نوافذ عبر الأزمنة والأمكنه ..... 1. كسلا ... قبل اليوم الأول منذ ما وعيت الأشياء والناس من حولى وجدتنى مولعا بالغناء وبكل ما له علاقة به من مديح نبوى ورقص شعبى وحلقات الذكر إذ كانت مدينة كسلا فى خمسينات القرن الماضى زهرة مدائن السودان موقعا متميزا فى الشرق خضرة ومركزا جاذبا ليس فقط لكل سودانى قادم بلاد بعيدة (النوبه ، الكارا ، الشايقيه ، الجعليين ، الدناقله...) أو قريبة ( الرشايده ، الهدندوه ، والشكريه ....) بل كادت كسلا أن تصير موطنا للفلاتا والهوسا من غرب إفريقيا وجالية الهنود التى أتخذت لها مستوطنة مستقلة بها وكذا كان الأحباش واليونان والإيطال والإخوة اليمانية الذين كانوا يعملون بتجارة القطاعى وتوزيع الماء لالأخراج على السكان فى الأحياء القريبة من سوق كسلا. كل هذه المجموعات كانت تعمل بالزراعة والتجارة وبعض الحرف الأخرى وكانت فى مناسبات عديدة تؤدى فنونها المحلية الذى كان دائما غناء فرديا وجماعيا مصاحبا بالرقص وغير قليل من تلك المجموعات السودانية والأجنبية ما كانت تستصحب المرأة فى تلك الفعاليات الجميلة الممتعه سوى قبيلة الرشايده وجالية الهنود وجالية الأحباش ( وبالمناسبة كانت هذه هى صفة سكان إثيوبيا قبل أن تستقل عنها دولة إريتريا ) بحسب ذاكرة طفل لم يتجاوز الخامسة بعد غنى له المرحوم سرور نهار أحد أيام الإحتفالات بالمولد النبوى الشريف ( وتلك قصة رويتها من قبل). فى بيتنا فقد كان والدى الشيخ العاقب رحمه الله لا يفتأ يتلو القرآن فى هدأة الليل بصوت جميل أخاذ تغلب عليه نغمة حزينة شجية، وبالنهار كانت أمى رابحه بت رضوان رحمها الله تدندن دائما بغناء حفظته من التراث أو بغناء ألفت هى كلماته ولحنتها فصارت لها مجالس (ونسه) يومية مع صويحباتها من الجيران تستقبلهن أو يستقبلنها .كما كان لجار لنا راديو يفتحه منذ الصباح الباكر يوميا على برنامج إذاعة إم درمان الصباحى القصير وكنت أتسمع الأغانى التى يبثها الراديو وقليلا قليلا أصبحت أميز بين أصوات مطربى ذلك الزمان ثم توسعت التجربه وصارت شغفا وتنافسا بين أقران الحى وزملاء المدرسه وكنت وقتها من أشد المعجبين بالفنان أحمد المصطفى رحمه الله وغيرى كان يتباهى منافسا بالفنان عثمان حسين و الفنان إبراهيم الكاشف و حسن عطيه ثم إنضاف إليهم الفنان أبو داوود رحمهم الله ومع تعنصر هذه الذائقة كنت لا اخفى إعجابى بعدد آخر من الفنانين متجاوزا بذلك قوانين المنافسه الصارمة فكان من بين الذين أعجبت بهم الفنان التاج مصطفى والفنان عبدالدافع عثمان والفنان عثمان الشفيع .عليهم الرحمه... ثم فجأة فى مطلع الخمسينات انفجر صوت المرحوم الفنان إبراهيم عوض يهز عروشا كثيره فجذب إليه كثيرا من المعجبين على حساب الكبار ولكنى برغم ذلك ظللت على ولائى معجبا لا يتزحزح بفنانى المفضل أحمد المصطفى أو ظننت ذلك إلى أن ظهر فنان لم نعهد مثله فجذبنى إليه معجبا بالرغم منى وكان اسمه عبد الكريم الكابلى ولذلك حديث آخر فى حينه . إذن كن المناخ الذى عشته وانا بعد صبى صغير كما أسلفت يعج ويضج بنشاطات فنية وثقافية غاية فى الثراء والتنوع والجمال وأذكر جيدا سماعنا ثم شهودنا مطربين كسلاويين فى ذلك الزمان أذكر منهم حسن حسين الصومالى وقد شهدته فى إحدى المناسبات يعزف على العود بصورة مبهره وكان صوته جميلا جدا وأذكر أنه فى تلك المناسبة صاحب بالعزف الفنان الخرطومى حسن درار وما زلت أذكر أغنيته ( عيونو السود الكحيله عيون الحور ما مثيله) الذى جاء ملبيا المشاركه فى تلك المناسبة كما كان فى كسلا عدد آخر من الموسيقيين والمطربين الرواد من بينهم عبد الكريم ابو شاخوره وحسين ابو عجاج وحسن الزكر. من المدهش جذا ان يجد طفل صغير إهتماما من كثير من أصدقاء والدى العالم الأزهرى إمام جامع كسلا وفقيهها الوحيد الذى كان يقيم دروسا مسائية فى صحن المسجد ولا أنكر أبدا تأثير ذلك الشيخ الكبير على إبنه الصغي الذى كنته فقد أحفظنى إجزاء كثيره من القرآن الكريم بتلاوة مجوده وقصائد فى مدح الرسول صلى الله عليه وسلم وقصائد صوفية من تراث السادة المراغنه وأشعار كثيرة ثم أننى لسبب لا أدريه فى صغرى كنت مولعا بالغناء وحفظ كل ما أسمعه وترديده وهذه الموهبة الباكرة أثارت إهتمام الكثيرين والغريب أن والدى ذلك الرجل العلامه الفقيه الذى تجله كل مدينة كسلا وتقدره لم يكن يبدى أى إعتراض حول هذا الأمر وأظنه إكتشف موهبتى تلك فكان يهتبل فرصة ذهابنا مبكرين لأداء صلاة الفجر ويبدا فى تحفيظى كثيرا من الأشعارأذكر منها متن الأجرومية وجوهرة إبراهيم اللقانى وابيات من الفية إبن مالك التى إستعصت علىَّ . و كنت كثيرا ما أهرب للسوق القريب من منزلنا الواقع فى زقاق الجعليين مضحيا أحيانا بالدافورى لأستمع للأسطونات فى مطعم (عطيه) الذى كان يبث غناء أحمد المصطفى فحفظت أغنية أهواك وكسرتها واغنية فينوس التى يغنيها أبوداوود وكسرتها وحتى هذه اللحظة لم أجد سببا لماذا حفظت الأغنيتين (الطويلتين) ولم أهتم كثيرا بحفظ الكسرتين ولا غيرهما من الكَسْرات ( وهى الأغنيات الخفيفة الراقصة) ويبدو أننى أخترت لذائقتى الإهتمام بالأغنية الطويلة لما تحمله من موسيقى متنوعه وطرب ليس موجودا فى الأغنية الخفيفة كانت هذه هى خلفية ذلك الصبى وهو يكبر متعايشا مع حالات الطرب وتزايد شغفه بالغناء والمغنين السودانيين ثم بالمغنين المصريين بعد أن صارالصبية وأبناء الحى يرتادون خفية دار سينما كسلا التى كان يمتلكها المواطن (إسلام السيوفى) رحمه الله وأحسن إليه فقد منحتنا السينما فرصة الفرجة على دنيا جديدة وفن جديد ما كان لنا أن نشاهده أونسمع به ... حتى الراديو كان بالنسبة لنا عالما ساحرا جميلا نتبارى فى التلصص لإستماع أغانى الإذاعه فى قهاوى السوق وفى متجر العم محمد الحسن عطا رحمه الله والد صديقنا وزميلنا عطا أوفى عصر كل جمعة فى نادى الموظفين وكنا نجتهد فى حفظ الأغانى الجديدة وترديدها مكايدة لمن لا يحفظون أغانى مطربيهم المفضلين وكنت أحد القلة من حفاظ الغناء يتقدم دفعتنا تلميذ موهوب فى الأناشيد ولاعب كرة قدم ممتاز ومشارك متمكن فى الجمعية الأدبية الأسبوعية اسمه عبد العظيم عبدالله يوسف ثم صار بعد إستقراره فى الخرطوم وأصبح مطربا معروفا بلقب عبد العظيم حركه رحمه الله. وأحسن إليه... وإلى اليوم الأول الذى لاينسى مع الراحل وردى .... رحمه الله [email protected]