تبادل الأستاذ الكاتب الصحافي مصطفى عبد العزيز البطل والسيد السفير خالد موسى حواراً راقياً على صفحات الزميلة (السوداني) حول صحة ما راج عن تنفيس الرئيس السوداني السابق جعفر محمد نميري لغضباته تجاه المسؤولين ومعاقبتهم (وزراء على الأخص ) بالضرب, وقد تولى السيد السفير مهمة الادعاء استنادا إلى رواية سمعها من الإعلامي التلفزيوني حسن عبد الوهاب الذي قال إنه كان يهم بتسليم نشرة إخبارية للرئيس في غرفته (رحلة داخلية(بصفته رئيساً للبعثة الإعلامية ففوجىء به يعتدى بالضرب على أحد الوزراء , وطلب منه الرئيس كتمان الأمر . هذه الرواية أخضعها البطل الذي تولى مهمة الدفاع , للتفكيك والتفنيد متكئاً على خبراته التي اكتسبها خلال عمله في الأمانة العامة لمجلس الوزراء خاصة ما يتعلق منها ببروتكولات التعامل مع المسؤولين والمساعدين والمحيطين برئيس الدولة. وتساءل عن الصفة التي سوغت للأستاذ حسن فتح باب غرفة الرئيس والدخول إليها,وقال وهو محق, أين كان طاقم مكتب الرئيس الذين هم حوله في الحل والترحال ؟ وأضاف (هناك إجراءات بالغة التعقيد تتصل وتحيط بأمر الدخول على الرؤساء داخل السودان وخارجه). وتعرض البطل لهجمة مرتدة بعد تفسيراته تلك من السفير الذي لا شك أنه على علم بها. وحصر السفير علم البطل بسلوك نميري في الفترة من (80 إلى85),ولحسن حظ البطل فإن كاتب هذه السطور قادر على تغطية الفترة من(70إلى 79) , فقد رافقت نميري صحفياً (برلوماً) من وزارة الإعلام في رحلة النيل الأبيض الشهيرة, ثم ممثلاً لوكالة السودان للأنباء في زيارات إلى بحر الغزال وأعالى النيل (للاحتفال بمرور عام على اتفاقية أديس أبابا) والشمالية وشمال كردفان, نعم شمال, والجزيرة عدة مرات وبالعودة لتوضيحات البطل ومستصحباً مشاهداتي من تلك الرحلات أستطيع أن أؤكد أن ما ذكره عن الكيفية التي يمكن أن يقترب فيها أي شخص من رئيس الدولة صحيحة بدرجة(100 %ِ) خاصة في حالة نميري الذي كان محاطاً بحراس على درجة عالية من الاحتراف , ومارسوا عملهم بصرامة شديدة لأن عدداً كبيراW منهم لم تبارح ذاكرته الطريقة التي أقتيد بها الرجل أمام أعينهم ومن بين أيديهم في أحداث يوليو1971. وشهادتي عاليه ناتجة من مراقبتي الدقيقة لعمل هؤلاء الرجال ولالتزامي التام بحدود عملي كصحافي . وهناك حقائق أخرى تناولها البطل تتطلب مني قليلاً من التوضيح أولها: أن وكالة السودان للأنباء كانت هى المسؤولة عن تزويد الرئيس نميري بعدد من النشرات الأخبارية اليومية المحلية والعالمية اعتباراً من العام 73,وكانت الوكالة تبعث في معية نميري خارجياً وداخلياً بشخصين أو أكثر حسب المتاح من مقاعد , أحدهم موظف لاسلكي( جهاز صغير محمول يعمل بالكهرباء أو بدونها ) ,وكانت الوكالة قد استعانت به لسد الخلل والعجز السائد في مجال الاتصالات السلكية, واعتبر هذا الجهاز حينها طفرة تقنية أثبت قدرة على التلقي والإرسال من بكين . ثانيها يتسلم الصحافي المرافق من (سونا ) النشرة المرسلة من رئاسته من موظف اللاسلكي ويراجعها ومن ثم يسلمها مهما كانت الظروف، إما ( للواءلاحقاً)عمر محقر مدير مكتب نميري أو لقائد الحراسة الذي كان يحفظ الوجوه المرافقة وطبيعة عملها ,ثالثها: أن وزارة الإعلام والمراسم متفقتان على أن تكلف الأولى في سفريات الرئيس المختلفة أحد أقدم موظفيها برئاسة الفريق الإعلامي المرافق(أتذكر تحديداً الراحلين صالحين وأحمد قباني)، ومهمته الأساسية نقل توجيهات المراسم إلى الإعلاميين ورفع شكاواهم وما أكثرها حول معوقات العمل إلى المراسم.رابعاً: لم يكن مسموحاً على الإطلاق لممثل (سونا ) تسليم أو مجرد اطلاع كائناً من كان على نشرات الرئيس باستثناء المشار إليهم, وهو مطالب عند العودة كتابة تقرير مفصل عن المشكلات التي واجهته وعن الأشخاص الذين تسلموا منه النشرات. وعليه وبإعادة قراءة الحقائق السابقة سنجد أن ذاكرة الأستاذ حسن عبد الوهاب لعيب سوداني عام لا يجنح إلى التسجيل أولاً بأول قد خانته قليلاً إضافات فى السياق: القصة الوحيدة التي سمعتها طوال فترة عملي من العام 70وحتى الانتفاضة عن خشونة نميري كانت من مسؤول إعلامي على درجة عالية من المصداقية, وكان يتحدث متباهياً عن رفض رئيس مجلس قيادة الثورة(حينها) مصافحة الرئيس هستنقر باندا الرئيس الإفريقي الوحيد الذي أقام علاقات مع دولة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا). لو كان الاعتداء الجسدي سلوكاً مقيماً لدى نميري لظهر جلياً في رحلة النيل الأبيض, فقد تعرض لاستفزاز من الصحافي الراحل عبد العظيم عباس في مؤتمر صحفي عقد على سطح الباخرة المقلة للوفد ,إذ قال عباس على مسمع من الجميع إن الجماهير التي استقبلت الصادق المهدي قبيل أسابيع من الخامس والعشرين من مايو 69كانت أكثر عدداً من التي استقبلت قادة مايو, صحيح أن نميري ورهطه غضبوا من المقارنة ولكن أقصى ما فعلوه هو فض المؤتمر,ولو كان الرجل قد شب على هذا السلوك لبدر حينها وللازمه فيما بعد أي أيام البطل القصص المتداولة عن اعتداء نميري على الوزراء أو من هم أقل مرتبة لا تصمد كثيراً عند مضاهاتها بالشخصية السودانية على وجه العموم والمثقف السوداني في ستينات وسبعينات القرن الماضي خصوصاً. أساطير تشليت نميري كما يقول البطل تعد إساءة بالغة لعلماء سودانيين حملوا الدكتوراه من بريطانيا وأمريكا في مجال تخصصهم. من أهم أسباب الانفجار الإعلامي الشفاهي الأسطوري في السودان,تكاسل المسؤولين عن كتابة مذكراتهم وتجاربهم ليستفيد منها السلف، كما تغيب القوانين المنظمة للإفراج عن الوثائق المختلفة التي ترسم صورة حقيقية للفترة التي تغطيها ,فتوفر المذكرات والوثائق يساعد المؤرخين على توفير تقييم أكاديمي للفترات المختلفة ما يشجع على إعادة الحديث عن اعتداءات نميري على وزرائه استنكاف البروفيسورات الذين عملوا إلى جانبه عن تصحيح الأساطير الشفاهية الشعبوية على خلاف ما يشاع كان نميري قارئاً وحريصاً على الاطلاع باستفاضة على المعلومات التي ترد في أجهزة الإعلام العالمية,ويحضرني في هذه السانحة قصة مطالبته للوكالة تزويده أولاً بأول بتفاصيل اتفاق فصل القوات بين مصر وإسرائيل في أعقاب حرب أكتوبر (نوفمبر)1973والتي جرت في عند الكيلو101 بسيناء وقد كلفت في اليوم المحدد للتوقيع بمتابعة ما يرد في وكالات الأنباء وتضمين النص في نشرة ترسل إليه في أي وقت من الليل. وأنجزت ما طلب مني وأرسلت النشرة إلى منزله بعد منتصف الليل موقناً أن تعبي سيذهب سدى ولكنني فوجئت في الصباح الباكر بإشادة يتلقاها الأستاذ مصطفى أمين من نميري ويبلغه بسعادة أنه فوجىء بأن الرئيس السادات لم يكن قد اطلع على النص عندما اتصل به ليهنئه بهذا الإنجاز الذي ترتب عليه إعادة الأمور إلى نصابها بعد ثغرة الدفرسوار. يبقى سؤال مهم هل كان نميرى ديكتاتوراً وشرساً ودموياً تجاه متحدي سلطته؟ الإجابة نعم ,ولكن هل كان الوحيد في المنطقتين العربية والإفريفية ؟ أقول دون أن أكون من جماعة التداول الدموي للسلطة ،(لا ).فقد درجت شعوب المنطقتين حتى بعد مرور عقد كامل في الألفية الجديدة الجلوس في مقاعد المتفرجين، بينما يتبادل المستبدون السلطة باستئصال بعضهم البعض.