي وبعضه شامل وبعضه ماكر مستتر. ومن أفضل من يدرس ظواهر الثورات السلمية ونجاحها بالنظر إلى المروق الدكتورة إريكا جنوويه التي أصدرت في العام الماضي كتاباً مع زميلة لها عنوانه "لماذا توفق المقاومة المدنية؟ المنطق الاستراتيجي للنزاع السلمي" (دار جامعة كولمبيا للنشر 2011). ولقي الكتاب نجاحاً وتمييزاً بالجوائز. وهي تنشر حالياً عن الربيع العربي في مجلة "شؤون خارجية" الأمريكية.
سنرى حين نعرض لملابسات تسليم الرئيس عبود للإرادة الشعبية أنه تعرض لمروق كامل تسارع به معدل التنازل خلال ساعات قليلة من مساء الاثنين 26 أكتوبر. فنجده في أول المساء مصراً أن لا يتنازل قيد أنملة، ثم قبل اقتراح عقد اجتماع للبرلمان (المجلس المركزي) لمناقشة التطورات السياسية والعنف ضد المواطنين كبادرة لجدية الحكومة في تعاطيها المسؤول مع العنف ضد المواطنين، ثم قبل مرغماً حل المجلس الأعلى للقوات المسلحة. بل ستجد أن عبود سجل خطابين أذيعا في نفس ذلك المساء: واحد عن انعقاد المجلس المركزي والآخر عن حل الحكومة. فالقول بأن عبود ما أن سمع بالهتاف ضده طوى برشه ورحل حديث خرافة أحوجتنا إليه أميتنا في العلم بالثورة وعلومها.
2- من هو الراجل الواقف خلف عبود؟
أعرض في مايلي ما كتبه الدكتور كليف تومسون في كتابه "ثورة اكتوبر في السودان" عن ملابسات تنازل الرئيس عبود عن السلطان في يوم الاثنين 26 أكتوبر 1964. وسترى ظاهرة "المروق" التي أشرنا إليها في مقالنا السابق. وهي، مصطلحاً، وضع تتنصل فيه قوى نظامية بصورة كاملة أو جزئية عن الحاكم فلا يجد مهرباً من مغادرة الحكم.
وضح للمجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم أن صغار الضباط غير راضين عن قتل المتظاهرين في مواكب الثورة. وللتهدئة قبل المجلس اقتراحاً لرئيس القضاة محمد أحمد أبورنات سبق أن رفضوه وهو أن يجتمع المجلس المركزي (بمثابة برلمان النظام) ليحقق في مظالم الناس من الحكومة. وقرروا التعجيل بذلك بإذاعة خبره مباشرة على الناس بدون التشاور مع الأحزاب. لم يكن عبود واثقاً مما ينبغي فعله: هل يحزم أمره ويمضي في ما هو فيه أم يتنازل شيئاً ما. ولجأ إلى طريقته المعتادة في التشاور مع أعضاء المجلس والوزراء ليقع على ما يمكن أن يجتمعوا عليه.
وعلى خلاف ما يعتقد الناس ما يزال فالضابط الذي كان متوقعاً منه العنف ضد الثوار وإلى النهاية، في راي الكاتب، كان اللواء المقبول الأمين الحاج وليس اللواء حسن بشير نصر. وصادف أن كان المقبول في زيارة للسعودية. وكان اللواء حسن بشير على العكس هادئاً في مناقشاته وحذراً مرجحاً تحول ميزان القوى للمدنيين على العسكريين ومعترفاً بذلك. وكان موقف الشدة مع المتظاهرين قد تبناها من هم دونه قوة شخصية من الضباط. وقال الكاتب إن الموقف لم يكن موقف انقسام بين صقور المجلس العسكري وحمائمه بل كان النزاع في داخل كل منهم بما فيهم عبود. كانوا في حالة شلل متهيج. ووصفهم الكاتب بأنهم مثل من تذكر عند عتبة الخروج من منزله أنه نسيّ شيئاً ما واضطرب بين المضي في ما هو فيه أم الرجوع ليأتي بما نسيه. وكان الراديو يواصل الإعلان حتى المغيب عن بيان هام فتوقعوه. وهو بيان عن إنعقاد المجلس المركزي.
ولكن فجاة دلفت الأمور إلى منعطف عصيب. فكان المجلس يتصرف حتى ذلك الوقت تحت الضغط الشعبي العام وحس غير مؤكد بأن صغار الضباط ناقمين عليه لبؤس معالجته للأزمة. ولذلك كان بوسع المجلس أن يتخير نوع التنازل الذي يراه لاحتواء الموقف. وفجأة وفي نحو السابعة مساء دخل اللواء الطاهر عبد الرحمن، الحاكم العسكري لمديرية كسلا وقائد الفرقة الشرقية، واللواء عوض عبد الرحمن، رئيس المجلس المركزي، القصر الجمهوري للقاء عبود. ونقلا له أنهما اجتمعا بضباط حامية الخرطوم وفرق أخرى بالعاصمة وما جاورها الذين يعتقدون أن الأمر قد فلت، وأنهم قد لا ينفذون أمراً بضرب المتظاهرين، وأن على المجلس العسكري حل نفسه. ولم يصدق عبود أذنيه حتى حين طمأناه على أنه سيظل رئيساً للبلاد بصورة ما. ولما تبين قولهما رفض العرض وخرج من الغرفة.
ثم عاد عبود واستدعى اللواء عوض ليسأله إن كان ثمة أحداً بالاسم من وراء عرضه. فأقسم اللواء بشرفه العسكري أن لا أحد من ورائه. وخاطب وطنية عبود التي تدعوه لحقن دماء العسكريين والمدنيين. وصعد عبود واللواء إلى بلكونة القصر المشرفة على النيل ليجتمع اللواء عوض بأعضاء المجلس العسكري واحداً واحداً ويطلعهم على قوله. وكان أولهم اللواء حسن بشير الذي عاتبه عبود على أنه لم يطلعه على سوء الموقف. لم يصغ عبود عتابه كإتهام وإنما كحقيقة واقعة. وصمت حسن بشير هونا ثم قال: "ما الحاصل؟". فنقل له اللواء ما عنده وقال له إن عبود قد يحتاج لوقت لإقناع أعضاء المجلس. فقال اللواء حسن أنه سيكفيه المهمة وسيقوم بها بنفسه. وخالجت عبود لابد خاطرة لا تزايل القائد حين يرى رجله القوي ويده الباطشة جنح للسلم يدعو له بنفسه. وبدا له أن خطته لدعوة المجلس المركزي ستتخذ مساراً مختلفاً.
ولم يمر وقت قليل حتى وضح لعبود أن الضباط المارقين على وشك لي يده حقاً. فقد رأى من موقعه من البلكونة رجلاً في الزي العسكري في غبش بداية الليل لم يتبينه. ثم سطع عليه مصباح كهريائي فإذا هو الرائد محمد الباقر أحمد (نائب رئيس الجمهورية تحت نميري لاحقاً) من أواسط الرتب ممن لا شأن لهم بالمجيء للقصر الجمهوري. فطلب عبود من الجنرال عوض أن يلحق به ويسأله عن غرضه. فهبط اللواء الدرج ولم يجد الباقر فحسب بل القائمقام محمد إدريس عبد الله الذي جاء من جهة أخرى. ونزل عبود الدرج ونادى القائمقام محمد إدريس وترك اللواء والرائد الباقر وحدهما. ومن تبادل عاجل فهم اللواء من الرائد أنه جاء ليستوثق أنه لم يمسه ضر من المهمة التي بعثه بها ضباط الخرطوم. وقال ولأنه غير متأكد اصطحب معه قوة من العسكر. ولم يعرف اللواء قوة القوة ولكنه قال له إنه بخير وعليه أن يصرف القوة. وجاء حسن بشير خلال حديث عبود للقائمقام وقال للرئيس إنه أقنع الوزراء بحل مجلسهم بعد عرضه للموقف عليهم. فقال له عبود إنه يرغب في الحديث إليهم أيضاً. فأتجه الضباط الثلاثة إلى حيث كان الوزراء. ولم تجر مناقشة. فقد جادل حسن بشير أمام عبود والوزراء أن الموقف واضح فالشعب غير سعيد بهم ويجب عليهم أن يرحلوا ويتم تعيين مجلس عسكري جديد. ورد عليه عبود بأن التقارير من جهة الجيش ليست متشائمة مثله. كان يريد أن يخفف من غلواء حسن بشير لكتابة نهاية النظام ليسمع لمزيد من الآراء من الوزراء. وتكلم القائمقام محمد إدريس بعبارة متعاطفة بدأها مع عبود حين اختليا ولكنها صريحة في حل المجلس ومجلس الوزراء. فقال عبود: "لا، لن أخون أصدقائي". فقال له القائمقام إنها ليست خيانة حين يقول لك صديق مثله لعشرين عاماً قم بالشيء الصاح.
انفصل عبود عن تلك المناقشة ليدور بين أعضاء المجلس والوزراء يتسقط آراءهم بل خلجات آرائهم. فوجدهم تساورهم الشكوك حول الأمر جميعه واستغرب عبود بالمقارنة لقوة عارضة اللواء حسن بشير في اعتقاده الجازم في سداد حل المجلسين. وتساءل إن كان ضباط الخرطوم بالفعل طلبوا حل المجلس كما فهم اللواء حسن بشير. وكان واضحاً أن أولئك الضباط بيتوا أمراً بوجود القائمقام الذي هو منهم.
وظل عبود يدور بين الحضور الرسمي يتحدث إلى واحد بعد واحد عن الموقف في حين كان طاقم إذاعة أم درمان قد جمع عدته بعد أخذ حديث الرئيس عن انعقاد المجلس المركزي. ولكن غلب على الحضور أن ذلك البيان ربما لم يعد صالحاً لأن المسألة التي جد طرحها هي ذهاب المجلس العسكري نفسه ناهيك عن توابعه. لقد صارت المقاومة لإرادة الشارع تتناقص كلما دخل الليل.
كان عبود قد انتحى بعدد من كبار الضباط في غرفة لمزيد من التشاور. ولم يكد يجلسون على كراسيهم حتى دخل عليهم الرائد الباقر غير مأذون. فما دخل حتى أنتهره اللواء حسن بشير قائلاً:
-ماذا تفعل هنا؟
وأضاف بعد صمت قصير:
-ما تفعله غلط.
فرد الباقر معاجلاً":
-لست تحت قيادتك الآن. لم آت هنا لآخذ أوامر منك.
وهدّأ عبود التهارش. وسأل الباقر أن يدلي بما عنده. فتحدث بأدب إلى عبود قائلاً إنه سيخون وطنيته إن لم يطلع الرئيس على حقائق الموقف المتدهور وانزعاج زملائه لذلك. وزاد بأنهم لن يطلقوا الرصاص على من لم يعد يثق في الحكومة. وقال بإنهم لن يضمنوا سلامة أعضاء المجلس العسكري أن لم تكن هناك معالجة جذرية للمسألة. ولم يضع على مستمعيه التهديد المبطن. وطلب من عبود أن يعيد تسجيل حديثه للإذاعة ليعلن حل المجلس العسكري ومجلس الوزراء. ولم ينتظر القائمقام عبد الله الرئيس ليرد فسارع بقوله إن ثمة قوات خارج القصر مؤيدة للمطلب. وأكد الباقر وجود هذه القوات. وركبت الدهشة عبود وتعالت الأصوات وتقاطعت فأسكتها قول اللواء حسن بشير بإن المطلب بحل المجلسين هو ما ظل يدعو له طوال المساء.
كان البيان بحل المجلسين في جيب القائمقام عبد الله. فأعطاه للواء حسن بشير. وتكهرب الجو لأن حسن بشير كان كمن يلمح إلى أنه سيتلو بيان الحل إن لم يتلوه الرئيس. وأغضب ذلك عبود وتقاطعت أصوات الضباط تدلي بدلوها وغطى واحدها الآخر. وتسارعت الحجج وسخنت. وتدخل عبود ليهديء التصارخ قبل أن يتفرق المجلس شيعاً. وتحدث بصوت خفيض محذراً من الصدام وعليهم أن يلتزموا الهدوء. وجلس الباقر وغيره ممن كانوا وقوفاً. فقال عبود إن الحاجة وضحت إلى بيان مختلف لملاقاة الثورة الظافرة. ولكن على الجيش أن يحافظ على كرامته ولا يهرب من الساحة وأن نتفق على شيء يمنع الإساءة له. والبداية هي في ألا يبوح أحد بما جرى الليلة لأحد. قد كان تمريناً في بلوغ قرار مجمع عليه يبقى في الصدور. وجاء وقت الانسجام بعد وقت الجدال. وتتابعت الموافقة على الخطة من الحضور.
طلب عبود من وزير الاستعلامات والعمل أن يأتي بطاقم من الإذاعة لتسجيل كلمته الجديدة. وكانت كلمته الأولى عن اجتماع المجلس المركزي ما تزال تذاع على الملأ. وتحدث أحد زملاء الباقر للإذاعة لتعلن عن بيان جديد فترقبوه. وجاء طاقم تسجيل الإذاعة ومضى إلى مكتب عبود ليسجل الكلمة التي كانت في جيب القائمقام سوى من بعض تعديلات طفيفة هنا وهناك.
لا أدري كيف مُسخت هذه الدراما أو التراجيديا العجيبة لتنازل عبود مما ربما سطرها قلم الطيب صالح نفسه إلى "حدوته" عن عبود الطيبان الذي سمع الهتاف ضده ولبى النداء وذهب إلى بيته يتمطى.
Ibrahim, Abdullahi A. [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.