1-7 أسعدني طلب زميلنا العزير الطيب علي السلاوي تحرير ونشر كتيبه عن مدرسة حنتوب الثانوية التي صارت الآن بعض جامعة الجزيرة. والكتاب عن سنواته فيها طالباً بين 1949 و1952. ولم تكن تلك خاتمة عهده بها. فعاد لها معلماً بها لاحقاً. ثم صارت بعض مسؤولياته كوكيل لوزارة التربية والتعليم قبل أن ينقل مستشاراً ثقافياً بسفارتنا بواشنطون. علاوة على احتكاكه بأجيال من الحنتوبيين حين خدم في السلك الإداري بجامعة الخرطوم لسنوات منتدباً من التربية والتعليم. عبد الله علي إبراهيم ورد اسم حنتوب إلى مسامعي لأول مرة من خلال حديث دار بين الوالد –عليه فيض من رحمة الله - وبين نفر كريم من رفاق دربه في مدينة ود مدني فى حوالى عام 1943إن لم تخني الذاكرة. وكنتُ حينها فى الصف الثالث من المرحلة الأولية – مرحلة الأساس- وكان الحديث يدور عن تزايد طلب الحكومه للأيدى العاملة فى مختلف أنواع الحرف اليدوية من بنائين ونجارين وغيرهم للعمل في إكمال تشييد مبان لمدرسة بُدئ فى إنشائها وارتفعت مبانيها على تخوم قرية "حنتوب "على الضفة الشرقيه من النيل الأزرق. وأرادوا منها أن تكون بديلة لكلية غردون التى كان يطلق عليها اسم"التجهيزي" نسبة لدورها فى "تجهيز" أو إعداد الدارسين فيها للتوظيف فى دواوين الحكومة . كان الوالد- المرحوم على الطيب السلاوي- دواما يروى الكثير عن أيام دراسته في كلية غردون من عام 1927 إلى أن تخرج في قسم المحاسبين في ديسمبر 1930 وعن معلميه وزملائه الذين تخرجوا في مختلف التخصصات . بطبيعة الحال لم يكن أمر إنشاء مدرسة على الضفة الشرقية من النيل الأزرق يشكّل يعنيني في تلك الأيام إلا لماماً. وتلك الأوقات عندما كان الوالد في أحاديثه المتصلة عن التعليم ( الذى كان يتعشقه منذ أيام دراسته وكان يمنّى نفسه أن يكون معلما بعد إكماله سنوات الدراسة في قسم المدرسين فى كلية غوردون) يحثني على الأجتهاد والمثابرة وبذل الجهد للالتحاق بالتجهيزي فى لاحق من الأيام. وكان ذلك منه رغم أنه كان لايزال أمامي عامان كاملان للوصول إلى المرحلة الوسطى ناهيك عن التجهيزى. وظلت أخبار تلك المدرسة تترى على مسامعي حينا بعد آخر إلى أن انتقلت الى المدرسة الوسطى فى بداية عام 1945.وبانتهاء ذلك العام غادرَنا طلابُ السنة الرابعة بمدرسة ود مدني الأهلية الوسطى بعد أدائهم امتحان إكمال المدارس الوسطى وامتحان الدخول للمدارس الثانوية. فتم قبول بعضهم فى كلية غردون التذكارية، والتحق نفر منهم بمدرسة أمدرمان الأهلية الثانوية، وجرى قبول آخرين بمدرسة التجارة الثانوية الصغرى بأمدرمان. ومنهم من سعِد بالتوظيف بالمصالح الحكومية في مدينة ودمدني. ومن ثَمّ بدأت شيئا فشيئا تتضح أمامنا بعض ملامح وآفاق مسارات تعليمنا فيما يستقبل من السنين. وبدأنا ندرك أن هناك تعليما ثانويا ينتظرنا .وبدأنا نسمع اسم "وادى سيدنا"، التي"برزت من قرابها"، فى بداية عام 1946 يرد إلى مسامعنا كمدرسة شبيهة بحنتوب التى بدات الدراسة فيها فى اكتوبر من نفس العام بعد انشطار كلية غردون. وبمرور الأيام ظل معلمونا يحدثوننا عن ذلك التعليم الثانوي الذى ينتظرنا وعن مدارس عليا من بعده تحفيزا وشحذا للهمم فضلا عما صرنا نسمعه ممن سبقونا دراسيا والتحقوا بأى من تلك المدارس. صارت تتبلور أمامنا الرؤى والأتجاهات وبدأنا نُمنّي أنفسنا ونتطلع للالتحاق بواحدة من تلك المؤسسات التعليمية ونواصل السعي جاهدين فى دأب ومثابرة لتحقيق تلك الطموحات والأهداف الغالية. واتتني الفرصة لأول مرة فى حياتي للعبور للضفة الشرقية من النيل الأزرق فى عام 1947 ولم يكن لدىّ أى تصور عما كان يعج به "الشرِق" (بكسر حرف الراء كما كان يطلق على كل المنطقة الواقعة على الضفة الشرقية للنيل الأزرق) من قرى متناثره هنا وهناك . كانت من بينها تلك القرية الوادعة المسماه ب"حنتوب" التى قام فى حماها الصرح التعليمي الذي صار غاية مطلبنا ومرادنا ان نراه أولاً ونتوق إلى الدراسة فيه فى لاحق من الزمان. ويشتد بنا الشوق إليها خاصة عندما نشهد من سبقونا إليه وقد تخلوا عن زي المدارس الوسطى من العمائم والجلاليب وصاروا يرتدون زياً افرنجيًا بديعا مثل "الخواجات". وكنا نرى هؤلاء الخواجات دواما على دراجاتهم فى الأمسيات جيئة وذهابا إلى محلات أبو شمس وسودان بوكشوب واجزخانَتَي الجزيرة والنيل الأزرق. ونسمعهم يتحدثون الأنجليزية التى كنا لا نزال في بدايات مشوارنا لإتقان مهاراتها. ونتعجب عندما نسمع من أولئك الذين سبقونا إلى حنتوب أن اللغة الأنجليزية هى وسيلة تدريس المواد الدراسية من رياضيات وعلوم طبيعية وجغرافيا وتاريخ. وكانت فى الغالب الأعم هى أيضا لغة التخاطب أثناء اليوم الدراسي في حنتوب لا سيما أن عددًا كبيرًا من المعلمين كانوا من الناطقين بغيرالعربية. وحتى أولئك الذين كانوا من الناطقين بالعربية من المعلمين السودانيين أوغيرهم من المصريين كان لا بد لهم من استخدام الأنجليزية بالضرورة عند مخاطبة رفاقهم من البريطانيين أو تباهيا أمام طلابهم بتمكنهم من ناصيتها. ومهما كان الأمر فان اللغة الأنجليزية كانت تفرض وجودها فى حنتوب وفى المدارس الوسطى حيث كانت لغة الدواوين الحكومية ووسيلة تدريس المواد المختلفة فى مرحلتي الدراسة بعد المتوسطة. وحتَّم ذلك على الطلاب السعى لتجويد مهاراتها لاستيعاب تلك المواد ضمانا للحصول على درجة النجاح فيها كمتطلب أساس لنيل شهادة كيمبريدج البريطانية عند نهاية الفترة الثانوية. فضلاً عن إشباع غرور النفس والأحساس بأهمية الذات أمام الأخرين" " يعنى إنو الولد بيعرف يتكلم انقليزي كويس " كجواز مرور ارتقاءً إلى طبقة أهل العلم والثقافة. وردت أحاديث وأقوال كثيرة ومختلفة عن أصل أسم قرية "حنتوب" وتاريخها وعن الظروف التي صاحبت انشاء المدرسة فى حماها. ولكن ما عُرف عن القرية ومما تناقله نفر كريم من رجالها وابنائها ان القرية تضرب بجذورها فى اعماق تاريخ تلك المنطقه الشرقيه من النيل الأزرق. وظلت تصارع الزمان فى موقعها الحالي بنزوح اعداد من مختلف الأجناس والأعراق الذين جاؤوها من أواسط السودان وشماله كما أقام بها بعض المغاربة والعركيين. فامتهنوا الزراعة المطرية وزراعة "الجروف" على شاطيء النيل الأزرق ومارس نفر منهم التجارة والمهن الأخرى فتأصلت الروابط بين سكانها القدامى وتصاهروا مع الوافدين إليها مما أدى إلى انصهار عادات وتقاليد ذلك النسيج من البشر، وتعمقت بينهم وبين أهالي القرى المجاورة أقوى الصلات وأعمقها. ومثلما كانت قرية حنتوب بوتقة انصهرت فيها تقاليد وأنماط حياة أولئك النازحين وخلفياتهم الثقافية فقد كان مسطوراً لها أن تكون رقعة مباركة من الأرض وموقعاً لمؤسسة تربوية شامخة شموخ من سعدوا بالدراسة فيها، أو بالعمل فيها معلمين سودانيين كانوا أو أجانب من كل عرق وجنس لفترات تمددت وتعدت العقد من الزمان. نشر المعلمون العلم بين ربوعها وقدموا عصارة تجاربهم لطلابها من السودانيين والأجانب ، فضلا عمن اتيحت لهم فرصة العمل فيها كعاملين سواء كانوا من أبناء القرية أو من خارجها الذين اتخذوا حنتوب موطناً و مقراً ومقاماً من بعد انتهاء فترات خدمتهم. أما طلابها الذين جاؤوها من كل حدب وصوب ومن كل فج عميق، من شرق السودان ومن غربيه وجنوبه، واختلطوا بأبناء الوسط النيلي من أبناء النيلين الأزرق والأبيض، والجزيرة الفيحاء، إلى جانب نفر من أبناء العاصمة أو ممن استضافتهم المؤسسة التعليمية العظيمة من أبناء الصومال وجنوب الجزيرة العربية من الحضارمة ومن أبناء اليمن السعيد يطلبون العلوم والمعارف والهداية والرشاد على أيدي كوكبة فريدة من المعلمين الأفذاذ؛ بريطانيين ومصريين وسودانيين وهنود فى لاحق الأزمان . رحم الله من انتقل منهم إلى رحاب ربه يجني الخلد والأجر وأمد في أيام من لا يزال ينتظر. فتوثقت عرى الصداقة والتواد والتألف بين ذلك النسيج من ثقافات وأعراق المعلمين والطلاب والعاملين على حد سواء. وأدى ذلك الى قيام اوثق العلائق والصلات بينهم أجمعين وظلت في تماسكها على مر الزمان وأصبح اسم حنتوب رمزاً لكل توادد وإخاء صادق بين الناس. ربما تساءل البعض عن أصل وجذور اسم "حنتوب" مثلما يتساءل آخرون عن ظروف وملابسات إنشاء الصرح الكبير في ذلك المكان الجميل. وهو مكان ظل وسيظل خالدا عبر السنين في نفوس ووجدان كل من جلس إلى حلقات دروس تلك الكوكبة من المعلمين، أو كان قد سعد بممارسة العملية التربوية فيه معلماً كان أو إدارياً، أو كانت له صلة قريبة أو بعيدة به . فما اجتمع اثنان من هؤلاء أو أولئك الأ وكانت "حنتوب" القرية أو المدرسة ثالثتهما يتذاكرون أيام إقامتهم فيها وطيب عيشهم بين ربوعها ويتمنون العودة إليها "حافين حالقين" فى يوم من الأيام. [email protected] //////////