النشاط المدرسي أو النشاط (اللاأكاديمي) كان سمة من سمات التعليم في زماننا وقد ساهم ذلك النشاط في كشف وتحفيز و(تفريخ) العديد من مواهب الطلاب الذين برزت هوايتهم من ذلك النشاط حيث اكتشف العديد من اؤلئك مواهبهم و (اتجاهاتهم) غير الأكاديمية التي صقلتها تلك الانشطة، ففي هذا النشاط تتبلور كثير من المواهب الفنية أو الشعرية وغيرها وتصقل بعد اكتشافها والتعرف عليها. وكنت في المرحلة الثانوية حريصا على ذلك النشاط الذي اعطيته كثيرا من الاهتمام فكنت لا أغيب عن (حلبة) النشاط المدرسي طيلة أيام الاسبوع الدراسي حيث كنت منتظما في النشاط الرياضي والثقافي والموسيقي والعسكري، بمدرسة ودمدني الثانوية، وقد كان النشاط الرياضي يتمثل في أنشطة (المنازل) وقد تم تقسيم طلاب المدرسة الى تلك المنازل، وهي كالفرق التي تمارس جميع ضروب الرياضة التي كانت تمارس في المحيط المدرسي في ذلك الزمان وعلى رأسها كرة القدم والسلة والطائرة. اما النشاط الثقافي فيتمثل في الصحف الحائطية واقامة الندوات الادبية والليالي الشعرية وغيرها. والعسكري يتمثل في التدريب العسكري الذي كان في بدايته اجباريا بالنسبة لجميع الطلاب الا أنه خفف ليصبح اختياريا ولكن بالرغم من ذلك فقد انخرطت في صفوفه (النشاط العسكري في مدرسة ودمدني الثانوية كان بقيادة الصول عبد العاطي والصول حسين). اما بالنسبة للموسيقى فقد كنت مولعا بها وبخاصة الة (الكمنجة) التي كنا ندرسها واسلوب العزف عليها والنوتة الموسيقية على يد الاستاذ الكبير (الصول) محمد قسم الله (المليجي) الذي كان مبدعا فيها وذا مواهب متعددة في فن العزف على عدة الات، اذ كان بارعا في الكمنجة نفسها بالاضافة الى العزف على معظم الات الجاز (النفخ) مثل الطرمبة والطرمبون. وقد كنت مشتركا في النشاط الموسيقي بشقيه فرقة (الجاز) و (الوتريات) حيث كنت في الاولى العب على الة (الطرمبة) وفي الأخرى عازفا معتمدا للايقاع في فرقة المدرسة الوترية التي كانت تضم العديد من العازفين المبدعين والذين برزوا في الة الكمان اذكر منهم الاستاذ الفاضل السنوسي (الفاضل) هو اسمه كما أنها صفته ايضا، والمهندس يحي عبد الحي وعباس حمدين والعازف الماهر في الة الاكورديون الاستاذ خالد حجر. بجانب النشاط الموسيقي كان يستهويني الاعلام بشقيه الاذاعي والصحفي، حيث كنت ميالا الى الصحف الحائطية من حيث تحريرها واخراجها فنيا. وكانت هي الهواية الملازمة لي حتى في النشاط الذي كان ينتظم الحي الذي اسكن فيه وكان يعرف بحي (التجارب) وهو الحي التابع لهيئة البحوث الزراعية بمحطة ودمدني. ففي ذات الحي كان النشاط الثقافي والفني والرياضي متقدا حيث عهد لي برئاسة تحرير الصحيفة الحائطية التي كانت ضمن نشاط اتحاد الشباب الذي يتخذ من النادي منطلقا له. وكان النشاط الفني يتمثل في اقامة (ليالي السمر) لسكان الحي التي تضم فقرات متنوعة تشمل الغناء والطرب والتمثيل والفقرات المسلية. وكنت ايضا مولعا بدور المخرج المسرحي. اما ولعي بالصحافة فكان كبيرا ومتزايدا، فقد كنت احفل واهتم بالشئون الصحفية للصحيفة االحائطية من كل جوانبها من حيث اللغة والاسلوب والتحرير والاخراج الفني وجودة الخط الذي تكتب به الجريدة أو الصحيفة حيث كنا نحرص على اختيار الخطاطين من الطلاب الذين يتمتعون بقدرة عالية ومتمكنين في فن الخط العربي، اذ كانت المواد تكتب بخط اليد. وكذا الخطوط العريضة التي كنا نحرص ايضا على جودتها واتقانها، (ولا أنسى فضل الأخ الخطاط الزميل زاهر محمد مفتاح الذي زاملني في المرحلة الوسطى وكان مجيدا في الخط العربي، وقدم لي كثيرا من المساعدات والارشادات التي دعمت موهبة الخط العربي عندي)، فضلا عن اسلوب الاخراج الفني لصفحات الجريدة الحائطية واختيار هيئة التحرير التي تشكل منظومة ممتازة من الطلاب المتفوقين والموهوبين في هذا المجال. ودفعني اعجابي بفن الصحافة أن اشدد على تطبيق كافة الخطوات والاساليب المتبعة في اصدار الصحيفة العادية، التي تشتمل على دراسة واجازة كافة النصوص المقدمة للنشر من حيث صلاحيتها وجودتها وعقد اجتماعات التحرير التي تناقش جميع الاساليب والامور التي من شأنها اخراج الجريدة في الثوب الأمثل للقراء. وذات مرة (شطحت) وانا أدير اجتماع لهيئة تحرير لصحيفتنا الحائطية التي لا اذكر اسمها الآن. وخاطبت المجتمعين وقلت لهم بأسلوب جاد: الا تستمعون الى هدير المطابع وهي تطبع صحيفتنا المتواضعة فسخر مني كل الزملاء الذين كانوا حضورا للاجتماع، ولكن في تلك اللحظة كنت أنا في عالم أخر بالفعل فقد (سرح) خيالي الى دار الصحيفة وماكينات الطباعة التي كانت تدور بكل قوة بايقاع رتيب وهي تقوم بالطباعة على الورق الذي كان في بكرات ضخمة. كان ذلك الاجتماع في نادي العمال الثقافي بحي التجارب، ودمدني التابع لهيئة البحوث الزراعية في أول العام 1970 وكانت بيني وبين امتحانات الشهادة الثانوية أشهر قليلة. وتدور عجلة الزمان بكل قوة وفي الربع الأول من العام 1975 وفي مطابع دار الصحافة التي كانت في شارع علي عبد اللطيف بجوار (شرطة الحركة)، وتحديدا في الفاتح من شهر مارس من نفس العام، كنت أشهد (فعليا) عملية طباعة صحيفة الصحافة التي تصدر في اليوم التالي، وقد سرحت ايضا الى وقائع ذلك الاجتماع الذي سخر مني فيه زملاء الدراسة واعضاء هيئة تحرير الصحيفة الحائطية حين اشرت الى هدير المطابع. ولكن هذه المرة ليس بصفتي رئيس تحرير تلك الصحيفة الحائطية وانما محرر صحفي متفرغ في دار الصحافة للطباعة والنشر ضمن هيئة تحرير الصحيفة وقد أمضيت وقتا طويلا بين ماكينات الطباعة والجمع طيلة فترة عملي في دار الصحافة مستفيدا من نصيحة اسداها لي الاستاذ الراحل موسى المبارك الحسن الذي كان يتولى منصب رئيس مجلس الادارة ورئيس هيئة التحرير انذاك، حيث قال لي بالحرف الواحد (انصحك بالتعرف على جميع اوجه العمل الصحفي بما في ذلك الجوانب الفنية والطباعية وأكثر من بقائك في المطبعة وحاول التعرف على جميع اسرارها فهي من أسرار المهنة). وبالفعل طبقت النصيحة وكانت لي سندا وعونا في العمل الصحفي (الشامل). ومن جهة أخرى تحققت الامنية والحلم الذي كان يراودني من سنين وصار الحلم حقيقة ماثلة تسعى كسعي عصاة موسى. وبعد وقت لاحق لذلك قابلت احد الزملاء الذي كان معنا في نفس اجتماع هيئة تحرير الصحيفة الحائطية ولفت نظري الى تلك الواقعة وذلك الاجتماع الذي شطحت فيه بخيالي وكيف أن امنيتي تلك قد تحققت. وقبل التحاقي بدار الصحافة للطباعة والنشر كمحرر ضمن الكواكب الاربعة عشر (ومنهم الأساتذة نور الدين مدني ومحجوب محمد الحسن عروة ومحمد عثمان دبايوا)، كنت قد التحقت، وأنا طالب في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، بدار الصحافة للطباعة والنشر ولكن في وظيفة خطاط في المكتب الفني الذي كان يرأسه أنذاك الخطاط البارع الأستاذ كندورة، وهذه حقيقة لا يعرفها الكثيرون عني، وكان حينها قد اكتشف موهبتي الاستاذ بونا ملوال حيث كان حينها وزيرا للاعلام وهو الذي قدمني للراحل الاستاذ محمد الحسن أحمد رئيس تحرير صحيفة الصحافة وقتئذ. وقد انحصرت فترة عملي بالصحافة كخطاط ابان فترة اغلاق جامعة الخرطوم بسبب الاضطرابات الطلابية في ذلك الوقت (العهد المايوي). كما تحقق حلمي الآخر العمل مذيعا في الاذاعة البريطانية (القسم العربي) في لندن ونسرد ذلك في صفحات اخرى من دفتر الذكريات. وبالله التوفيق. [email protected]