الفَرْمالات في العامية السودانية الحديثة ، أعني عامية الحواضر ، وليس عامية الأرياف والبوادي ، جمع (فرمالة) بفتح الفاء وسكون الراء ، هي النادرة الفريدة من أي شيء كان ، يُعرف بها الفرد أو المجموعة أو تُعرف به. على أنه يجوز أن تكون هذه الكلمة قد بدأت تختفي نوعاً ما من الاستعمال حالياً ، وربما بدأت تحل محلها بين أبناء الجيل الراهن لفظة جديدة ندت عن ملاحظتنا. يوصف الشئ بأنه (فرمالة) غالباً في شيء من السخرية والتندر ، إذ أن من معانيها الضمنية ، أن من تنسب إليه ليس عنده شيء يُعتد به سواها ، أو ليس عنده شيء غيرها مطلقا. وقريب من كلمة " فرمالة " في الدلالة في اللهجة السودانية المعاصرة ، الاسم " عبد الواحد " الذي يطلق من قبيل الكناية الساخرة على الشيء الواحد يكون ملازما للشخص على الدوام. ولكن يبدو أن " عبد الواحد " يطلق على الأشياء المادية ، كأن يكون حذاءً ، أو قميصاً ، أو بنطللوناً الخ ، بينما تتعلق الفرمالة عادة بالأشياء الفكرية والقولية. وكثيراً ما يسأم الناس ويضيقون ذرعاً بالفرمالات ، ومن ذلك ما وُصفت به معلقة عمرو بن كلثوم ( ألا هبي بصحنك فاصبحينا ) ، بأنها قد كانت ( فرمالة ) لقبيلة بني تغلب ، حتى قال فيهم الشاعر: ألهتْ بني تغلب عن كل مكرمة قصيدة قالها عمرو بن كلثوم يروونها أبداً مذ كان أولهم يا للرجال لشعر غير مسؤوم هذا ، وليس كل فرمالة بمبتذلة أو مسؤومة ، بل كثيراً ما تكون الفرمالات من الدرر الفرائد الرائعات ، وهذا هو بالضبط ما نقصد إليه في هذا المقال. ففي التراث العربي القديم ، كانت هنالك قصائد فرائد غاية في الجودة والتميز ، مثل عينية سويد بن أبي كاهل ، وبائية علقمة الفحل وغيرهما. أما في تراثنا الشعري والفني والغنائي والإبداعي عموما في السودان ، فإن هنالك طائفة من ( الفرمالات ) البديعة حقاً ، والتي نالت حظاً معتبراً من الشهرة والذيوع عبر الحقب المتعاقبة ، وما يزال بعضها يعد من روائع الأعمال الفنية ، وتتلقاها مختاف الأجيال بالإعجاب والقبول. فمن بين تلك الفرمالات الرائعة ، المدحة النبوية الشهيرة التي تؤديها مجموعة " اولاد حاج الماحي " ، والتي مطلعها هو: طه المنومسا في الكون مريسا من قاملو في شوال محبوبي درمسا فهذه القصيدة الجميلة والجيدة السبك حقاً ، هي بالفعل درة فريدة. ذلك بأن ناظمها ليس حاج الماحي كما قد يتوهم البعض ، وإنما هو شاعر مادح آخر مغمور من ديار الجعليين اسمه فضل الله ، كما أشار إلى ذلك بعض الباحثين كالبروفيسور إبراهيم القرشي. هذا ، ولا يعرف أحد الآن عن فضل الله هذا شيئا ، ناهيك عن أن تعرف له قصائد أخرى غير هذه الخريدة النادرة. ولولا أنه وقع اسمه في ختامها قائلاً: " فضل الله جابا دايربها الوصول الخ " ، لانطوى ذكره في غياهب النسيان ، ولضاع حق ملكيته الفكرية والأدبية إلى الأبد. أما في مجال شعر ما يسمى بفترة غناء الحقيبة الذي ازدهر في عقدي العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي ، فيُعتبر الشاعر "حدباي أحمد عبد المطلب " ، وهو صديق خليل فرح وصفيه الملازم ، يعتبر صاحب فرمالة هي أغنيتة: " زهر الرياض في غصونو ماح .. واتراخى في الساحة ام سماح ... شايقني طبعو الجماح " ، كما يظهر الشاعر " مسعد حنفي " كصاحب فرمالة رائعة هي أغنيته " وجه القمر سافر يضوي شعاعو نور باهر الخ " ، على الرغم من أنه يُنسب إليه تأليفه لأغنية أخرى أقل شهرة منها ، بل لا تكاد تكون معروفة يقول مطلعها: الناعسات عيونن نور جبينن هلْ ما بين تبري صافي واخضراني اللون مما يحملنا على التمسك بالقول بأنه شاعر حقيبة صاحب فرمالة هي أغنية: " وجه القمر سافر ". المرحوم الشاعر الأستاذ " محمد عثمان عبد الرحيم " ، الذي رحل عن دنيانا الفانية قبل أيام قليلة في مسقط رأسه مدينة " رفاعة" ، له فرمالة بديعة هي أنشودة " أنا سوداني " التي يصدح بها المطرب الكبير الراحل " حسن خليفة العطبراوي " ، وهي بلا شك قصيدة رائعة من عيون الشعر الوطني السوداني ، بل الشعر العربي مطلقا. ولكن لا تعرف لهذا الشاعر المتمكن قصائد أخرى بخلافها فيما نعلم. أغنية فنان الشرق الراحل الأستاذ " إدريس الأمير " في تمجيد مدينة سواكن: " صب دمعي وانا قلبي ساكن ..... حار فراقك نار يا سواكن " ، قد كانت بالفعل فرمالة رائعة ومترعة بالشجن لهذا الفنان الذي لا يكاد الناس يعرفون له أغنية غيرها. وبنفس القدر تُعتبر أغنية " من أرض المحنة ومن قلب الجزيرة " فرمالة لمؤديها المرحوم الفنان " محمد مسكين " ، وليس بالنسبة لمؤلفها الشاعر المبدع كماً وكيفاً الأستاذ: " فضل الله محمد ". وهذه الأغنية هي من الأغنيات التي تذكر سائر أبناء جيلنا مرحلة الطفولة بشدة كلما استمع واحد منا إليها. فلقد أدركنا من أهازيج ( الشفع ) و " عواراتهم " التي نسجوها على لحنها وقتئذ: لا.. لا.. لا .. للالا .. حلاوة جكسا لا.. لا.. لا.. للالا .. حلاوة ماجد وقد كان جكسا وماجد نجمي فريقي القمة الكروية: الهلال والمريخ اللامعين في ستينيات القرن الماضي. كذلك نعتقد أن القصيدة الحماسية الرائعة: " شدولك ركبْ فوق مهرك الجماح ... ضرغام الرجال الفارس الجحجاح ... يا عصار المفازة الللعيون كتاح .. المال ما بهمك إن كتر وان راح الخ " التي يؤديها الفنان الكبير " سيد خليفة " ، هي الأخرى جوهرة نادرة بالنسبة لمؤلفها الأستاذ " عمر الحسين " رحمه الله ، وهو جامع ومحقق ديوان حاج الماحي للمديح النبوي ، إذ ليس يعرف له شعر غنائي غير هذه القصيدة بحسب علمنا. أما أغنية " العزيزة " للشاعر " سعد الدين إبراهيم " ، فإنها فرمالة لمؤديها " فتحي حسين " ، وليس بالنسبة لشاعرها المبدع الذي له عدد من القصائد الغنائية الرائعة الأخرى غيرها. ولا شك في أن أغنية العزيزة هي من روائع الغناء السوداني ، وقد كشف الفنان الكبير " محمد وردي " نفسه في حوار أجري معه قبل بضعة أعوام ، عن أنه كان يتمنى لو أن هذه الأغنية قد كانت من نصيبه. أما الفنانان " محمد حميدة " و " يوسف السماني " اللذان كانا يعرفان باسم " الثنائي الوطني " ، واللذان اشتهرا فقط بتقديم روائع الأناشيد والأغاني الوطنية ، خصوصاً خلال الحقبة المايوية ، فإن لهما في تقديرنا فرمالة عاطفية واحدة هي أغنية " حلوين .. حلوين " ، التي ما يزال تلفزيون السودان يبث تصويرا لها بين الفينة والأخرى ، وليس لديهما أغنية عاطفية مسجلة ومعروفة للعامة غيرها في حدود ما نعلم. أما رائعة سيدة الغناء العربي " أم كلثوم ": " أغداً ألقاك " للشاعر السوداني الأستاذ " الهادي آدم " ، فهي الآخرى فرمالة على نحو ما. وذلك باعتبار أنها تمثل النص الشعري الوحيد لشاعر سوداني الجنسية ، الذي تغنت به السيدة أم كلثوم. ولئن كانت رواية " الفراغ العريض " بمثابة الفرمالة للأديبة السودانية الرائدة الأستاذة " ملكة الدار محمد " ، فإننا نتمنى على ذكر ذلك في الختام ، أن يجتاز قطار الإبداع السوداني محطة الطيب صالح ، الذي طالما اعتبره كثير من الناس فرمالة إسهامنا في دنيا الأدب على المستويين الإقليمي والعالمي. /////////