كما التقينا بدون ميعاد، رجعتُ أقتفي أثري بدون ميعاد الى محراب ملتقانا الأول على حافة المدينة. ولما لم أجدكِ ذهبتُ الى الشاطي لألتقيك... بدون ميعاد! وجدتُ أوآني الشاي مبعثرة على أريكة في ركن قُصي في فناء المرسى. إنها ذات الأوآني العاجية اللون والتي احتسينا منها رحيق لقائنا الأول. إلتفتُ يمينا ثم شمالا لعلي أجدكِ في انتظاري... بدون معياد. وقع بصري على هيكل امرأة وقفتْ كأنها تهِم أن تعانق حبيباً. ركضتُ نحوها فرِحاً، ُمتوجِساً، مُتأملاً ، لكنها ادارتْ علي ظهرها بسرعة وبرشاقة راقصة باليه، ثم رفعتْ يديها عالياً كأنها تخاطب البحر أمامها. تسلل شاع شمس المغيب من شعرها وتسلل بعض الضوء من قوامها الممشوق، وبدتْ كأنها تِمثال من الأبنوس أبدع في نحته إزميل عاشق فنان. وقفتُ أمامها وأمواج البحر تتلاطم خلفي كأنها تشد من أزري وتشجعني لأقترب منها خطوةً أُخرى. رفعتُ الثوب عن وجهها برِفقٍ. قفزتْ خطوة الى الوراء كما تفعل ممثلات هوليود عندما تصطنعن الدهشة والمفاجئة. تباً لك ! من أنت؟ سالتْني بغضب مُفتعَل. قلتُ: عفوا سيدتى الجميلة...العارية على حافة البحر. أغفري لي لهفتي وهرولتي وقِلة حيلتي. لم أقصد إزعاجكِ. رمقتني بنظرة ماكرة ثم إبتسمتْ بوجهها الشاحب. قالتْ: ماذا تريد؟ تناثرتْ وتجمدتْ الكلماتُ علي شفتيها الورديتين، المثيرتين، بينما ظل فكها الناعم مشرأب نحو السماء عن قصد ليكشف عن جيدطويل، مثير. أدركتُ حالاً إنها غير مكترثة باجابتي على سؤالها المصطنع. ادركتُ أن ما سؤالها الا مكيدة ماكرة كالتي ارادتْ زوجة فرعون أن يقع فيها إبن يعقوب، يوسف. قلتُ: عفوا سيدتي الجميلة. أرايتِ في هذه الانحاء امراة أبنوسية اللون...جميلة، على رأسها تاج من الشَعر مرصع بالياقوت، في فيها دُرر تتناثر حينما تبتسم، وفي رجلها الأيمن رشيم يخشخش بايقاع وأنغام الحياة؟ لقد بحثتُ عنها في كل مكان، لكن لم أجدها. لقد بحثتُ عنها بين ألوان القوس قزح. لقد بحثتُ عنها بين طيات الزهور، وبين قطرات الندى. لقد بحثتُ عنها أيضا بين رموش عيني الإلهة ديانا..إلهة القمر واُخت أبولو،ولكن لم أجدها. قالتْ: أجل. لقد رأيتها! قلتُ: قل لي بربك اين أجدها؟ قالتْ: ومن أنت؟ قلتُ: أنا عاشق ولهان، أعشق الجمال، وأهوى الهوى، وأطرب لغناء العندليب ولصوت المطر. أنا غجري ..بوهيمي.. لا وطن لي غير موطن الجمال والحب ..أمشي في مواكب مجوس الحب في البكور، وكالدرويش أرقص تحت شمس الضحى حافي القدمين، مغمض العينين، أُحّلِقُ في سماوات الحُبِ حتى أذوب من النشوة، ولا أفيق إلا عندما أرى طيفها وتحدثني عيناها الجميلتان. قالتْ: آمنت بأنك عاشقها. قلتُ: لكن من أنتِ؟ قالتْ: أنا مِرْسالُها ومِرْسالُك أيضا. قلتُ: اذاً أين أجدها؟ قالتْ: أتتوق لرؤيتها؟ قلتُ: على أحر من الجمر! قالتْ: ما هي كلمة سِركما؟ قلتُ: بل كلمتان! قالتْ: ما هاتان الكلمتان؟ قلتُ: وجه القمر! قالتْ: صدقتَ! قلتُ: اذاً أين هي؟ قالتْ بحسرة : أنت عاشق غير مجْدُود. شأنك شأن مجنون ليلى وإبن العبس، عنترة بن شداد، والمحلّق معشوق تاجوج وروميو حبيب جوليت. لقد أشعلوا جميعاَ نيران الشٍعر والحُب في قلوب العُشاق، وقالوا في الهوى ما لم يقله غيرهم من قبل أو من بعدهم. بَيد إنهم ماتوا كمدًا في بحيرة الحرمان كالجِمال التي تموت ظمأ وعلى ظهورها قِرب ملئة بالماء العزب...النمير. وأردفتْ: إنها ليست هنا. لقد رحلتْ. لقد أبحرتْ سفينتُها في جُنح الليل، ولقد بكى السماء حينها غيثاً مدرارا لرحيلها. لكن ويحك أن تستسلم لليأس. لقد تركتْ لك رسالة! أخرجتْ زهرة كبيرة من خلف اُذنِها. مدتْ يدها. خطفتُ،بل بالأحرى، قطفتُ الوردة من يدها. تفتقتْ الوردة في كفي رويدا رويدا لتكشِف عن طلاسمها وأسرارها . يالها من روعة! إنها رسالة كُتِبت على بتلات الورد الأحمر! كتبتْ بمداد من رحيق الياسمين:- الى من كنت حبيبي لسويعات بدتْ بجمالها ولجمالها كأنها دهر من الزمان.. الى من أتيتَ من غير ميعاد ودخلتَ دنياي بدون قيود.. الى من تركتُ لك الباب مواربا لكي تدخل الألباب بدون أن تقرع الباب.. الى من كنت حبيبي... أزف اليك تحية الود والشوق والمحبة، أولاً، لك العُتبى يا من كنت حبيبي...لقد فأجأني السفر مثلما فاجأنا لقاؤنا الأول. لا يطيب لي أن أحيطك علما بان سفينتي قد أبحرت ليلاً. لكن يسعدني كثيرا ان أقول لك، يا من كنت حبيبي، بأنني لم أغادر هربا من سهام الود ولا من السهام الاخرى والتي تزخر بها كِنانتك، بل أرجو أن تعلم إني لم أهرب إلا صوب هموم جُسام، حساسة، لا تتحمل الإنتظار. لابد ان أسافر! هذا هو المكتوب لي ولك. هاهو البحر يحيط بي من كل صوب وحدب. البرد قارس والظلام دامس. ليس لي رفيق يسامرني غير الدُجًى وصوت البحر. سأفتقدك كثيرا ياصديقي! سأفتقدك كثيرا ياصديقي! لا أدري متى ولا أين ولا كيف ألتقيك مرة اخرى، لكني على يقين بانه سوف يأتي يوم ترسو فيه سُفُننا في آن واحد على شاطي جزيرة الشوق. أكيد، ساسمع صوتك وساُسمعُك آهاتي وصمتي عبر الأثير، ولكن هيهات..ليتْ لي عيون زرقاء اليمامة لكي أراك دوما في نهاري وفي منامي. سأفتقدك كثيرا ياصديقي! سأفتقدك كثيرا ياصديقي! وأخيراَ، سلام عليك يامن كنت حبيبي لسويعات جميلة كعبق الخميلة، سويعات ستظل ذكراها العطرة ينبوع إلهامي ومصدر زاد سفري الطويل. الى أن نلتقي مرة أُخرى على شواطي الغرام، لك كل حبي الذي لن يقبره غُبار الأيام ولا جور الزمان!" 14 سبتمبر/أيلول 2014 الموافق 26 من شهر الزمن الجميل (اي اليوم السادس والعشرون مُنذُ لقائنا الأول..بدون ميعاد) [email protected]