يبدو أن الصاق صفة (بل "تهمة") الجنون غدت من أيسر ما يمكن أن يطلقه الناس في بلادي على "أشقياء الحال" ممن عجزوا عن التكيف والتعايش والتأقلم على "عالم مجنون مجنون مجنون"، والأخير هذا (لمصلحة من فاتهم الاستماع / المشاهدة) هو اسم فيلم غربي ساخر ملأ الدنيا وشغل الناس في ستينيات القرن الماضي. ففي عنوان لصحيفة شهيرة ورد خبر يفيد بأن نواب بتشريعي الخرطوم قالوا بأن "المجانين بالشوارع يشكلون خطرا على المواطنين"! ويبدو أن العجائب لن تنقضي في البلد المعذب المنكود (والعبارة الأخيرة لعبد الله الطيب)، إذ لم يجد هؤلاء النواب "العقلاء" من يذكرهم بأن المرض ابتلاء، وأن "الملافظ سعد"، وأن بعض "المجانين" بيننا قد يكونون من بين الجالسين على مقاعد دوارة وثيرة في مكاتب أو قاعات مكيفة، ولكن لم يقيض الله لهم بعد من يبشِّع ب "جنونهم المفترض" أو يأتي له حتى على ذكر خافت أو متستر. ولم يجد هؤلاء النواب "العقلاء" من يذكرهم بأن من أصيبوا بأمراض نفسية أو عقلية (دائمة أو عبارة) يجب أن يلقوا من الدولة الرعاية والاهتمام بأكثر مما يلقاه المواطن الصحيح (والأخير هذا صار بفعل عوادي الزمن –وأسباب أخرى- من الأنواع النادرة المهددة بالانقراض السريع)، ولا يجب أن يكونوا في الشوارع أصلا، ليس فقط من أجل الحفاظ على سلامة الآخرين، وضمان عدم وجود ما يعكر صفو الأمن والمظهر العام للمدينة الأنيقة، بل من أجلهم هم ولرعايتهم كمواطنين لهم على الدولة حقوقا لايمكن لدولة – إلا إذا كانت نازية التوجه أوفاشية السياسة – التنكر لها. وليس من المقبول انسانيا الكتابة عنهم وكأنهم قد ارتكبوا عمدا أفحش الجرائم مع "المجرمين" الآخرين، ولاعن عزم الحكومة على "إخلاء الشوارع من .... والمعتوهين" كما جاء في إحدى الصحف، وكأنهم نفايات أو قاذورات تلطخ وجه المدينة الساحر الجمال. وإن سأل أحد من الناس عن المكان الذي سيتم فيه التحفظ على هؤلاء "المجانين" بعد "إزالتهم / إبعادهم عن الشوارع"... أين سيذهب بهم؟ وهل هناك أدنى استعداد لوضعهم في مصحات أو ملاجيء أو مستشفيات متخصصة؟ بالطبع هذه من نوع "الأسئلة البلاغية" التي لا تنتظر إِجابة! وكنت في أوائل سنوات الثمانينيات أشاهد واحدا ممن يشتكي منهم الآن بعض هؤلاء النواب "العقلاء" يقف على إحدى دوارات "صواني" العاصمة رافعا عقيرته بأقسى الشتائم وأقذع العبارات في حق النظام المايوي ورئيسه، ويمر الناس عليه وهم يبتسمون على هذا "المجنون الجريء" والذي يصرخ – وبأعلى صوته- بما يخفونه في صدورهم ويخشون أن يطلع عليه الناس. ولم تجد سيدة حكيمة كانت معي ذات مرة في سيارة وشاهدت ذلك "المجنون" غير أن تقول : "يا ولدي والله فايتنك بالصبر"! وفي صحيفة أخرى رأيت رئيس تحريرها يكتب عن حادثة وقعت في جوازات المقرن قام فيها مواطن – ولسبب ما - بطعن ضابط شرطة بسكين وأطلق ساقيه للريح بعد ذلك، فتعقبه بعض رجال الشرطة ولما عجزوا عن الامساك به، أطلق واحد منهم رصاصه الحي عليه فأخطأه، وأصيب برصاص ذلك القناص غير المجيد لفنه شابا من طلاب جامعة السودان فأراده قتيلا، وأصاب فتاة تصادف أنها كانت في ذات المكان برصاصة في عنقها. وعاتب الكاتب محقا رئاسة الشرطة على إصدارها بيانا متعجلا وصفت فيها المتهم بأنه "معتوه" ( ويا لكثرة متردافات كلمة "مجنون" في عربيتنا المحبوبة!) دون أن تخضع الرجل إلى فحص طبي متخصص للتأكد من سلامة قواه العقلية. ولا شك عند غالب المتابعين أن الكثير من المسئولين (وهم بالتصريحات من المغرمين) يطلقون الكلام في كثير من الحالات دون تبصر بنتائجه ودون تحسب لعواقبه، ومن عجب أن الأقدار قد ألقت ببعض هؤلاء في مواقع مهمة في أكثر وزارات وإدارات البلاد حساسية. ويبدو أن معظهم في حاجة ماسة لأخذ كورسات ابتدائية (ثم متقدمة) في اختيار الكلمات المناسبة في الأوقات المناسية، والألفاظ الصحيحة سياسيا Politically correct (ضمن حزمة كبيرة من موضوعات أخرى)، وهذا ليس من التأسي بالغرب (رغم أن هذا ليس عيبا في ذاته)، وتقاليده الراسخة في الدقة والتروي في إطلاق الأوصاف وتخير الحسن منها، بل هو أصيل في تراثنا وثقافتنا من قديم. ولاحاجة لتذكير ب "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" و"وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً"، وقول الشاعر رأيت اللسان على أهله إذا ساسه الجهل ليثا مغيرا وحكمة أكثم بن صيفي الشهيرة: "مقتل الرجل بين فكيه". نختم هذه السطور بالدعوة بالرفق المادي (واللغوي أيضا) بهذه الفئة المظلومة المستضعفة من المرضى... ولا يحتاج هذا الأمر البدهي لقرارات أو توجيهات من جهات عليا، أو سن قوانين جديدة، ففيما هو موجود ما يكفي، ولكن كما يردد سعيد في "بندر شاه" الطيب صالح: "القوانين الله يطرى زمنها بالخير"!