المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    تعادل باهت بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    تقرير مسرب ل "تقدم" يوجه بتطوير العلاقات مع البرهان وكباشي    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    بعد الدولار والذهب والدواجن.. ضربة ل 8 من كبار الحيتان الجدد بمصر    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بمناسبة تحديث مكتبة جامعة الخرطوم: دوْجلاس نيوبوْلد: كوْلونيالِي نَبيْل .. بقلم: جَمَال مُحمَّد إبراهيْم
نشر في سودانيل يوم 25 - 08 - 2014


[email protected]
(1)
كتب ك.د.د.هندرسون :
في صلاة الجنازة في كاتدرائية الخرطوم يوم 24 مارس وبعد ذلك في المقبرة، تجمّع عدد غفير من كل الطبقات والجاليات، سودانيون وأقباط ، بريطانيون ويونانيون وسوريون وأرمن، ليقدموا عزاءهم وتقديرهم للراحل ( أحد الأجانب وقد وصل الخرطوم عصر يوم وفاة نيوبولد علق على الظاهرة الاستثنائية: "مدينة تنتحب" ). لقد أدركوا أنه ناضل من أجلهم ومن أجل السودان إلى أن انهارت قواه ولم يتمكن من مقاومة تسمم الدم. لقد ظن أطباء القاهرة أن سنه تربو على الستين، في الوقت الذي كان عمره خمسين فقط، كل ذلك بسبب الإجهاد من نشاطاته المتعددة..
( ص 335 من كتاب "كيف أعد السودان الحديث " تأليف وتحرير ك.د.د. هندرسون وترجمة محمود صالح عثمان صالح)
ما بالي أكتب هذه المرة عن كولونيالي بريطاني عاش قبل نحو سبعين عاماً في السودان، إسمه دوجلاس نيوبولد..؟
(2)
توليتُ إدارة الشئون القنصلية في رئاسة وزارة الخارجية ، أواخر تسعينات القرن الماضي، وكان لافتاً أن الإدارة القنصلية، والتي لم تكن أبداً من الإدارات الجاذبة، هي في نظر قيادة الوزارة من الإدارات الهامشية التي لا يرى الكثير من الدبلوماسيين أن لها من الأهمية ما للإدارات السياسية ، قلب الوزارة. تُوكل الإدارة القنصلية في أغلب حالاتها، لمن حلت بهم غضبة الوزارة فتقذف بهم إلى الأطراف البعيدة ، معنىً وشكلا. وكنت وقتها ممن لحقت بهم لعنة مؤقتة من طرف قيادة تلك الوزارة.
شغلتْ إدارة الشئون القنصلية مبانٍ قديمة، شيّدت على النسق الكولونيالي العتيق . لكن بعد مرور هذه السنوات الطويلة، لا أحد يهتم جاداً بصيانة لها، فيما مبنى "بيت الحمام"، مقر الاتحاد الاشتراكي السابق على أيام حكم النميري (1969-1985) ، والذي يقع في الطرف الشمالي، لحقته يد الصيانة، بل ويد التجديد وإعادة بناء معظم هياكله، ليصبح ذلك المبنى الكبير لوزارة الخارجية بشكلها الحالي، الذي نراه مُطلاً على بعد أمتار من شاطيء النيل الأزرق.
قليلون مَن كانوا يعرفون أن ذلك المبنى القديم، هو مسكن السكرتير الإداري البريطاني السابق لحكومة السودان السير دوجلاس نيوبولد، اليد اليمنى لحاكم عام السودان السير هدلستون، وذلك حتى تاريخ وفاة نيوبولد في مارس من عام 1945.. في تلك المكاتب التي احتلتها إدارتي في تسعينات القرن الماضي، عاش فيها ذات يوم كولونيالي نبيل، أحبّ السودان وقضى أكثر سنوات عمره متنقلاً بين مدنه وقراه وفيافيه ووديانه، إدارياً حاذقاً وهميماً ، إلى أن تولى منصب الساعد الأيمن لحاكم عام السودان، سكرتيراً إدارياً له . والمدهش أن الرجل أدار في تلك الفترة ملفات العلاقات الخارجية وملف علاقات السودان مع مصر وشمال افريقيا واريتريا والحبشة (أنظر صفحة 322 من كتاب هندرسون المشار إليه أعلاه)، وله إشارات مهمة مثلا عن زيارة الملك فاروق إلى حلايب عام 1944. أعرف أن دكتور حسن عابدين وقت أن شغل منصب وكيل الوزارة، تردّد كثيراً في مسألة إزالة البيت الذي عاش فيه نيوبولد، ولكن في نهاية الأمر قبلت بهدمه الجهات التي تملك القرار، ثم شيدتْ وزارة الخارجية على أنقاضه وبعد عام 2005، البناية الجديدة التي تحتضن إدارات المراسم والشئون القنصلية والإعلام، والمطلة على شارع الجامعة.
(3)
لدوجلاس نيوبولد مهام متعددة، فكونه سكرتيراً إدارياً للحاكم العام جعل منه مستشاراً سياسياً وإعلامياً وتعليمياً له، ولقد عُرفت عن الرجل همته العالية، إذ لم يقتصر اهتمامه بهذه المجالات فحسب، بل أكثر اهتمامه كان على التمهيد للحكم الذاتي الذي يتيح لأهل البلاد إدارة شئونها بأنفسهم آخر الأمر، وقد جعل الرجل هذا الملف من أوكد مهامه كسكرتيرٍ إداري ومساعدٍ للحاكم العام. ولعل ملف التمهيد للإستقلال عبر كيان تجريبي مثل "المجلس الاستشاري لشمال السودان"، والعمل على تنفيذ سياسة السودنة، هي التي قادت نيوبولد للنظر في ملف التعليم بعين فاحصة وعقل متعاطف. لم تكن جولاته إلى القدس ليطلع على تجربة كليتها الجامعية، ولا رحلته إلى يوغندا لينظر في تجربة كلية "ماكريري" الجامعية ، بغير هدفٍ، أو هي رحلات للترويح فحسب. كان طبيعياً أن ترتبط اهتمامات الرجل بتهيئة أهل البلاد لحكم أنفسهم بأنفسهم، برؤيته لموجبات العناية بالتعليم وبتنمية القدرات وترقيتها، والإفادة من التجارب الشبيهة.
تكشفت لصناع السياسة العاقلة في أوروبا، أن الحكم الكولونيالي مصيره إلى زوال تدريجي، ولم تعد الأخلاق السياسية التي سادت بعد انطواء ويلات سنوات الحرب العالمية الثانية، لتقبل بسياسات استعمارية كولونيالية. في لندن بدأت وزارة المستعمرات ووزارة الخارجية، تعملان بجدٍ على ترتيب الأمور لطيّ تلك الصفحة البغيضة مع الكثير من مستعمراتها فيما وراء البحار، وما كان لهما إلا الإذعان والقبول بحق الشعوب في إدارة شئونها. زاد الوعي وتعاظمت الحركات الوطنية، وطالبت الشعوب بالصوت الجهير بحقها في تقرير المصير والاستقلال وامتلاك والقرار والعيش بكرامة. أقرّت المواثيق الدولية التي توافق عليها المجتمع الدولي بعد أن وضعت الحرب أوزارها، على تلك الحقوق وأهمها ذلك الإعلان العالمي لحقوق الإنسان..
في مجال رفع القدرات وتطوير هياكل التعليم في السودان، كان طبيعياً أن يختار الحاكم العام مساعده الأول السير دوجلاس نيوبولد، ليكون رئيساً لأول مجلس لإدارة الكلية الجامعية التي تقرر إعلانها في الخرطوم عام 1945، وهو الرجل المناسب في نظره لإنجاز المهمة. جرى ربط الكلية بجامعة لندن ، غير أن ظروفا طرأت- وربما بينها وفاة نيوبولد نفسه - أرجأت إعلان ترفيعها بإسمها الجديد: كلية الخرطوم الجامعية إلى عام 1951 ، بعد ست سنوات من وفاة نيوبولد ..
(4)
لنعد إلى ظروف اندلاع الحرب العالمية الثانية. . فقد استشعر خلالها الكولونيالي النبيل مساعد الحاكم العام "دوجلاس نيوبولد"، أهمية العمل الإعلامي، وضرورة إذكاء روح المقاومة لمجابهة الأطماع الألمانية والايطالية، خاصّة بعد أن اقتربت من السودان، إذ توغلت في شرقه قوات موسوليني إلى اثيوبيا واريتريا، وإلى غربه تنمّرَ الألمان الطامعون في صحارى ليبيا. يذكر التاريخ دوراً مهما للقوات السودانية التي شاركت في التصدى للقوات الإيطالية والألمانية في اثيوبيا واريتريا وفي ليبيا. تحفظ الذاكرة السودانية عبر التوثيق الفني، رحلات مطربين سودانيين مثل عائشة الفلاتية وأحمد المصطفى وحسن عطية، قاموا برحلات للترفيه ولتشجيع القوات السودانية وإذكاء روح المقاومة. كتب نيوبولد لاحقاً، أنها المشاركة السودانية هي الأكبر من بين كل المشاركات الأخرى من أي بلد آخر في "الشرق الأوسط". دأب نيوبولد- وفي اطار معالجته لملفات العلاقات الخارجية- يكتب لرؤسائه بفخر عن هذا الدور في أجواء المواجهات تلك، بل كانت مناشدته أن تعيد الخارجية البريطانية النظر في أن يتم اعتماد السودان ضمن منظومة بلدان الشرق الأوسط.
أثناء استعار الحرب العالمية الثانية، برزت فكرة الاهتمام بمخاطبة الرأي العام لأغراض التعبئة وقطع الطريق على الدعاية السياسية الألمانية. ومن هنا جاءت فكرة إنشاء إذاعة تنقل صوت الحكومة وتنبيه الشعب للمخاطر المحدقة بالسودان. سهر دوجلاس نيوبولد ومعه مدير قلم المخابرات المستر "بيني" ومساعده اللبناني المكلف بالإعلام والعلاقات العامة "إدوارد عطية"، على إنجاز الفكرة وإخراجها مشروعاً مسموعاً في عام 1940، وكانت تلك بداية إنطلاق الإذاعة السودانية: "هنا أم درمان". كان "دوجلاس نيوبولد" يكن تقديراً كبيراً لإدوارد عطية، وشجعه وحفزه لانجاز المهمّة. لو نظرنا لما تحقّق في تلك الفترة والحرب العالمية الثانية في أوج اشتعالها ، لأدركنا كيف عزَّزت الإذاعة السودانية من الرّوح المعنوية للقوات التي كانت تقاتل في الجبهتين، في شرق السودان وفي غربه. . تلك من منجزات نيوبولد المهمة . .
(5)
لن ننصف نيوبولد إن لم نذكر دوره الفاعل في التمهيد للحكم الذاتي لسبب يتصل بقناعاته الأخلاقية والفكرية، وهو الكولونيالي الراسخ الذي جاء إلى السودان في عشرينات القرن العشرين، وفتح قنوات تواصل مع النخب المتعلمة، وأولئك الذين كانوا ينطقون بإسم مؤتمر الخريجين. عمل الرجل حثيثاً على الاستعانة بالقيادات المحلية لتشارك في إدارة شئون البلاد، توطئة لمرحلة تنال فيها البلاد استقلالها بالكامل. ولن ننصف الرجل إن لم نذكر دوره في سنوات الأربعينات في تطوير كلية غوردون، لتصبح- فيما بعد وفاته- كلية الخرطوم الجامعية، والتي وهبها مكتبته الشخصية لتكون نواة لمكتبة جامعة الخرطوم التي شمخت بعد ذلك، في سنوات لم يشهدها نيوبولد، والتي صارت رمزاً لنهضة التعليم، وحملت العملة السودانية الورقية صورتها بافتخار. لم يقف اهتمام الرجل بالتعليم على إنشاء الكلية، بل مدّ اهتمامه إلى معهد بخت الرضا، وإلى تشجيع التعليم النسوي والتعليم قبل الجامعي، بصورة عامة، في جميع أقاليم السودان. .
لن ننصف الرجل إن لم نشر إلى دوره في تشجيع المنتديات الثقافية، وفي ابتدار محاضرات عامة تقدم في دار الثقافة في الخرطوم لجمهور من البريطانيين والسودانيين، إضافة إلى مبادرته في الحوار مع المتعلمين خريجي الكلية الجامعية، وإن بدأ بصورة خجولة ، لكن تشير الوثائق إلى مراسلات متبادلة تمت على نسق متواتر مع بعض قادة مؤتمر الخريجين، ومكاتبات عامة وشبه شخصية مع أبكار النخب السودانية المستنيرة أوانذاك ، مثل مكي عباس وسليمان أكرت وعبد الكريم محمد وأحمد عثمان القاضي (والأخيران بحملان وسام الامبراطورية البريطانية، وأبديا اهتماما بضرورة ابتعاث السودانيين لتلقي الدراسات العليا في بريطانيا). ذلك ما أثبته هندرسون في كتابه الذي حرره ونشره عام 1952 ، وضم بين دفتيه الأثار الفكرية والمراسلات الشخصية للسير نيوبولد.
عوداً إلى الكلية الجامعية في الخرطوم، لم يكتفِ نيوبولد بإدارة مجلسها فحسب، بل سعى لطلب اعتمادات مالية من لندن تصل إلى مليون جنيه استرليني، لتمويل مشروعات التعليم في السودان، وأولها بل وأهمها الكلية الجامعية في الخرطوم ولابتعاث سودانيين للدراسات العليا في بريطانيا. غير أن حسرته كانت كبيرة، إذ لم يتحمّس البرلمان في لندن لطلبات السكرتير الإداري في الخرطوم، ولا استجاب لها، برغم دعم الحاكم العام في الخرطوم لها. وبعد أن رحل الرجل في مارس من عام 1945، إذ شاء له القدر أن لا يشهد ترفيع كلية غوردون اتصبح كلية الخرطوم الجامعية في عام 1951، أجازت الحكومة البريطانية الدعم المطلوب بضعف ما اقترحه نيوبولد (نذكر أن عدداً من السودانيين ابتعثوا بعد ذلك للدراسات العليا في بريطانيا منتصف سنوات الاربعينيات، بينهم عبدالله الطيب وجمال محمد أحمد). مات الرجل بغصته قبل أن يدرك جليل ما قدم لبلد أحب أهله ودعم التعليم فيه. .
(6)
للتأكد من مقبرة السير دوجلاس نيوبولد في الخرطوم، دلفت في نهار خريفي في أغسطس هذا العام، لزيارة المقابر الانجليزية قبالة مدرسة القديس فرانسيس، وهي التي حفظت رفات ضحايا الحرب وكبار الإداريين من البريطانيين، فرأيتها هناك.
حين قمتُ بجولة خاطفة لجامعة الخرطوم منتصف أغسطس 2014، والجامعة لا زالت مقفلة الأبواب، لم أجد طلاباً يملأون طرقاتها وردهاتها ، بل قردة تتقافز هنا وهناك. ولكن أثار دهشتي حين زرت مكتبة الجامعة - وهي المكتبة التي أهداها السير دوجلاس نيوبولد جميع كتبه الشخصية - ذلك التجديد الكبير الذي تقوم به الإدارة الحالية للمكتبة، بهدف تحديثها ، وصيانة مبانيها وتجديد أثاثاتها وإثراء أرففها بالإصدارات الجديدة، وأيضا سعيها الموفق في مجال استخدام التقنيات، والتحوّل المضطرد إلى عوالم المعلومات الرقمية والفتوحات الإلكترونية. رأيت عملاً خارقاً ينجز بجهد حثيث، تشرف عليه إدارة المكتبة الحالية ، من طرف الدكتور الكبير أحمد حسن الفحل ، ومساعده مسجل المكتبة الأستاذ أحمد العوض.
ثمة أجنحة قامت على تشييدها وتنشيط فعالياتها، بعثات دبلوماسية أجنبية في الخرطوم، بثت من منابرها بعض ثقافاتها وفنونها المتميزة. يجري ذلك التحديث بموارد ذاتية وبعيداً عن نظر الإعلام، وإنه لعمل شاق ودقيق أنجزته أيدٍ صادقة العزم، وبمثابرة قوية الإرادة، حفظت لمكتبة جامعة الخرطوم مكانتها التاريخية ، هرماً من اهرامات التعليم ومنارة شامخة، لنا أن نعتز بدورها في قيادة سفينة التعليم العالي والدراسات العليا، إلى آفاق النجاح المأمول. هذا عمل يحدث عن نفسه، لكن لنا أن نفخر بهذه الهمة العالية لنفرٍ حفظوا الجميل لصرحٍ تعليمي كان إحدى منارات أفريقيا الثقافية ..
(7)
برغم تلك المنجزات اللافتة، فقد استوقفني أمرٌ أثار حسرة أخفيتها عن صديقنا مسئول المكتبة الأستاذ أحمد العوض، فيما كان يرافقني في جولة على أركان مكتبة الجامعة، برغم مشغولياته الكثيرة. كان حرياً أن تعمل مكتبة الجامعة على التعبير عن قيمة الوفاء السامية، بإبراز إسم الرجل الذي أسهم مساهمة فعلية في تطوير الجامعة، وفي تأسيس مكتبتها الشامخة. كنت أحفظ في ذاكرتي الآفلة تمثالاً نصفياً لكولونيالي ، نعم.. لكنه كولونيالي نبيل، أسس مكتبة جامعة الخرطوم الحالية، وكان أول رئيس لمجلس إدارة ما كان يعرف بكلية الخرطوم الجامعية . حتى على أيام دراستنا في جامعة الخرطوم في سبعينات القرن العشرين ، كنت أعبر تلك الردهة التي كانت عليها منصة متواضعة، يقف ذلك التمثال النصفي للسير دوجلاس نيوبولد، على سطحها، إن لم تخني الذاكرة..
لعلي اقترح إلى ذلك، أن تبدي وزارة الخارجية بعض الوفاء لرجل كولونيالي نبيل، كان مهتماً بملفات السودان الخارجية، حتى قبل أن ينال البلد استقلاله، وكان سكنه في ذات الموقع الذي يشكل الآن المبنى (ب) للوزارة، فليس أقل من أن نثبت لوحة على واجهة المبنى تشير إلى بعض فضائل الرجل، أو أنه كان يسكن في ذات المكان.
وأكثر من ذلك، فقد كنت أتصور أن تحفظ مكتبة جامعة الخرطوم لوحة تقديرية، تحمل صورة الرجل ونبذة عما قام به، تكون في مدخل المكتبة، تثبت دوره، وتعكس إجلالنا لإسهامه في إنشاء وتطوير مكتبة جامعة الخرطوم. وإذ علمت من الأستاذ أحمد العوض مسجل المكتبة، أن العمل بسير حثيثاً لاستكمال متحف معتبر، يحوي قصة الجامعة وقصة مكتبتها وتوثيق مسيرة تطورها ، فإن الوفاء لمن أسهم لن يغيب عن بال رجال أشرفوا بهمّة على عمل جليل يعيد للجامعة بريقها التاريخي، ولمكتبتها بث إشعاعها في الأنحاء، منارة للعلم وللثقافة. ليت إعلامنا وليت قنواتنا الفضائية تلتفت للذي رصدته بعينيّ في جامعة الخرطوم من جهد وعمل كبير، يستوجب الدعم والمساندة والترويج . .
الخرطوم – 19 أغسطس 2014
////////////


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.