The Black Hole of Kosti: The Murder of Baggara Detainees by Shaigi Police in a Kosti Barracks , Sudan 1956 Stephanie F. Beswick استفني. ف. بيزويك ترجمة وتلخيص: بدر الدين حامد الهاشمي مقدمة هذ هو الجزء الثاني من ترجمة وتلخيص لمقال عن حادثة عنبر جودة للدكتورة س. ف. بيزويك أستاذة التاريخ المشاركة بجامعة بول بولاية انديانا في الولاياتالمتحدة، وهي متخصصة في تاريخ الشرق الأوسط وأفريقيا والنساء الأفريقيات والإمبريالية البريطانية. ولم نشأ ترجمة عنوان المقال حرفيا لطوله، ولخطله الذي لا يخفى إذ أنه يقرر في العنوان أن الذي قتل المعتقلين "البقارة" هم رجال الشرطة " الشايقية"! هكذا ... قولا واحدا! تناول بعض الكتاب تلك الحادثة في بعض المنتديات الإسفيرية السودانية، ولكن لا علم لي بأي دراسات تاريخية جادة عن "حادثة عنبر جودة" بأقلام مؤرخين سودانيين من المهنيين أو الهواة، ولكن خلدت تلك الحادثة قصيدة الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم الشهيرة والتي تصف ما حدث لعمال مشروع زراعي خاص يقع على النيل الأبيض بالقرب من كوستي أعلنوا الاضراب عن العمل ورفضوا تسليم المحصول لصاحب المشروع فقامت الشرطة بحبسهم في غرف ضيقة سيئة التهوية فقضوا اختناقا. وهناك أيضا مسرحية د. عبد الله علي إبراهيم المعنونة "تصريح لمزارع من جودة" والتي نشرها عام 1991م نادي المسرح السوداني. وأتى الشاعر الراحل محجوب شريف أيضا على ذكر "عنبر جودة" في بيت في قصيدته "مهر الدم". وعلمت مؤخرا من خبير أن للأستاذ حسن العبيد مدني كتابا توثيقيا عن تفاصيل تلك الحادثة ومن كتبوا عنها صدر في عام 2008م. المترجم ********** ************* جاء في شهادة المفتش الزراعي بيزوك أنه: "كان ينبغي على شركة عبد المنعم محمد أن تدفع للمزارعين نصيبا مجزيا من الأرباح، إلا أنها لم تفعل، ولم يعط المزارعون حقهم حتى بعد أن جف عرقهم، وبعد مرور وقت طويل على بيع القطن الذي زرعوه. وكانت تلك الشركة قد استثمرت عائد بيع أقطانها في إنشاء مصانع جديدة لمعاصر الزيت من السمسم والفول السوداني وبذرة القطن، ولم يبق عندها ما تعطيه للمزارعين نظير عملهم. ولم يكن أمام المزارعين إزاء ذلك الوضع سوى الاحتجاج". وفي غضون تلك الأحداث، قامت في الجزيرة حركة إحتجاجية ضخمة إنتهت بإعلان إضراب عام في المشروع ضد الحكومة السودانية. وفي ظل تلك الأجواء الإحتجاجية ساد شعور عند مزارعي جودة بأنهم لن ينالوا حقوقهم من مالك المشروع. ورفض المزارعون الإستمرار في لقط القطن أو تسليم ما تم لقطه منه حتى تتم تسوية مستحقاتهم للسنوات الثلاث الماضية. وكان مما زاد من حدة تلك المطالب أن أسعار القطن في عامهم المنصرم كانت متدنية جدا، وكان المزارعون في حالة مزرية من الفقر والعوز، وكانوا يسعون لزيادة نصيبهم من عائد القطن، خاصة بعد تحسن أسعاره في العام التالي. ومع مرور الأيام بدأ المزارعون في تهديدنا. كنا نجد ومنذ بداية يناير وحتى فبراير (1956م) ملصقات ومنشورات عديدة في كل أنحاء المشروع تدعو المزارعين للثورة، ووردت فيها عبارات مثل " يا جماهير المزارعين... حطمواأغلال من اضطهدوكم..." وقبل يومين من قيام الإِضْرَابُتضاعفت موجات البيانات والمنشورات المكتوبة بخط اليد والتي علقت على الأعمدة وعلى القنوات. جاء في تلك المنشورات تحذيرات شخصية ليجاء فيها عبارات من شاكلة: " يومك جا يا بيزوك". واكتفت الحكومة بإلقاء باللوم لتلك الإضرابات على الشيوعيين دون أن تفكر في حل عملي لمشاكل المزارعين." ومع إزدياد حدة تطور الاحداث قامت الشرطة بتفريق المتظاهرين وفض الإضراب في شمال الجزيرة عن طريق التهديد واعتقال قادة الإضراب الذين كانوا يسعون لقيام إضرابات مماثلة في جنوب الجزيرة أيضا، وملاحقتهم في كل المشاريع لأسابيع عديدة حتى وصلوا مشروع جودة، والتي كانت آخر مشروع في جنوب الجزيرة، حيث جرت فيه معركة المضربين الأخيرة. ففي أواخر فبراير من عام 1956م واجه المضربون رجال الشرطة، إلا أن الصحافة في تلك الأيام لم تغط تفاصيل تلك المواجهة لأن مالك المشروع (عبد الحافظ عبد المنعم) كان قد منع مفتشه الزراعي بيزوك من أن يخبر أحدا في السودان بما جرى. وهنا يدلي الرجل– ولأول مرة- بشهادته فيما حدث في جودة. معركة جودة "في صباح يوم 20 فبراير 1956م كنت جالسا في مكتبي حين تلقيت مكالمة هاتفية من الجبلين تفيد بأن ناظر الخط في طريقه إلينا ومعه رجال شرطة بغرض الحديث إلى المضربين وتسوية مشاكلهم ومنع قيام الإضراب. يجب القول هنا بأنه وإلى ذلك التاريخ كان المزارعون قد توفقوا عن لقط القطن منذ بداية الشهر الماضي. وحضر الناظر وفي معيته رجال شرطة مسلحين بالبنادق، بينما توجهت سيارة نقل (لوري) وبها رجل شرطة وأربعة رجال آخرين إلى وسط المشروع حيث يجمع القطن ليرحل، وحيث تجمع المزارعون المحتجون وهم مسلحين بالحراب والفئوس. وتجمع في ذات المكان عدد من أناس كثر أتوا من مناطق مختلفة من الجزيرة، ولا يعلم أحدا على وجه الدقة من أين أتوا، غير أنه كان من الواضح أن الغرض الأساس لذلك الجمع من الناس هو منع أي أحد من العمال من أنيجمع أو يحمل القطن لخارج المشروع. لم أكن خائفا أو قلقا أبدا، غير أن تلك الملصقات والمنشورات كانت قد أثارت الخوف والهلع في نفوس المفتشين والعاملين الآخرين في المشروع. وفجأة أتى اللوري الذي كان يقل الرجال الأربعة الذين رافقوا رجل الشرطة لمقابلة المحتجين، وهم يصيحون قائلين بأن المضربين قتلوا شرطي الناظر وقطعوه إربا إربا. وعلى الفور اتصل الناظر هاتفيا طالبا مددا من رجال الشرطة المسلحين، فوصل بعد وقت وجيز نحو عشرين أو ثلاثين شرطيا مدججين بالسلاح. لابد أنهم كانوا في منطقة الجبلين وما حولها. وتوجهوا من فورهم نحو منطقة تجمع المضربين وبدأوا في إطلاق النار على الجمع دون تمييز. كان رجال الشرطةأولئك من الشايقية، وكان المحتجون من البقارة (لم تذكر المؤلفة كيف تأتي للمفتش الزراعي التحقق من ذلك. المترجم) وهم يحملونفئوسا وحجارة وبنادق عتيقة (ذكرت المؤلفة أن تلك ربما كانت بنادق قديمة هربت من أثيوبيا في الثلاثينيات حين كان أفراد قبيلتي النزّى والوقداب يعملون في تجارة الأسلحة والرقيق. المترجم). سقط في تلك المواجهة بين رجال الشرطة والمضربين نحو أربعين شخصا. بعد مضي بعض الوقت عاد رجال الشرطة إلى مكاتبنا وهم يقولون أنهم قد أفلحوا في "تسوية الأمر". وعلمنا أنهم فقدوا رجلين أو ثلاثة، ولم يذكروا عدد القتلى من المضربين، ولكنه كان عددا كبيرا. وأتذكر أن رجال الشرطة كانوا من الشايقية لأن ذلك سيكتسب أهمية في ما تلى من أحداث. وفي صباح اليوم التالي توجه كثير من رجال الشرطة الذين أتوا لجودة شرقا إلى النيل الأزرق، وتوجهت أنا بمفردي لموقع المعركة لجلب ما قد يكون قد جمع من القطن، إذ كان المفتشان الآخران قد لاذا بالفرار. لم تكن الحكومة تعلم تماما عدد من سقط في معركة الأمس، وبالفعل كان العدد كبيرا رغم أن كثيرا من الجثث كانت قد أزيلت من مكان الواقعة قبل حضور السلطات (سجلت المؤلفة في ثبت المراجع أن الحكومة كانت قد أصدرت بيانا عن الحادث قالت فيه أن ثلاثة من رجال الشرطة قد سقطوا وأن ثلاثة آخرين أصيبوا في الأحداث. وكان من المتعذر إحصاء عدد من قتلوا أو أصيبوا من المضربين إذ أن كثيرا منهم كانوا قد فروا في إتجاه الحقول المجاورة. ولكن أعلن فيما بعد أن 150 مزارعا قد قتلوا وأصيب أكثر من 500 منهم. المترجم). وفي الصباح الباكرلليوم التالي للمعركة سمعنا أصواتا عالية لثلاثة سيارات نقل من على بعد أميال. وتوقفت تلك السيارات بميدان واسع كان يستخدم مهبطا لطائرات الرش، ونزل منها عدد كبير من رجال الشرطة الشايقية قاموا وعلى الفور بإعتقال كل من كان موجودا في تلك المنطقة، والذين كان عددهم أقل مما كان موجودا بالأمس، وكانوا كلهم من رجال ونساءالنزّىوالوقداب الذين يقطنون تلك المنطقة وليسوا كلهم من مزارعي المشروع. وأمرتهم الشرطة بالجلوس أرضا في ذلك الميدان لساعات طويلة تحت أشعة الشمس الحارقة. وكان على رأس تلك الفرقة المهاجمة قاض باكستاني كانت مهمته تنحصر في فحص وثائق الاتحاد والاشراف على ترحيل كل المعتقلين إلى كوستي حيث سيتم التحقيق معهم. قال بيزوك عن ذلك: "شاهدنا ما كان يجري من شرفة دارنا ... كنا ننظر إلى نحو ستمائة شخص جالسين حول منزلنا فيما بدا لنا منظرا بالغ الغرابة. وكنا نقول بأن الشرطة لو اعتقلت المضربين في غضون ساعات المعركة بالأمس لكان تحت قبضتها كل من دبروا ذلك الإضراب، بيد أنهم أضاعوا الفرصة بتأجيل الأمر إلى اليوم التالي". وكانت ستيلا زوجة بيزوك قلقة على صحة النساء المعتقلات تحت أشعة الشمس، وترى أنهن برئياتولا دخل لهن في ما جرى من اضطراباتفألحت على زوجها كي يذهب إلى القاضي الباكستاني ويقنعه بأن لا دخل لهؤلاء النسوة بما جرى أو يجري في المنطقة، وأنها تشهد بأن كثيرا من المعتقلين كانوا بالقرب من منزلها أثناء معركة الأمس. وطلب منها القاضي أن تحدد له هؤلاء ففعلت بأن وضعت يدها على عدد كبير من رجال النزّى فأطلق القاضي سراحهم فورا، وبذا أنقذت حياتهم. جاء في شهادة بيزوك ما يلي: "وفي حوالي الرابعة عصرا أطلق سراح كل النسوة المعتقلات، بينما أمر القاضي بترحيل 278 رجلا (كان من بينهم رجل عجوز يبيع بيض الدجاج في المنطقة!) إلى كوستي التي تبعد مئة ميلا في سيارات نقل كنا نستخدمها في نقل القطن". مجزرة كوستي عثر في صباح اليوم التالي على جثث 194 من البقارة المعتقلين في سجن بكوستي. إن أحد أغراض هذا المقال المهمة هو إثبات أن حادثة جودة لم تكن حادثة عرضية كما زعمت الحكومة. وتبين كثيرا من الروايات المروعة المنشورة عن مصير أولئك الرجال وبوضوح أن رجال الشرطة الشايقية قد مارسوا ضدهم انتقاما بشعا بسبب مقتل زملائهم في جودة. فقد حبسوا 281 رجلا في عنبر واحد مغلق الأبواب والنوافذ، ولم يستخدم منذ ثلاثة أشهر مضت، قيل أن مساحته لا تتجاوز 120 مترا مربعا (12x 10 أمتار). وكانت درجة الحرارة في كوستى في ذلك اليوم 104 درجة فهرنهايت (40 درجة مئوية). ولم يستجب رجال الشرطة لنداءات واستغاثات المسجونين، بل سخروا منها وتهكموا عليها. وقضى بعضهم نحبه وهم في حالة صراخ هيستيري، بينما تكومت أجساد الكثيرين منهم فوق بعضها طوال الليل. وأوضحت الجروح التي وجدت لاحقا في أيدي وأرجل المسجونين، والدماء التي سالت على الجدران عنف المحاولات اليائسة والمحمومة التي قام بها بعضهم للوصول إلى نسمة هواء قبل أن ينهاروا من قلة الهواء وفرط الحر. نجا ثلاثة من المسجونين من الموت، وروى هؤلاء أن رجال الشرطة كان يقولون لهم ردا على صيحات استغاثتهم بأن الموت أفضل لهم. كان المسجونون يحاولون كسر النوافذ طلبا للهواء، غير أن رجال الشرطة ظنوا أن تلك كانت محاولة للهرب فأطلقوا الأعيرة النارية على النوافذ. وشهد أحد الناجين بأن المعتقلين كانوا قد أحدثوا في البدء ضجةإحتجاجية عالية عندإدخالهم لذلك العنبر لم يأبه لها رجال الشرطة والذين أمروهم بالسكوت. ومع مرور الوقت واشتداد الحر وتناقص الهواء وحدوث الاختناق بدأ المعتقلون يناشدون الشرطة أن يعطوهم بعض الماء، إلا أن مطلبهم قوبل بالتجاهل التام. ونحو منتصف الليل بدأ الكثيرون في الانهيار فأضطر بعضهم لخلع ملابسهم ووقف قليل منهم على أجساد زملائهم طلبا لنسمة هواء. وجاء في شهادة ذلك الناجي أنه نجح في خرق أحد النوافذ وأفلح في الخروج من العنبر فأطلقت عليه الشرطة أعيرة نارية. لم ينج من تلك المجزرة غير 93 فردا. وذكر أحد الأطباء الذين شاهدوا ما حدث للمعتقلين بأنه كان يصعب التفريق بين الأحياء والأموات في ذلك الجمع البائس من المعتقلين المحشورين في ذلك العنبر الضيق (وردت تلك الشهادة في صحيفتي "هيرالد" و"سيدني مورنق هيرالد" الاستراليتين في يوم 24 و25 فبراير 1956م). وكان أخذ رجال الشرطة للقانون في أيديهم وتحويلهم قوة الشرطة ل "قوة ارهابية" هو أحد المسائل المركزية في البلاد حتى في السنوات التي سبقت الاستقلال، وظلت كذلك لعقود بعده. وصرح علي عبد الرحمن وزير الداخلية حينهامعلقا على الأحداث التي وقعت في الجنوب بأن "هنالك الكثير من الاحتكاك بين الشرطة والإدارة"، وصرح آخر بأن الشرطة في الأقاليم تعد نفسها محاسبة فقط من قبل قائدها في الخرطوم، وأن السودان قد يتحول إلى "دولة بوليسية"، خاصة في المناطق الأقل نموا وتطورا، حيث تسود الأمية والتخلف وقلة التدريب في أوساط رجال الشرطة، خاصة في جنوب السودان، والذي يجاور مشروع جودة. ولعل رجال الشرطة (الشايقية) الذين اعتقلوا المزارعين البقارة كانوا يظنون أن بمقدورهم فرض ما يرونه من عقوبة على هؤلاء الناس دون مساءلة من حاكم الإقليم. وأوردت ثلاثة من صحف الخرطوم عقب تلك الحادثة نبأ اجتماع لقادة النقابات في الخرطوم دعوا فيه لإنهاء إجراءات الشرطة التعسفية. ربما كان للتنافس العرقي بين الشايقية والبقارة يد في ما حدث في جودة. فالسياسة في السودان كما ذكرنا من قبل كانت تقوم على حزبين كبيرين تدعمهما طائفة الأنصار (وغالب أفرادها من البقارة) وطائفة الختمية (وغالب أفرادها من من الشايقية، وهم الفئة الأكثر في قوة الشرطة). وكان رئيس الوزراء ووزير داخليته من الختمية كذلك. وللصراع بين الطائفتين واتباعهما جذورا تاريخية معروفة تمتد إلى القرن التاسع عشر. لم تدع الحكومة فرصة الأوضاع الأمنية المتفجرة بالبلاد من قتل في كوستي ومظاهرات تلت ذلك الحادث تمر دون إستغلال، فقامت باعتقال عدد من قادة النقابات المحتجة والتجمعات السياسية (مثل بعض زعماء الجبهة المعادية للاستعمار) والنقابات المهنية المعارضة، وبعض النواب البرلمانيين، وحكمت على من نجا من الموت في عنبر جودة بثمانية عشر شهرا سجنا. وأفلحت تلك الاجراءت في صد المتظاهرين عن النزول للشوارع أو عن الاحتجاج على ممارسات الشرطة. حفل التقرير الذي وزعته الحكومة في محاولتها تبرير وتفسير ما جرى في جودة وكوستي بكثير من الأخطاء. فقد جاء فيه أنه كان يظن أن هؤلاء المزارعين ربما كانوا قد أصيبوا بنوع من العدوى أو الخمج (infection) في أثناء هربهم... وأن الحادث قد يكون قد حدث نتيجة إهمال من قبل عناصر تفتقر إلى الخبرة... وأن الحادث كان نتيجة لمؤامرة دبرها الشيوعيون وأذنابهم من العناصر المخربة الخ الخ. رغم حرص الحكومة على جذب الاستثمار للبلاد وإشاعة صورة له كبلد آمن مستقر إلا أن نبأ تلك الحادثة عم كل الصحف ووسائل الإعلام العالمية في كثير من دول العالم كمصر وأوروبا ,امريكا وأستراليا. فقد سارع هنري كابوت لودج مندوب الولاياتالمتحدة في الأممالمتحدةبزيارة السودان في يوم 26 فبراير من عام 1956م لبحث أمر مساعدات الأممالمتحدة للبلاد، واستقبله عمال السكة حديد (وكانوا في حالة اضراب) بمظاهرة صاخبة دعوا فيها لسقوط "حكومة الاقطاع". ولمنع انتشار أخبار تلك الحادثة أمر عبد الحافظ عبد المنعم (رئيس مجلس إدارة مشروع الجزيرة ومالك مشروع جودة) موظفه بزويك وزوجه بأن لا يدليا بأي حديث لصحفي أو لغيره عن ما شاهداه، بل ووصل بطائرة خاصة لجودة قادما من الخرطوم حيث أمرهما بمغادرة جودة فورا إلى الخرطوم ثم القاهرة. وفي مطار الخرطوم قابلهما عدد من الصحفيين الأجانب منهم نويل باركر مراسل "لندن تايمز"، وكانت إجابتهما الثابتة على كل سؤال وجه لهما هو "لا تعليق... لا تعليق... لا تعليق"! ذكرت أستيلا بيزويكفي شهادتها أنه في صبيحة اليوم التالي لنقل المزارعين المعتقلين من جودة إلى كوستي أنها وزوجها سمعا نبأ المجزرة من راديو استراليا، والذي وصفها بأنها "ثقب كوستي الأسود". وفي آخر المطاف قامت الحكومة بإعتقال ضابطين من ضباط الشرطة وعدد من جنودهما ووجهت اليهما تهمة التسبب في مقتل معتقلين نتيجة الإهمال. وكانت تلك محض حركة مسرحية بغرض إمتصاص الغضب الشعبي (والعالمي) لما حدث، إذ سرعان ما أسقطت تلك التهم وأفرج عن المعتقلين. ثم أعلنت الحكومة عن تكوين لجنة تحقيق في الحادث خلصت إلى وجوب منح تعويض مؤقت لأسر من فقدوا أرواحهم في الحادثة. وحتى تلك المحاولة لم يكتب لها أن تتم. بيد أن بعض الجهات في كوستي وغيرها قامت بمد يد العون لأسر الضحايا. لم تتم أي نوع من المحاسبة أو العقاب لكبار الإداريين في المنطقة، بل ترقوا في المناصب، وظل عبد الحافظ عبد المنعم رئيسا لمجلس إدارة مشروع الجزيرة (على الأقل حتى عام 1961م). [email protected]