كانت الخدمة المدنية في السودان تضاهي مثيلاتها في الدول الغربية، من حيث الالتزام بالوصف الوظيفي، والتأكد من شرائط التوظيف، وفقاً لمعايير وأسس منهجية، تضع قواعد ثابتة لنظام العمل. وكان هنالك فاصل معلوم بين الخدمة المدنية والسياسة، إذ أنه لا يحدث مغالطة بين الفهمين في أداء الواجبات الوظيفية. فالذي ينتظم في سلك الخدمة المدنية يخلع ثوب السياسة، تحزباً واستنصاراً للحزب الذي يهفو إليه، بينما من ينتظم في الشأن السياسي تجده يتحزب إلى حزبه، فلذلك ليست هنالك ثمة علاقة بين هذين المفهومين. وأحسب أن الخدمة المدنية التي ورثها السودانيون من البريطانيين بما عرف آنذاك ب"السودنة"، كانت تثير انضباطاً وعظيم التزام، لا يجد المرءُ فكاكاً من الانتظام في المسار الذي ينظم دولاب العمل، ومن ثم يشكل موجهات عامة ملزمة لمن انتظم في سلكها. وابتعدت الخدمة المدنية في السودان في سنينها الأولى عن المحسوبية، وبعض السلوكيات المشينة، إذ كان الانضباط والعدالة في التوظيف هو ديدنها، على الرغم من أن السودان في بواكير عهد استقلاله، كان أكثر اشتطاطاً في الانتماءات القبلية والمناصرة الجهوية، إلا أن الخدمة المدنية بُرئت من شبهات مثالب تلكم السلوكيات. وأحسبُ أن الخدمة المدنية في السودان بدأت تفقد بعضاً من بريقها، بعد ثورة 21 أكتوبر 1964، التي نادى بعض قادتها من أهل اليسار "التطهير واجب وطني". ومن هنا بدأ الفصل التعسفي والتوظيف المحسوبي يطغى على موجهات الخدمة المدنية، في مختلف المجالات والقطاعات. ودخلت الخدمة المدنية في السياسة من أوسع أبوابها منذ ذلكم التاريخ، إذ أصبحت القرارات السياسية هي التي تحدد المعايير والأسس في التعاطي مع الشؤون التوظيفية. فغيبت الكفاءات واستعلى أهل الولاءات على قمة الهيكل الوظيفي دون المرور بأشراط ومعايير قديم عهد الخدمة المدنية. وتسببت كل تلكم التداعيات في ضعف وتدني الخدمة المدنية، وبالتالي ضعف الأداء، ممّا دعا الكثير من أهل الخبرة والدراية في مجالات قوانين ونظم الخدمة المدنية، إلى الدعوة إلى إعادة النظر في كل هياكلها، لتعود الخدمة المدنية أكثر اقتراباً مما كانت عليه في خمسينيات القرن الماضي. أخلصُ إلى أن هذا الانهيار الذي أصاب الخدمة المدنية، لازمه مدخل آخر نخر في أساس بنيانها، وهو التسييس في الخدمة المدنية، وبعد أن جاءت الإنقاذ أدخلت –هي أيضاً- مفهوماً جديداً في الخدمة المدنية وهو التمكين، بحجة المنافحة عن النظام، والمدافعة عن سياساته، فلا غروَّ أن تعهد الأخ الرئيس عمر البشير بإصلاح شامل للخدمة المدنية، وتمكينها من الاستقلالية، والحفاظ على مفهومها، في إطار الكفاءة والعدالة في الشأن التوظيفي، وإبعاده عن التسييس الذي أضر بها أيّما ضرر. وجميل أن يتزامن حديث الأخ الرئيس عمر البشير عن عزمه على إصلاح هياكل الخدمة المدنية، مع بُشريات العام الميلادي الجديد. وكم كان جميل أيضاً أن يكون الحديث عن إصلاح الخدمة المدنية في حفل تكريم البروفسر إبراهيم غندور مساعد رئيس الجمهورية ورئيس اتحاد عمال السودان السابق، في قاعة الصداقة أول من أمس (الأحد)، معلناً بصوت لا مواربة فيه، ولغة لا لبس فيها، انتهاء عهد التسييس في الخدمة المدنية. وفي رأيي الخاص، كان من الضروري التأكيد على أن انتهاء عهد التسييس مقروناً بنهاية فترة التمكين في الخدمة المدنية، وذلك بإعادتها في السودان سيرتها الأولى. وقد زاد الأخ الرئيس عمر البشير في تعهده التزاماً آخر، بتأكيده أن التسييس والتمكين قُضي عليهما. فقد أصبحت الخدمة المدنية بعد اليوم، وفقاً لتعهد الأخ البشير، مفتوحة لكل أبناء الوطن، والفيصل بينهم الكفاءة في الاختيار والترقي، مؤكداً إعادة الخدمة المدنية سيرتها الأولى، لتكون فاعلة بحقٍ وحقيقة. وينبغي أن نسعى جميعاً إلى إنفاذ هذا التعهد لإعطاء الخدمة المدنية حقها ومستحقها، ليكون أهل السودان سواسة كأسنان المشط في التوظيف، وتكون الخدمة المدنية مرجعاً توافقياً لكل أبناء الوطن الواحد، وأن يكون العطاء مقابل الأداء، بعيداً عن المحسوبية التي عسفت بالخدمة المدنية، وكادت أن تعسف ببنيان مجتمعنا السودانية. فلذلك هذه الدعوة التي أطلقها الأخ الرئيس عمر البشير والتعهد الذي التزم به في ما يتعلق بانتهاء عهد التمكين والتسييس، يتطلب جهداً جماعياً ليتعافى المجتمع كله من الآثار السالبة والتداعيات الضارة الناجمة عن تدهور الخدمة المدنية في السودان. ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: " وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ". كما علينا أيضاً تذكر قول أمير الشعراء أحمد بك شوقي: وما نيل المطالب بالتمنى ** ولكن تؤخذ الدنيا غلابا