رواية "الطليعي الأسود"Black Vanguard لادوارد عطية بين "الطليعي الأسود و "موسم الهجرة للشمال" د.حسن عابدين هذه رواية مجهولة منسية عن السودان والسودانيين والانجليز هداني أحد الاصدقاء الى قراءتها أثناء تنقيبي عن مصادر ومراجع لدراسةٍ (مشروع كتاب) أعكف عليها عن العلاقات الانسانية والاجتماعية بين الانجليز الذين حكموا السودان والسودانيين الذين عاصروهم وعملوا معهم وتحت امرتهم. "الطليعي الأسود" رواية بديعة صورت باسلوب درامي هذه العلاقات وتجلياتها خلال تلك الفترة إلا أنها لم تنل حظها من الترجمة والنشر والرواج في سوق ومنابر الادب والثقافة السودانية. وظلت الرواية مغمورة الصيت محدودة الانتشار وخافتة الاصداء لاكثر من خمسين عاماً بالرغم من انها سبقت مثلاً "موسم الهجرة للشمال" - درة الأدب الروائي السوداني – باكثر من عشر سنوات. كتب الرواية بالانجليزية ونشرها طبعة أولى واخيرة عام 1952 إدوارد سليم عطية (1903- 1964) اللبناني المسيحي والذي أمضى نحو عشرين عاماً في خدمة الادارة البريطانية الاستعمارية في السودان، تارة استاذاً للأدب الانجليزي في كلية غردون وتارة اخرى مترجماً رسمياً وضابطاً للعلاقات العامة في قلم المخابرات البريطانية بالخرطوم خلال السنوات 1928 – 1948. الرواية دراما تاريخية عن الاختلاف والتقاطع، وعن التصالح والتعايش بين الثقافة والتقاليد السودانية والثقافة الانجليزية وقيمها وتقاليدها وخاصة تأثيرات الاخيرة على النخبة السودانية – طلائع التحديث – التي نهلت من منابع هذه الثقافة وتمثلتها لغة وقيماً وسلوكا... و "الطليعي الاسود" دراما عابرة للقارات وللحدود التي خطها ورسمها الاستعمار الاروبي في العالم الثالث وهي صادقة وموثوقة التعبير عن الاستغراب او التغريب .. Westernization وعن ظاهرة الاستلاب الثقافي Assimilation وخاصة في افريقيا في زمن الاحتلال والاستعمار البريطاني والفرنسي والبرتغالي في افريقيا. من الشخصيات المحورية في الرواية محمود ود شيخ أحمد خريج جامعة اكسفورد والاستاذ لاحقاً بكلية غردون محاضراً في مادة الفلسفة، وزوجته بدرية بنت خاله خريجة كتاب الخرطوم تزوجها بغير رضائه ومشورته اذعاناً لرغبة والده شيخ احمد والذي رافقها الى أكسفورد لإلحاقها به. ثم شخصية امين ود شيخ ايوب شندي خريج ذات الجامعه العريقة وزوجته الاسكتلندية باتريشيا التي تزوجها بفعل زمالة الدراسة وزمالة الحب! سألت باتريشيا ذات مساء والدها كورفيلد أحد زعماء وقادة الحركة الليبرالية البريطانية في ثلاثينات القرن الماضي إن كان مايزال على العهد به مؤمناً وداعيه للعدل والمساواة المطلقة بين كل الناس بغض النظر عن العرق او اللون او الدين؟ فدار بينهما الحوار القصير الآتي: الاب كورفيلد مجيباً على السؤال أعلاه: "نعم انا كذلك علي العهد يا عزيزتي.. باتريشيا: اذاً... عندي لك مفاجأة ارجو الا تكون صادمة تغضبك..؟ كورفيلد: ماذا ؟ هل انضممت للحزب الشيوعي البريطاني؟؟!" باتريشيا: "لا ..لا ابتي.. اريد فقط الزواج من زميلي بالجامعة وهو افريقي أسود وسوف اعيش معه في بلده السودان !!" كورفيلد: "لا اعتراض لي على اختيارك ولكني أخشى عليك من عدم التواؤم والعيش السعيد وسط مجتمع متخلف ومن تبعات الانصياع لقيم وعادات بدائية صادمة.....!" وفي محور آخر من محاور "الطليعي الاسود" يتناول الروائي ادوارد عطية علاقة محمود وزوجته بدرية وأمين وزوجته باتريشيا باسرتيهما الممتدتين وعلاقاتهما بالجالية الانجليزية في الخرطوم: جالية انجليزية قوامها النخبة البريطانية الحاكمة وزوجاتهم المقيمات في السودان... وهن أي – الزوجات – يتهامسن ويستبشعن زواج بنت جلدتهم البيضاء من سوداني أسمر / افريقي اسود فيما أخرون من كبار موظفي السلك الاداري البريطاني من ذوي الاتجاهات الليبرالية لا يرون في الزواج المختلط غضاضة او حرمة اجتماعية سيما ان محمود وامين كليهما تخرجا ليس فقط في جامعة اكسفورد بل في الثقافة الانجليزية الجامعة فكراً وقيماً وسلوكاً. ادوارد عطية شاهد على عصر سياسي سوداني من سماته ارهاصات وبشائر ميلاد وعي قومي جديد وتخلق الصفوة الحديثة خلال عقدي الثلاثينات والاربعينات، والتي قادت البلاد الى الحرية والاستقلال. وهذا مبحث في الرواية تناول العلاقة المركبة المتداخلة بين قيادات السلطة الاستعمارية الحاكمة – بشقيها الليبرالي والمحافظ – والنخب السودانية بطرفيها التقليدي (زعماء العشائر والطوائف) وخريجي كلية غردون والجامعات البريطانية. واس تلك العلاقة ومحورها السؤال: متي يكون السودان جاهزاً للاستقلال ومستحقاً للانعتاق من الوصاية والسيطرة الاستعمارية؟ ولادوارد عطية سبع مؤلفات اخرى منها وربما اكثرها شهرة سيرته الذاتية بعنوان: An Arab Tells His Story أي عربي يحكي قصة حياته نقلها للعربية المترجم سيف الدين عبد الحميد والعنوان الفرعي لهذا الكتاب : دراسة عن الولاءات. وله كتاب آخر سجل فيه آراءه ورؤاه القومية العربية نشر عام 1955 بعنوان The Arabs : العرب. علمت مؤخراً ان الاخ الصديق والاعلامي المخضرم السر حسن فضل ترجم رواية "الطليعي الاسود" ولكنها ترجمة لم تر النور نشراً ولا توزيعاً انما اكتفى السر بكتابة بضع مقالات عنها نشرتها صحيفة السياسة اليومية عام 1988 ولذا فالرواية ما برحت تنتظر ترجمة جديدة وطباعة وانتشاراً. وختاماً لست روائياً ولا ناقداً أدبياً لعقد المقارنات بين روايتي "الطليعي الاسود" "وموسم الهجرة للشمال" وانما انا مجرد قارئ ولع شغوف بقراءة القصص التاريخي والدراما التاريخية لما في ذلك من امتاع وتصوير وسرد درامي مشوق لاحداث وحقائق التاريخ الباردة ولصدام وتعايش الثقافات والحضارات. د. حسن عابدين باحث وسفير سابق [email protected] 0024991214333300249912143333