ترجل خلف الله من على ظهر حماره ، فك الحزام ، الذي يثبت السرج ، من حول بطن الحمار ، وراح يصفر له ليقبل على الماء. نظر خلف الله إلى رفيق مشواره علي بغضب ، إذ ظل على ظهر حمارته التي بدت جاهدة تحاول لعق الماء لعقا ، وقد برك بجانبها جحشها الصغير ليصل إلى الماء وصاح خلف الله في على ( خلى عندك دم وريح الحمارة عشان تشرب كويس ، أنزل نزلن ضروسك) لم يأبه على لطلب خلف الله ، ولا لنبرة صوته التي احتدت ، ولم يهمه احتمال نزول أضراسه . فلم يترجل عن ظهر حمارته، نظر إلى خلف الله وأحدث صوتا في حنجرته دون أن يفتح فمه ، وبقى متكوما على ظهر الحمارة. إذا نظرت لعلى آنذاك ، ستفور داخلك مشاعر غير طيبة ، من ضعف التناسب الشديد بين ضخامته وقصر وضعف حمارته ، إذ تكاد قد ميه تلامسان الأرض وهو ممتطيا تلك المسكينة، الجمود الغبى الذى يطالعك به، وعدم الإكتراث لما حوله. ولك أن تصبر أ و تفعل كما يفعل بعضنا إذ يدعون الله أن يصلح حال على وينجيهم من جشعه وغلظة طبعه. كمن أفاق من إغماءة قال على ( تصدق ياخلف الله ، الصباح دا، لقيت قزازة فيها باقي عرقي وحقة صعوط جنب حمارتي وظاهر اللعب والعفار فيها) تجاوب خلف الله مع على بالكيف الذي يخفض درجة غضبه عليه قائلا له ( بارك الله فيهم أدوها غذاء عارفنك مجوعها ، وإنت في زمنك خليت حمارة ، والغنم ذاتن لحقتهن ) لم يغتظ على من رد خلف الله وقال ( أنا عارف دا يكون جنا مريم ابو رأسا مقدوس ، ما شايف الدحش دا يشبهه) ضحك ، مستهزئا، خلف الله وقال ( يكون يا البوم، نجض كلامك ، تقول الحصل ليلة البارح ودحشك مباريك ليه أربعة شهور ويشبه حامد ود مريم كيفن ؟ أنت الدخلتك من مريم ما بتمرق تانى وبركة الأبت تعرسك، كانت شافت الويل معاك بطمعك وطبعك الشين ) عشرون عاما إنصرمت منذ لم توافق مريم على الزواج من على، تزوجت هى وتزوج هو بأخرى وفى نفسه مكتوم توقه إلى مريم وحنق عليها، يفضحه كثيرا لم يدرك على المفارقة في حديثه، ولم يأبه أن يعزز ما قال بأن حامد ود مريم من زمان زبون محب لحمارته ، وتعود على نعته بالبوم وغيرها، وصعدت مريم داخله كسكين حاد ، ارتفع معدل تنفسه، واحدث شخيرا ، فعض سبابته وهز رأسه يمنة ويسرة. آثر خلف الله الحديث مع نفسه وهو ينظر إلى على، بمزيج من مشاعر الضيق والامتعاض اللذان لا يخلوان من الإشفاق . (استدارت صفيحة الكيل عندك يا على ، لم تعد مربعة في أعلاها ، أزلت أركانها وصارت أسطوانية أو هي أقرب لبرميل صغير . أنت و مكيالك، الصفيحة،كلاكما متجهم، وفاغرا فاه ، ليبتلع في شره واضح، البائس من الناس وحصادهم، وهو شي قليل من بلح وحبوب يحصدان بعد حول تنسج خيوط عنكوبتك، حولهم طوال العام ، يستدينون منك ، ما يسكت الجهال ويقيم بعض الأود، ويستر عورتهم، هى الجرورة فى دفترك الكئيب مثل ملامحك التي خلت من ذرة رحمة أو شفقة. وقالوا أنت ماك غلطان دورت صفيحتك وبقت تشبهك تشترى منهم بلحهم وحبوبهم وتعرضها معبأة في جوالات بسوق كريمة ، مثل منشار في خشب هش أنت، طالع يأكل ، نازل يأكل ، و أنت مشترى تربح ، وبائع تربح ) حاول على نزع سكين مريم من صدره، بأ نفاسه المتلاحقة والزفير الذي هو إلى الشخير والحشرجة أقرب. علي ولد محمود، ومحمود لم يكتم عن ابنه، مآخذه على جشعه وشكوى الناس منه، وإطلاق سيئ الصفات عليه، إفراطه في الأكل،حتى غدا المثال، اتساخ ملابسه وجسمه رغم نمو المال لديه. يقول محمود لزوجته فاطمة ( على جنانا دا، جبدوه أخواله، والخال والد، بس كمان هو زاد فوق طمعهم زيادة) تغضب فاطمة وتبرئ أخوانها من صفة الطمع وتلصقها بزوجها و آله. يتجاذب فاطمة ومحمود حول ابنهما على ويتكرر الجدال ، وتذهب فاطمة لشيخها ود البتول وتأتى لابنها بحجاب، حتى ملأت التعويذات عنق وذراعي ابنها على ، خائفة عليه من الحسد والعين، وكثرة الدعاء عليه ونبذه بالألقاب ولكي يصلح حاله. لم يستطع على فهم وتجاوز واقعة عدم قبول مريم الزواج به ، وهو من هو ،لديه أطيان ودكان ، وفضلت عليه الحسن ، سائق كراكة ب 114 القرشي بالجزيرة. ربنا ما قسم ، تلك هي الإجابة التي حصل عليها أبوك من والد مريم ، وتناقلتها القرية بروايات وتفاسير شتى ، كلها أغاظتك وأثارت غضبك ياعلي، ثم تزوجت مريم بعد عام من رفضك بالحسن. (مريم ما رضت بك) هي الحقيقة والصفعة في الروح ، تطعنك عميقا من الداخل ، وتأتيك من الخارج ودوما تراها في عيون من حولك سهام مصوبة نحوك باستمرار، ولا تذكر أحدا منا ، تقدم لواحدة من بناتنا وعاد خائبا. ( بس أنت براك) تقولها لك ابتساماتهم الهازئة. فتصرخ أمعاؤك ،( بس أنا براي؟). سؤال استقر في حشاك، فأجبته أن زدت مكيالك سعة، ليبتلع أكثر من غلتهم. لعلك تأخذ منهم بعض، كل، أو أكثر مما أخذوا منك. تزوج الحسن مريم وتركها بالبلد ، في ذات بيت أبيها ، يرسل لها مصروفا شهريا وطرود متبادلة في رمضان والأعياد، ويأتيها كل عام في أجازته السنوية،مثل الكثيرين من أبناء القرية، وقد وصار لمريم والحسن، من البنين ، ولدين وبنت . يقول أبناء القرية العاملين بالجزيرة أنهم يعملون بالخلاء فيما كان يسمى بمشاريع البناء والتعمير، يصيبون من الأجر الإضافي ما قد يقارب أجورهم المربوطة لهم ، ويأتون للمدينة لثلاثة أيام للترفيه كل شهر، حال يصعب معه اصطحاب الأسر. فيبيت أمرهم وأسرهم محرج ، تسربت إليه مصاعب و شكوك وتساؤلات وسلبيات. ولم تعمر البلد هنا أو هناك. وظلت مريم بالبلد، هي لك يا علي كحادثة، أورثتك عاهة استدامت، في غدوها ورواحها، طعنات تخرج منك زفير وتصيبك بانقباض، لا يفرجهما سوى هزك المكيال ليأخذ من بضاعتهم المزيد. نام على وشخر، وحمارته لم تروى ظمئها بعد، إرتفع شخيره فأنتشل خلف الله من حديثه الذي طال مع نفسه، حول رفيقه علي. تبرم خلف الله من الحال التي كان عليها رفيقه علي، نائم ويشخر على ظهر حمارته. وكز خلف الله بعصاه علي، صائحا ،( أخجل، تنوم فوق ضهر الحمارة وتشخر كمان، قوم قامت قيامتك) ذعر على ، فقد توازنه ، سقط في منكبا على وجهه في جدول الماء ، إلتفاف حبل حمارته حول ساقيه منعه من النهوض ، فصار يتحرك ، ووجه غاطس في الماء، كديك بعد الذبح. حمارته التي داهمها سقوطه، فرت فشد ت الحبل، حجز حافة الجدول لجسم على ، وثقل ذلك الجسم أبقيا على في الجدول اضطرب، ثم أسرع خلف الله لمساعدة على ولكن ضخامة وكبر جسم على ومحاولة الحمارة الهروب، وشدها الحبل ، حالت دون رفعه، فأخذ خلف يصيح طالبا النجدة (يا مروة ...مروة المروة ) أتى نفر مسرعين استجابة لصياح خلف الله و أعانوا على قطع حبل الحمارة، وفك ساقي علي ورفعه، وجدوا أن الماء قد أخذ من على بعضه وترك لهم ما أدركوه، جسد خرجت منه الروح، فتشهدو. أسرع واحد منهم ودلف لأقرب منزل وعاد يحمل سريرا، وضعوا الجثمان على السرير وحملوه قاصدين منزل المرحوم، يلفهم صمت خالطه الإستغراب حول تلك الوفاة. تمدد الأستغراب والتساؤل حول موت على بذاك الكيف، إذ لم يغرق أحد بديارنا بجدول من قبل. فقدنا بعض أعزائنا غرقا بالنهر، وأغرقنا النهر وازدرد بقليل أملاكنا مرات، لكن الحفائر والجداول لم تأخذ منا روحا. وعلي ود محمود أعانت حمارته ذاك الجدول على قتله. توشك عيون بعضنا أن تنطق مفسرة استغرابها والتساؤل ، ثم تحجم . انتظرنا سليمان ود ست أبوها أن يقول كعادته، منبريا، حين يتوارى خلف الصمت الكثيرون. بفتور، تبسم سليمان ود ست أبوها في وجوهنا بحال أقل بكثير مما اعتدناه منه، و كمن يرثينا، ثم انفجر ضاحكا، مستعيدا حاله الذي نحبه، حين رأى حمارة المرحوم على ود محمود وعلى ظهرها ابنه البكر هاشم وأمامه حزمة برسيم سيدأحمد العراقى