بسم الله الرحمن الرحيم يأخذ مفهوم الحرية مكانة مطلقة في نظم منظومة الحداثة الغربية، باعتبار إن الحداثة هي حالة من المغامرة نحو الحرية في عالم مسكون بالضرورة والحتمية، فهي تأخذ من هذه الزاوية صورة إرادة إنسانية الحرة التي تتحدى وتتقصى وتغامر لتصنع مصير الإنسان على مقدار إرادته وعلى مقياس أطياف أحلامه الإنسانية، وتتمثل حرية الإرادة الإنسانية في سعيها لهدم عالم الوصاية المضروب حول الإنسان وتدميره بمختلف تجلياته وحدوده وتبدياته، وتعتبر الحرية الفردية، بمثابة التعريف الأكثر أهمية لإنسان الحداثة، وجوهرا له، ولذلك عدت جزءا أساسياً من النزعة الفلسفية الإنسانوية الحديثة التي تتمحور حول تصور للإنسان قوامها العقل والإرادة والحرية، وبذلك تشكلت فكرة الحرية صلب فلسفة الحداثة وقوامها، فثمة إجماع على مبدأ القائل بأنه "لا حداثة بلا حرية"، باعتباره المبدأ الذي أضافته فلسفة الحداثة للإنسان. هذا التقرير هو ما تدل عليه غالب مقولات فلاسفة الحداثة، ف "ديكارت" يري أن الإنسان هو كائن الاختيار الحر، بحيثية العقل الذي عنده أعدل الأشياء توزعاً بين الناس، لأن كل فرد يعتقد أنه قد أوتي منه الكفاية، ولأن الذين يصعب إرضاؤهم بأي شيء آخر ليس من عادتهم أن يرغبوا في أكثر مما أصابوا منه ليس براجح أن يخطئ الجميع في ذلك، وإنما الراجح أن يكون هذا شاهداً على أن قوة الإصابة في الحكم، وتمييز الحق من الباطل، وهي القوة التي يطلق عليها في الحقيقة اسم العقل، أو النطق، واحدة بالفطرة عند جميع الناس. وهكذا، فان اختلاف آرائنا لا ينشأ عن كون بعضنا أعقل من بعض، بل ينشأ عن كوننا نوجّه أفكارنا في طرق مختلفة ولا نطالع الأشياء ذاتها. إذ لا يكفي أن يكون الفكر جيداً وإنما المهم أن يطبق تطبيقاً حسناً. إن اكبر النفوس مستعدة لأكبر الرذائل، كما هي مستعدة لأعظم الفضائل، وأولئك الذين لا يسيرون إلا ببطء شديد، يستطيعون إذا سلكوا الطريق المستقيم، أن يحرزوا تقدماً أكثر من الذين يركضون ولكنهم يبتعدون عنه. أما أنا فإني لم أتوهم قطّ أن لي ذهناً أكمل من أذهان عامة الناس، بل كثيراً ما تمنيت أن يكون لي ما لبعض الناس من سرعة الفكر، أو وضوح التخيّل وتميّزه، أو سعة الذاكرة وحضورها. ولست اعرف مزايا غير هذه تعين على كمال النفس، لأني أميل إلى الاعتقاد أن العقل أو الحس، ما دام هو الشيء الوحيد الذي يجعلنا بشراً، ويميزنا عن الحيوانات موجود بتمامه في كل واحد منا، متبعاً في ذلك الرأي الذائع بين الفلاسفة الذين يقولون انه لا زيادة ولا نقصان إلا في الأعراض، لا في صور أفراد النوع الواحد، أو طبائعهم... كما إن الإنسان هو مملكة الحرية عند "كانط"، فيلسوف الأنوار فيربط بين الحرية والقانون الأخلاقي، عندما يحدد طبيعة وماهية عصر التنوير في القرن الثامن عشر، باعتباره العصر الذي يحاول فيها الإنسان أن يحطم الأغلال التي وضعها هو بنفسه على معصمه، إنها الحالة التي يسعى فيها الإنسان إلى تحطيم دائرة الوصاية التي تسبب فيها بنفسه، وهي في نهاية الأمر العملية التي حقق فيها لعقله التحرر من الوصاية التاريخية التي فرضت عليه من الخارج. وهكذا ويؤكد "كانط" في الكثير من كتاباته أن شرط التنوير والحداثة هو الحرية، ومن بين سائر الحريات يؤكد على حرية العقل وحرية التفكير، كونها الحريات الجوهرية في مقولات "كانط" كون أن العقل يجب أن يتحرر من سلطة المقدس ورجال الكهنوت والكنيسة وأصنام العقل كي يستطيع أن يبني نهضته نحو الحضارة والحرية والمدنية والحداثة. أي إن الحداثة حسب "كانط" الحداثة في سياق إجابته عن سؤال "ما الأنوار؟" إن الأنوار "الحداثة" هي خروج الإنسان من حالة الوصاية التي تتمثل في عجزه عن استخدام فكره دون توجيه من غيره. أما "جون لوك" فيري انه لكي نفهم السلطة السياسية على الوجه الصحيح، ولكي نستمدها من مصادرها، لا بد من النظر إلى الحالة التي يعيشها الناس طبيعيا، وهي حالة من الحرية التامة في اختيار أعمالهم والتصرف بأشخاصهم وممتلكاتهم كما يرتأون، ضمن حدود قانون الطبيعة، وذلك دون استئذان، ودون الاعتماد على مشيئة أي شخص آخر. وهي أيضا حالة تسودها المساواة، حيث تكون جميع السلطة والولاية متبادلة، ليس لأحد أكثر من الآخر. انه لغاية في الوضوح والجلاء إن نفس الجنس والمرتبة، والذين ولدوا دون تمييز للتمتع بخيرات الطبيعة ولاستعمال نفس الملكات، يجب أن يكونوا متساوين ودونما تبعية أو إخضاع. هذا إلا إذا ولى الله (وبإعلان واضح عن مشيئته) أحدهم على الآخر، ومنحه (وبتعيين واضح وجلي) حقا غير مشكوك فيه للسيطرة والسيادة. ومع أنها حالة من الحرية إلا إنها ليست حالة من الإباحية. فمع أن للإنسان في هذه الحالة حرية للتصرف بشخصه وممتلكاته، غير أنه ليس حرا في تدمير نفسه أو تدمير أي مخلوق بحوزته، إلا إذا تطلب ذلك هدفا (أو استعمالا) أسمى من مجرد البقاء. ويحكم الحالة الطبيعية قانون طبيعي يلزم كل فرد. والعقل وهو ذلك القانون، يعلّم البشر إذا أصغوا إليه، انه لكونهم جميعا متساوين ومستقلين، فلا يجوز لأحدهم أن يؤذي الآخر في حياته، صحته، حريته أو ممتلكاته: بما إن الناس جميعا من صنع خالق قدير وحكيم، وبما أنهم جميعا خدام سيد حاكم واحد، أرسلوا إلى الدنيا بأمر منه، فهم لذلك ملكه الخاص، وما صنعه من المفروض أن يدوم وفقا لمشيئته، وليس وفقا لمشيئة أي إنسان آخر. وبما أنهم مزودون بنفس المكان والقدرات ويتقاسمون كل شيء في مجتمع طبيعي واحد، فلا يمكن افتراض أية تبعية بينهم تجيز لهم تدمير بعضهم البعض، كما خلقت مخلوقات المرتبات الدنيا لاستعمالهم. وكما أن على الواحد أن يحافظ على نفسه، وألا يتنازل طواعية عن موقعه، كذلك عليه قدر المستطاع (وعندما لا يتعارض ذلك مع بقائه) أن يحافظ على بقية الناس. كما وعليه أن يمتنع، إلا إذا كان ذلك من أجل معاقبة الجاني، عن القضاء على أو تشويه حياة الآخرين، حريتهم، صحتهم، أعضاءهم أو أملاكهم الخاصة. أما "روسو" في عقده الاجتماعي، فقد اعتبر الحرية صفة أساسية للإنسان وحقا غير قابل للسلب وغير قابل للتصرف، عندما يقول: ولد الإنسان حرًا وهو في الأغلال حيثما كان، ذاك يظن نفسه سيد الآخرين وهو ما انفك أكثرهم عبودية، ترى كيف حدث هذا التغيير؟ ذاك أمر أجهله، ما الذي يمكن أن يجعله مشروعًا؟ أظن أنه بإمكاني حل هذه المشكلة، وأول ما يستفاد من هذا القول لروسو، هو أن الحرية معطى أول بالنسبة للإنسان فالحرية لا تبارح الماهية الإنسانية، بل هي وثيقة الصلة بها بشكل طبيعي، ففي التمثل الافتراضي لحالة الطبيعة يصور الإنسان في وضع يتوافق مع ماهيته، إذ ينعم بمفرده بإحساس الوجود، ف"في هذا الوضع، كأنما الإنسان إله"، فالشخص يلتذ بذاته دونما حاجة إلى العلاقة، ويستقل بذاته بلا قسر ويشعر بالرضا حين يحس حياته الخاصة في ذاته، ففي حالة الطبيعة الحرية هي في المقام الأول ولا حاجة لأن تؤسس، إذ هي ملازمة لطبيعة الإنسان ذاتها، حتى أنه يمكننا اعتبارها صفته الجوهرية، وإن كان من الواجب إرساء الحرية من جديد فمعنى ذلك أنها فقدت، كيف حصل ذلك، روسو يدعونا إلى عدم انتظار جواب منه بهذا الخصوص، لكنه بالمقابل، يؤكد إمكانية جعل التغير الذي حدث في الإنسان مشروعًا، أي العمل على وضع مبادئ تقوم عليها الحرية في حالة المدنية بالشكل الذي ينمي ويطور الحرية الطبيعية، والعقد الاجتماعي ما جاء إلا لحل هذا المشكل، أي إيجاد شكل للتجمع يحمي ويحفظ بمجموع القوة المشتركة شخص كل واحد وممتلكاته، ويظل بواسطته كل واحد، وإن اتحد مع الجميع، لا يطيع سوى نفسه، ويبقى حرًا بنفس الدرجة التي كان عليها سابقًا. اما "هيغل" فيعتبر أن حرية التفكير والقرار هي السمة الأساسية المميزة للإنسان في العصور الحديثة، فهو يرى أن: الحق في الحرية الذاتية يشكل النقطة الحاسمة والمركزية التي تجسد اختلاف الأزمنة الحديثة عن العصور القديمة". وقد عبر هيجل عن هذا التحول النوعي في الفكر الغربي بقوله: "لقد تم الآن اعتبار الحق والأخلاقية قائمين على أساس إرادة الإنسان، في حين أنهما كانا في الماضي مدونين كأوامر متعالية مفروضة باسم الله عن طريق الكنيسة والعهدين القديم والجديد أو على هيأة حق خاص في مدونات خاصة أو اتفاقيات امتيازيه خاصة"، وبذلك يستخلص هيجل الأسس الفكرية للحداثة المتمثلة في أولوية مبدأ الحرية الذاتية الإنسانية بما يعنيه من إقرار بفردانية الفرد وحريته ومسؤوليته وحقه في نقد ما يتلقى أو ما يفرض عليه من طرف سلط التقليد، واستقلاليته في الفعل. اما "سارتر": فيري "إننا لا ندرك ذواتنا إلا من خلال اختياراتنا، وليست الحرية سوى كون اختياراتنا دائما غير مشروطة" ثم يضيف: "أننا لا ننفصل عن الأشياء سوى بالحرية، الإنسان هو وحده حامل الحرية في الكون، بلا حرية لا وجود للإنسان، وبلا الإنسان لا وجود للحرية". وهناك من ربط بينها وبين العقل باعتبار أن الحرية هي استجابة للعقل كما يحكي ذلك عن "اسبينوزا"، وهناك من يربط بين الحرية والإرادة كما ينقل ذلك عن "هيوم"، وهناك من يربط بين الحرية والقدرة على الوصول إلى الكمال، وهناك من يربط بين الحرية والقدرة على أن يطور الإنسان نفسه نحو الأفضل في جوانب مختلفة من حياته بما في ذلك الجانب الاجتماعي والجانب الفكري والجانب السياسي والجانب العلمي ...الخ. بيد ان الملاحظ ان الدالة المشتركة بين هذه التعريفات للحرية هي النظر اليها بوصفها قيمة مطلقة، تأتي في اعلى سلم القيم في سياق الموقف الحداثي منها، وتصبح هي الأساس الشارح لمعنى لسائر القيم الانسانية وعلى راسها قيمة الحق والمساواة والعدالة التي تعطيها قيمة الحرية معانيها وتبدياتها، كما سيظهر. فعلى سبيل المثال فانه طالما كان الحق هو مما ينبثق من إرادة الانسان، فان الانسان هو من يشكل بإرادته وحريته وحجم حضوره طبيعة الحق الحقيقة ومصدرها الأولى، فيكون الحق في نهاية الأمر صورة للإرادة الإنسانية التي تجعل من الحق في صورته الاجتماعية مبتدأ الحقوق وغايتها وليس من هداية الله سبحانه. وبذلك فقد اعتبر هؤلاء الفلاسفة أن الحق وان كان هو أسمى تعبير عن حرية الإنسان وكرامته الا ان الحرية هي اصله ومنشأة [1]. ف" توماس هوبز"، في "الليتان" يري بأن الحق يعتمد على الحرية، والمقصود بها حرية المرء بأن يفعل فعلاً أو يمتنع عن فعله"، اما "كانط"، فيري ان الحق هو مجموع الشروط التي يمكن للإرادة الفردية لكل واحد منا أن تتآلف في إطارها، تبعاً لقوانين كلية. لذلك كان التفكير في مسألة الحق يقتضي تفعيل القصد الفيزيقي داخل ما هو اخلاقي، على العكس تماماً من المنظور المكيافيلي الشائع، الذي ينزع كل صبغة أخلاقية عما هو سياسي. والحق أن الاختلاف الجوهري الذي نراه مع تعريفات الحداثة للحرية، ينصب في الحقيقة على قيمة الحرية بالنسبة للإنسان، لا على مكانة مفهوم الحرية نفسه، فعندما نقرأ للكثير من المفكرين والفلاسفة الغربيين تعريفاتهم لمعنى الحرية، فإننا نجهدهم يصفونها بالمعنى المطلق، كمعني مشترك بين اغلب تعريفات فلاسفة الحداثة للحرية وإن اختلفوا في المنظور الخاص بكل واحد منهم عند تعريفه قيمة الحرية ومنشؤها. والواقع إننا نجد ومن خلال تتبع تاريخي أولي، إن الذي شد الإنسان للبحث عن الحرية، هو ما رآه من ظلم مارسه الإنسان في مقابل أخيه الإنسان، سواء في السياسة أم في الاقتصاد أم في الفكر والعلم...الخ. مما يجعل أن المشكلة في بحث معنى الحرية ليس في البحث عن مفهومها بل في تحديد معني الحرية التي نعترف بقيمتها، فعندما نشرح مفهوم الحرية، فسنجد انه مهما عبرنا عنها، ومهما تكاثرت التعريفات بشأنها، فهي تعبير عن قدرة ما، أو عمل غير مقيد سواء كان عملاً بدنياً أم عملاً فكرياً، وعندما يكون هذا العمل وهذه القدرة غير محجوز عليها يكون العمل حراً والقدرة حرة. وإذا كان هذا الذي نفهمه من معنى الحرية، وحيث أن مجالها الفكر او العمل، او الاثنين معاً، وحيث أن العمل نفسه حركة بغرض الوصول إلى مقصد ما، وحيث إن القدرة نفسها هي فعل بغرض تحقيق غاية، فسيكون معنى ذلك أن الحرية نفسها وسيلة ما دامت صفة للسلوك والقدرة الذين هما في حد ذاتيهما وسيلتان أيضاً. ودلالة ذلك إن ما نعتقد صوابه في شأن التعريف بالحرية، فهو أن قيمتها غيرية، وهو تعريف يتجاوز القول بان للحرية قيمة في ذاتها، كما لاحظنا في الفكر الغربي عموماً، كما إن الكثيرين ممن حللوا مسألة الحرية لم يتمكنوا من إثبات هذه القيمة في المقابل، وربما انطلق البعض من ذاتية القيمة، كمسألة مسلمة أسس عليها مفهومه، دون أن يكلف نفسه عناء إثبات ذلك، علماً أن تأسيس هذا المبدأ سلباً أو إيجاباً له الدخل في كثير من المسائل التي ستتفرع حول البحث في مفهوم الحرية، والتي من جملتها إمكانية تقييد الحرية، وما إذا كان تقييدها ينافي قيمتها، مع غض النظر عن القيد المطروح. fadel ali [[email protected]]