من الضّروري أن نبسط القولَ حول أمر التخطيط في هذا البلد، فإنه بحق أمرٌ في غاية العجب، إذ أنّ كل واحد يعزف لحنه منفرداً، وعن معزلٍ عن الآخرِ، حتّى في دولاب الدولة التي يحكمها نظام واحد ويسودها سلطان واحد، حيث يخضع وزارؤه ووكلاء وزاراته لسياساتٍ محددةٍ وإستراتيجياتٍ واحدةٍ، على الأقل، هذا ما تعنيه معنى كلمة دولة. أطلعني الأخ البروفسور مأمون محمد علي حميدة وزير الصحة بولاية الخرطوم على رسالة جاءته من سيدةٍ، زوجة طبيب وأم أطباء وأخت أطباء. تقول في رسالتها: "أشكو إليك الحال الذي وصل إليه الأطباء، خاصة أطباء الامتياز الذين يعملون 18 ساعة متواصلة في اليوم، لا يفصلها إلا وقت الصلاة بدون تسبيح في وقت (النبطشيات)، ويأتي بعدها الon call (الاستنجاد الهاتفي بالأطباء). ونحن نعلم أن عدد سكان العاصمة قد تضاعف، وأصبح أكثر سكان السودان يقطنون في الخرطوم. ابنتي تخرجت في إحدى كليات الطب بامتياز، وبدأت في تخصص الأطباء، ولكنها تركته بعدما رأت أن ساعات العمل في المستشفيات الكبيرة التي يفضلها من يرغب في التّعلم والتدريب أكثر، وأصبح كثيرٌ من النواب (نائب الاختصاصي)، بلا أخلاقٍ حتى أمام كبار السن من شدة الضّغط عليه. لا بأس من أن يعمل الطبيبُ ساعات طويلة تتخللها فترة راحة محددة بالساعة والدقيقة. لماذا لا نُعيِّن عدداً أكبر من أطباء الامتياز، ونُقسِّم الراتب عليهم، بحيث يحصل على 500 جنيه بدلاً من 1000 جنيه، فهناك الكثيرون الذين يريدون التعلم والتدريب فقط ولا يهمهم الراتب أو العائد المادي. يمكنك يا سعادة الوزير التأكد من صحة كلامي، فأنا قريبة من الحقل الطبي. وهنالك عدد من الأطباء بدأ الامتياز ولم يستطع مواصلة التدريب، وبعضهم سافر إلى الخارج بدل أن ينتظر أكثر من عامٍ للتعيين، وجزاءك الله خيراً". وحسب إحصائية حصلتُ عليها مؤخراً؛ فإن عدد الخريجين من كليات الطب في السودان وصل إلى 6 ألف طبيبٍ بشري وأكثر من ألفي طبيب أسنان، كلهم يقفون في صفٍ طويلٍ، صف إذلالٍ وهدمٍ لكل ما بذلوه في الجامعات من حماسةٍ، وما اكتسبوه من علمٍ، بحجة انتظار الوظائف التي تجود بها وزارة الصحة الاتحادية، وكأنها دُرر لا يمسها إلا المطهرون، حتى أنّ امتحان التسجيل في المجلس الطبي لا يصل إلى مقاعده إلا من حفيت قدماه، والجميع في حالة إحباطٍ تامٍ، والأسر التي لم يخلُ منها طبيب في المنزل، تنتهي بعددٍ مقدر من العطالة الذين ينتهي بهم عامُ الانتظار إما بتدخينِ الحشيش أو احتساء الخمر أو هربوا بجلدهم إلى الخارج لمصير غير معلوم. وأحسبُ أن الدولة بعدم اكتراثها لمعالجة هذا الأمر، قضت على مستقبل الأمة. وفي رأيي الخاص، أنّ القادرين من أبناء المغتربين، وآخرين دفعوا أبناءهم إلى تلك الدول ليعملوا فيها فترة الامتياز. وفي هذا الصدد، مررتُ بتجربةٍ شخصيةٍ، أودُّ أن أبسطَ القولَ فيها، وهي أنّ ابنتي الكبرى الدكتورة أمل طبيبة قضت فترة الامتياز في مستشفيات العاصمة بعد طويل انتظار، ولكن ابنتي الأخرى الدكتورة آلاء فهي طبيبة أيضاً، لما علمت أنّها ستنتظر طويلاً لتعمل فترة الامتياز في السودان، رأيتُ من الأوفق، أن استغل طول إقامتي في بريطانيا، وأن أُتيح لها فرص التدريب وعمل الامتياز في مستشفيات بريطانيا، تفادياً لما عانته شقيقتها الكبرى، على الرُّغم من حرصِها وحرصِي على التأقلم في العمل بالسّودان، فأُضطرت إلى العمل هناك. وثمّة ملاحظةٍ في هذا الخصوص، وهي أنّ القادرين على دفع ثمن تذاكر الطيران إلى أوروبا وأميركا، قد زحفوا إليها زحفاً. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن، أين كانت دولتنا الفتية، عندما فتحت كلّ هذه الجامعات، بدعوة ثورة التعليم العالي؟، ولماذا لم تتحسب لهذا الكم الهائل من الأطباء؟. أخلص إلى أنّ تدريب أطباء الامتياز لا يتعلق بإيجاد أماكن تدريب فحسب، بل هو محنة الرّاتب غير المجزي الذي تدفعه الدولة، حتى هذا أصبح عليها عسيراً. وفي لقائي بأحد مسؤولي وزارة الصحة في ولاية الخرطوم، أبان لي أن هنالك حاجةً ماسةً لأطباء الامتياز، حتى وأنهم سعوا مع منسقي الخدمة الوطنية لتنسيبهم ليعملوا في المستشفيات، وتحسب لهم فترة امتياز ضمن فترة الخدمة الوطنية، ولكن روتين إدارة التدريب في وزارة الصحة الاتحادية فشل في أن يتفهم معاناة الأطباء. عليه أنه من الضروري، البحث عن معالجة حقيقية لمعاناة أطباء الامتياز، الذين لا يجدون فرص تدريب في المستشفيات والمراكز الصحية. وأقترحُ أن تُعتبر فترة الامتياز جزءاً لا يتجزأ من دراسة الطب، باعتبارها التدريب العملي لما تلقوه في سنوات التحصيل الأكاديمي، ليصبح الخريج طبيباً مكتملاً، وهذه المعالجة ينبغي أن تكون من مسؤوليات الدولة في جامعاتها المتعددة، وهي أيضاً مسؤولية الجامعات الخاصّة، التي برعت في استخلاص الجنيه والدولار من جيوب الآباء. وبهذا يكون الخريجُ قد حصل على شهادة التخرج، إضافةً إلى إكمال فترة تدريب الامتياز. على كلٍّ، هذه الجامعات ينبغي أن تُسهم إسهاماً فاعلاً في ما عجزت عنه الدولة لتغطية تكاليف فترة الامتياز، ولتكن هذه المسؤولية مناصفةً بين كليات الطب والمستشفيات التي يتدرب فيها أطباءُ الامتياز. أقولُ إن الأطباء كما ذكرت صاحبة الرسالة التي وجهتها إلى الأخ البروفسور مأمون حميدة، هم عناصر مهمة في المستشفيات، ولولاهم لما قامت لهذه المستشفيات قائمة، ولعلهم هم الكادر الوحيد الموجود بعد منتصف الليل. وفي الغالب نجدهم يعملون آناء الليل وأطراف النهار، حتى أنّ كادر التمريض والكوادر الفنية الأخرى، تجد فرصة للنوم عدا أطباء الامتياز. أكتبُ هذا ولي تجربة مع بناتي الطبيبات خاصة تلك التي عملت في مستشفيات الخرطوم. لماذا لا يكون هناك تنسيقٌ بين وزارة التعليم العالي ووزارة الصحة في التصديق للجامعات الجديدة، بدلاً من أن نشهد يومياً كلية أو جامعة للطب تُعلن عن فرص القَبول؟. كل هذه الجامعات، حكومية أو خاصة تدعمها مستشفيات التدريب، بتدريب طلابها إما مجاناً أو بمبالغ زهيدة، ونعلم أنّ تدريب الطب في الأساس 80% منه في المستشفيات التي لا تقدم لهم إلا المريض الذي يتدرب عليه الطلاب. فأين الصرف إذاً؟! وإذا لم تصرف الجامعات على طلابها، لماذا لا تصرف على فترة الامتياز؟! السؤال البسيط، لماذا إذا عجزت الدولة عن دفع رواتب أطباء الامتياز أن تسمح للذين لا يرغبون في حافزٍ ماليٍّ بالتدريب وقضاء فترة الامتياز في المستشفيات والمراكز الصحية مجاناً. بعد كل هذا، نحتاجُ أن نسمع رأي إدارة التدريب في وزارة الصحة الاتحادية والولائية والجامعات حكومية وخاصة، والمنظومات التي تنظم مهنة الطب في السودان. ولنستذكر في هذا الصّدد، قول الله تعالى: "الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ * وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ". قول الشاعر جعفر البنعلي: الطبُّ في القلبِ والأشعارُ في صدري كِلاهما اقترنا كالدُّرِّ في البحرِ لم يُزرِ شِعرٌ بطبٍّ إن هما اقترنا كأنجمِ الليلِ ما ساءت إلى البدرِ [email protected]