دبابيس ودالشريف    مناوي ل "المحقق": الفاشر ستكون مقبرة للدعم السريع وشرعنا في الجهود العسكرية لإزالة الحصار عنها    أسامة عبد الماجد: مُفضِّل في روسيا.. (10) ملاحظات    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    بعد رسالة أبوظبي.. السودان يتوجه إلى مجلس الأمن بسبب "عدوان الإمارات"    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اللون- الفن- اللغة .. بقلم: د. أمير حمد برلين _ألمانيا
نشر في سودانيل يوم 08 - 10 - 2014

تناول د. محمد مختار وغيره من الباحثين ظاهرة (اللون) فوجدتني مدفوعا إلى الكتابة عن هذه الموضوعة التي تفتقر إليها المكتبة العربية. لا أعتقد أن ثمة عنصر آخر يسبق اللون في الكشف عن الأحاسيس الإنسانية إذ لديه مقدرة على الإضاءة الكشف عن شخصية الإنسان من ناحية الانفعالات والعاطفة والناحية الفكرية كذلك. وبالطبع فإن لكل لون دلالة خاصة يتمكن من خلالها التحليل النفسي من إحداث علاقة بين اللون والشخصية وكذلك اللغة القائمة بينهما كوسيط.
منذ بدء الخليقة ارتبط عنصر اللون بالناحية الذوقية – الجمالية – ثم تدرج ليكشف عن متاهات وانفعالات الإنسان. ظل الأبيض والأسود لونين أساسيين في معزل عن ألوان أخرى أحدثها وشكلها الإنسان بفرشاته عبر خلط الألوان لتوليد لون إضافي. الأبيض للوضوح والجلاء والسلام والشروق والنشاط، فيما ظل اللون الأسود مأوى للعتمة والانغلاق والخوف ومسرحا للأرواح الخفية والأشباح. جاء علم الاجتماع والنفس واللغة ليكشفا في بحث متضافر (عن أهمية ورمزية ودلالات اللون) بعد أن تطور وأصبح علما في حد ذاته تدرس من خلاله شخصية الفرد وسلوكياته وتصرفاته، هذا إلى جانب الناحية الفنية الجمالية.
اتفق الباحثون في هذا المجال على أن الكل لون دلالة، وتحليلا نفسيا قائما بذاته، فاللون الأزرق مثلا يعكس حالة (المزاج المعتدل) والتأمل والشعور بالمسئولية، علما بأن الأزرق القاتم المحتوي على اللون الأسود يخالف هذه الدلالات، إذ نجده يرمز إلى حالة الخمول.
وهكذا دواليك؛ اللون الأحمر لون الانفعال الهجوم والحرب والأصفر للتحفز والنشاط والإشراق والرمادي لون محايد أما الأخضر فارتبط بالإيجابية والطبيعة والبنفسجي ربط بالجنس والإثارة في أغلب الأحوال، على النقيض من اللون البني الذي يرمز – على حد تحليل المختصين – للدفع الخلاق والارتباط بالحواس لا التركيز على الغريزية الجنسية المنوطة باللون البنفسجي.
ربما لا تجد كل هذه الدلالات ميولا أو إعجابا لدى الفنانين والأدباء المهتمين باللغة؛ لأن فهمهم الخاص – واستشرافهم لعالم اللون نتاج تجارب خاصة ومخيلة فياضة يتلاعب المجاز فيها، إذ يقلب دلالة الأبيض إلى أسود والأخضر السلمي إلى أحمر همجي متحفز للقتال.
هذا من ناحية، ومن ناحية فنية/ تذوقية، نجد الفنان منقادا إلى عالم خاص تختلط فيه الألوان المتنافرة لتتحول في نهاية المطاف إلى لوحة منسجمة تماما وبدلالات (تنافرية – توافقية) معا.
حينما كان "فان كوخ" يرسم حقول أزهار عباد الشمس اعترض بعض الرسامين على رسمه، إذ رأى أن تداخل اللون الأصفر والأبيض والفضاء المفتوح مفاتيح بدائية معروفة لا تضيف أو تحدِّث في الفن كثيرا. أما فان كوخ فرسم لوحاته – التي أصبحت ضمن الأعمال العالمية – معتمدا في فنه على توليد الطاقة الإبداعية والخيال الجموح والالتحام بالبيئة كجزء منها لا التمري فيها كبانوراما خارجية تجلي الضيق عن النفس فحسب. هذا أقل ما يسعى إليه الفنان المتميز فالألوان/ اللوحة، بالنسبة إليه عالم متداخل مع عالمنا لا ينفصل عنه.
أما بلند الحيدري عندما تحدث عن فن كاندنسكي فيقول: "ولقد بلغت التجريدية على يد كاندنسكي أروع عطاءاتها لما استطاعت أن تحمل من إيحائية شفافة غنية بالأنغام المتداخلة بين الأجواء المتجاورة في صورها" .
أخيرا جاء تحديد ألفاظ الألوان عبر التاريخ وفيه محاولات مثيرة وخلط؛ فاللون البرتقالي مثلا لون ذو موجة طويلة إلا أنه كان يدمج في الأحمر والأصفر لاعتباره خلطة وصلة بينهما، وحتى بعد تميزه في مرحلة تالية كان المسمى الذي يدل عليه هو لفظ الأحمر أو الأصفر، مع ذكر محدد وصفي.
إن اللون جزء من حياتنا الروحية المعنوية والحسية، إذ يلون بيوتنا وعالمنا الخارجي أيضا ويبعث الراحة النفسية/ أقل قسط مما يمنحه اللون، ويحلل شخصياتنا وانفعالاتنا تجاه الآخر وما حولنا.
وعليه فإننا لا يمكن أن نتخيل عالمنا الراهن دونما لون، وقد استحدثت وأبدعت الألوان الصناعية فأضفت على حيز الألوان الطبيعية إضافة، تناسقا، وتكملة على نحو ما.
إن من سيكتب اليوم عن علم اللون يجد نفسه محاصرا بموسوعة ضخمة من المعطيات العلمية والتقنية التي أصبحت تولي اللون أهمية قصوى وأولوية، كالتعرف على العنصر وتفاعلاته مع العناصر الأخرى في علم الكيمياء.
الوطن العربي لم يكتب كثيرا عن اللون لربما لأنه أصل وأساس فيه فلم يسترع الانتباه. انتبه العرب القدماء إلى العمارة وعلاقتها بالأدب فكما يقسمون البيت الشعري إلى شطر وعجز والمقال إلى تمهيد وعرض وخاتمة تماما كانوا يفعلون في عمارتهم (الفناء، الصحن، البيت، الرواق، المجاز، القمرية وغيرها) ففن العمارة بمثابة خاتمة وخلاصة تجاربهم الحياتية ونتاج أفكارهم وانطباعهم؛ أما اللون فهو أساس كما ذكرنا بكل معطياته وألفاظه الأساسية والثانوية والشائعة والتغييرات اللغوية والتصرف في المصادر الطبيعية. نعم إن اللون أساس الجمال والمؤشر الحقيقي لتطور النتاج الثقافي الإنساني عبر التاريخ.
إننا، إذ تتحدث عن اللون، بوصفه عنصرا (أساسيا في الفن والجمال والحياة بصورة عامة) نجدنا نلتمس تقاطعاته مع الخرافة والدين والتقاليد؛ يقول أحد الباحثين الألمان إن استخدام الأسطورة للون تمثل في علاج الأمراض وظل هذا التوجه سائدا بين الشعوب البدائية كالهنود الحمر والقبائل الأفريقية. فالهنود الحمر مثلا يعتقدون أن الله (أبيض)، وسار بين معظم الشعوب الأخرى أن اللون الأصفر شفاء للعين – ولم يزل الألمان إلى الآن يعتقدون في الأثر الإيجابي اللون الأخضر/ الطبيعة على النظر. أما في أمريكا القديمة فكان اللون محددا للجهات، فيما رمز اللون الأصفر للمعابد والمراسم في شرق آسيا وفي الأيقونات المسيحية. وهكذا الحال مع بقية الألوان. أما اللون الأسود فقد ارتبط في منظور معظم الشعوب بالظلام والخوف والاتساخ استنادا إلى غسلهم الملابس من الأوشاب/ الألوان القاتمة. المعروف أن اللون الأزرق هو لون البحر والسماء ويدل على الراحة النفسية والاسترخاء. أما التقاليد العامة فنستخدم اللون الأخضر رمزا للخصب والنماء والسلام.
ربما نجد عبر رحلة اللون التقارب والتباعد بين منظومتي الشعوب الدينية والاجتماعية؛ فالتاريخ الإنساني ظل متصلا متواترا يرفد ارتباطات الشعوب ببعضها البعض سواء عبر التجارة والعلاقة البحرية المفتوحة أو الروابط والاستعمار السياسي. إن من يبحث في رحلة اللون يعود ليبدأ من جديد من الصفر (من اللونين الأسود والأبيض)، ربما يعود ذلك للتوترات الاجتماعية والسياسية الراهنة التي لم تزل تظلم السود وأبناء الشرق باعتبارهم لونا نشازا/ أصفر انفصل عن اللون الأبيض الذي استوطن الغرب، منظومة وثقافة.
وقف بطل قصة (في غرفة الانتظار)، يتأمل لوحة كاندنسكي المعلقة في غرفة انتظار المرضى- لم يكن يتأمل فيها عرضيا وإنما استسلم لعنصر اللون والنقاط اللونية الهندية، فظل كل لون فيها يحفر في ذاكرته وبذكره بحادثة ما، عاشها أو سمع بها. وكما نقب في الخطوط الطويلة وقف عن التعرجات والتموجات التي ذكرته بنهر النيل ومأساة غرفة بطل (موسم الهجرة إلى الشمال)، رغم إجهاد ذهنه، ويتخذ خياله لفك طقوس لوحة كاندنسكي المعقدة ودلالات الألوان تفسر كل طلسم في اللوحة. عاد بعد فترة ليحل هذا اللغز الفني. لقد كان لغز الحب "لم يستطع سبر غوره إلا عندما أحب فتاة فتطابق الإحساس مع اكتشافه سر اللون، فاتحدا إلى حد التماهي".
ما يهمنا هنا هو أن اللون تدرج عبر التاريخ الطويل من توفره كعنصر جمالي تذوقي إلى سيكولوجية نفسية تعنى بإحساس ودلالة شخصية الفرد. أي أنه أصبح مرآة لعكس الشخصية الإنسانية إلى حد كبير "كعلوم الأبراج" الشارحة لشخصية الفرد وفقا لتاريخ وساعة ميلاده منذ الفراعنة القدماء.
Xxxxxxxxxxxxxxxxxxxx
في غرفة الانتظار
(ولقد بلغت التجريدية على يد كاندنسكي أروع عطاءاتها لما استطاعت أن تحمل من ايحائية شفافة غنية بالأنغام المتداخلة بين الأجواء المتجاورة في صورها) بلند الحيدري
منذ يومين وبطني تؤلمني. تجاهلت الألم وسوفته فربما يهدأ من تلقائه، إلا أنه احتد في هذا المساء ، فتشاغلت عنه مجدداً بالإطلاع والإستماع لموسيقى البلوز(Blues). لم أكن أنام مبكراً لأنني أعشق الليل كثيراً فأتمعن طيه في شجرة الدردار حذو نافذتي، لا سيما حينما يسبل اول المساء وشاحه فوقها كعروس، إنها شجرة وارفة ينداح حفيفها كخفق موج عبر نافذتي المشرعه، وهي تلقي بأغصانها الطويلة على حافة نافذتي لتصافحني، فأحس خلاصاً من ربقة وتقلبات الحياة. لاحت شجرة الدردار حزينة في صباح هذا اليوم، لأن عمال البلدية اجتثوا أغصانها الطويلة خيفة أن تسقط على البيت الهندي والأرجوحة في ملعب الأطفال الصغير أسفلها. تألمت لتألمها... وربما اشتد ألم بطني لتأثري لها، دون أن أعلم.
في ذات مساء شتوي استحالت أشجار الدردار في الحقل الجليدي الممتد حذو نافذتي إلى صواري بيضاء بفعل الجليد المتهامي بشدة... تعرت أغصانها، وامتدت كأكف متضرعة بالدعاء فكتبت... كتبت أسطراً لشجرة الدردار مؤانستي:
جذع من ضياء
تمتد أياديه الكثيره
لتستعيد روحه
أما يكتفي في لوحة البياض
بأنه الملاك
...........
عرى الشتاء شجر الدردار
حذو نافذتي
لكن العصفورالقابع وحده
فوق الغصن
كأثر الصيف
غطى عريها
بحشمة ريشه...
بوقار العزلة
بطني تؤلمني... أطفأت المصباح جوار وسادتي... فربما انام ، فيهادنني الألم. كنت أتذكر احلامي دوماً حينما أستيقظ... ارتبها في تحدٍ مع ذاكرتي، إلا أنني في صباح اليوم التالي لم أتذكر منها شيئا ربما لوخز هذا الألم الممض... وقبل أن أذهب إلى الطبيب، في الصباح هاتفني "أوزول" زميل عمل سابق، ليسألني ان كان بموسوعي أن ارافقه مع زملاء لحضور سمنارعن قضايا المهاجرين، فاعتذرت له بسبب وعكتي.
كان الطريق العام في هذا الصباح شبه شاغر إلا من عمال البلدية، الذين يشذبون غصون الأشجار... تذكرت ترهات الصبي حينما كنا ننخل في جذوع الأشجار قلبين متداخلين وتذكارات حب. حيتني بائعة الورود قرب عيادة الطبيب بابتسامة آسرة، لكأنها تود أن تهمس لي بإحساس دافئ. لم تقل شيئا، وظلت ابتسامتها مرتسمة على شفتيها، فيما تحجرت أنا مزموم الشفتين قبالتها. لقد قال لي "مايكل" صديق أمريكي أسود بأننا أبناء الشرق معقدون بشدة، لا نجيد فن التعامل مع النساء، وحملهن على الدعابة والضحك "لا تأخذ الأمر بجدية just easy.. take it easy my frend ....
حاولت في العيادة متوسلاً أن أقنع الممرضة بضرورة معاودة الطبيب إلا أنها رفضت، وأخذت تشير بسبابتها إلى لائحة المرضى الطويلة وتهز هامتها قائلة: مامن ميعاد إلا بعد يومين... حاولتها مجدداً وجلست على كرسي ممسكا ً بطني كملدوغ... فسمعتها تقول: حسناً أدخل غرفة الانتظار ولكن سيطول وقت انتظارك إلى حين فحصك!!!.).
لم تكن غرفة الانتظار مكتظة بالمرضى كما توقعت. سحبت رقما وجلست قرب النافذة إلى جواري مريض ألماني شبه ميت، وسيدة عربية حامل مع طفلين يحاولان تركيب بيت بمربعات ملونة، وسط ألعاب أطفال متناثرة، وثمة مرضى آخرون يقلبون صفحات مجلات المانية بقلق وضجر واضح. سمعت صوت مريض يلعن ويكرر جملا بذيئة إلى أن دخل غرفة الانتظار برفقته سيدة. سحب رقم 11 وجلس جوارها.
كان هذا المريض غريب الأطوار يجلس ويقف فجأة ثم ينحي نظارته المعفرة السميكة جانباً، ثم يضعها على أنفه المعقوف وينظر من فوقها متفحصاً وجوه المرضى واحداً واحداً ويردد أكثر من مرة "ياماري.. ياماري" وهو يحدث مرافقته. لا شك أنها زوجته!!1
قبالتي... على جدار ناعم أطلت لوحة لكاندنسكي صرفتني بطلاسمها عن كل ما يدور في غرفة الانتظار. ماذا كان يريد أن يقول بلوحته هذه... بتجريده وقوالبه الهندسية الدقيقة والوانه المنتقاه؟ ماذا بحق السماء!!! أرادنا أن ندلف الى لوحته ونتنزه بين أروقتها والردهات!!
هذا المسطح الشاحب أصفر اللون ينبسط كأنه اللانهاية نفسها.! لماذا أغرم فان كوخ برسم حقول عباد الشمس؟ فأدمن تذويق لوحاته بالأصفر الفاقع... لماذا لم يكتف من جمع هذا التبر المنسكب من قرص الشمس؟
ها انذا أتمعن لوحتك يا كاندسكي مأخوذا بألوانها المتداخلة بين المسطحات والأفاريز الصغيرة. ماذا كان يدور في خلدك بحق السماء وأنت تخصب باللون الفراغ كما يخصب الماء رحم الأرض؟
هكذا كان يتساءل بروفسير هارتمن في معرض لوحاتك. كان يجيب ويدحض اجابته من ثم لمجرد تقاطع مكعب صغير بآخر أو بخط مائل يتراءى بين قوالبك الهندسية المتقنه. وأنا ماذا أطلب من حرم الجمال هذا قبالتي؟ المشاهدة، تزجية الوقت، أم اريد استنطاق صمت الألوان وتقاطيع اللوحه الخجوله؟.
كل مسطح طيها خطأ كان أو زاوية شامخ كحراب قبيلة الماساي إلا هذا الخط المنثني كالأفعوان. أهو رمز للنيل؟ النيل الذي انحدر إلى قاعة «مصطفى سعيد» كمن يذرع عقبات سلم الى الأسفل... كنعاس يهبط بالصحو الى حلم.هاهي كلماتك تهمس في اذني ( حانت ساعة الوداع ياصديقي... لا داع لخداع النفس... اوصيك بإبنيّ... جنبهما عناء السفر...) ماذا ترك مصطفى سعيد بعد انتحاره؟ يقولون لاشيئ، لا إرث ولا ذكرى، ذهب كما أتى. هكذا قالوا إلا أنه قدم نفسه قرباناً لكي لا تنتهي كنهايته، وأضاء بقعاً فينا مظلمة كمن يضيئ عتمة بمصباح يدوي. النيل الأفعوان لا يقتل أحداً يامستر مصطفى سعيد، بل يضمه اليه كأم حنون... وداعاً ... ولتترك لي باب غرفتك مشرعاً، في القرية النائية تلك على ساعد النيل فإني أريد أن أقرأ ما كتبته بخط رفيع في ثنايا مذكراتك. ثمة شيئ لم تذكره... وأنت تدعي أن سيرة حياتك صفحة بيضاء كما تهيا (هالر/ ذئب البوادي حياته)... ما من شي ء يذكر يا كاندنسكي.. لوحتك قبالتي منممة، مموسقة، جاحظة ببهائها تكاد تترجل من سطح الجدار.
أتهيأها حين غرة، كورقة بيضاء... كسيرة مصطفى سعيد إلا أن ثمة عالم تقنفد خلف حيز البياض هذا! (كل شيئ سيهزمه الموت إلا الفن) هكذا قلت ياكاندنسكي وذهبت لتدعنا نحاور خلودك في الفن المؤطر... خلودك ياشاعر الريشه.
هاهي لوحتك قبالتي، تبتسم لي في الخفاء... تحدثني بصمتها عن صمتها وعالم تقنفد خلف البياض. أتمنعها... ألج اليها كزائر بستان، إلا أن اللون الأسود فيها يخيفني... يقلق تناغم أفكار ترسبت في مخيلتي، ترسب طين على قاع نهر.
اللون الأسود (لون الحداد)... هكذا رددت الجارة الهرمة ياكاندنسكي، لم تكن تهاب الموت... ولا تريد أن تعيش أكثر قالت: اكتفيت. وطلبت من الطبيب أن يوقف نبض حياتها بمصل قاتل دون إحساس بالألم. أزعجت برغبتها المتطرفة ذويها إلا أنها انتصرت في نهاية المطاف، فشيعت في مراسم دفن بسيطه، لم يتبق منها سوى اغصان زهور يابسه على قبرها ونصب تذكاري ابيض كراية للسلام. هكذا اذاً تنتهي الحرب ياكاندسكي. نصب أبيض ك (تابوت بحار) ظل على سطح الأرض (دون أن يوارى) ذات شتاء في قلب المقبرة لأن البحارة المشيعون، تركوه وذهبوا لإحتساء الجعة في حانة نائية، ولم يرجعوا بعدها لدفنه. ولما انصرم موسم الشتاء ذاب الثلج فوق تابوت البحار، فبرز كروح شريرة بين الانصاب.
من يودع من؟ هذا المكعب الأسود صامت تلوى حول سره وعصى ياكاندنسكي... أتراك تريد الترميز الى بقعة مظلمة فينا؟... تريدنا إكتشافها. لوحتك قبالتي على جدار أملس كإهاب حسناء تسالني، فأجاوبها بحذر... رموز مبهمة ترتب فوضى مشاعرنا. هل قرأت قصة مخبول زعم بموسوعة ترتيب الضياء وغسله؟ أو أقصوصة غول أهاب أهل قرية بشرب ماء النهر كله أن لم يهبوه حسناءً من بناتهم. في أي حل فضاء خيال ترفرف فراشات وحيك ياكاندنسكي؟ قبالتي تتفاعل قوالبك الهندسية طي بوتقة لوحتك في حيز مضاء... تتجاذب وتتنافر في خلودك المؤطر... إلا هذا التقوس الكرزي كشفتي مسز روز.... كانت تجلس عاقدة ساقيها الطويلتين الممتلئتين، وتنحني بين الفينة والأخرى، لتبرز مفرق نهدينا، متظاهرة بترتيب أشيائها الصغيرة في حقيبتها اليدوية.
اللون الكرزي المتواتر في مسطح لوحتك كقمرات قطار برلين الليلي حيث التقيتها. قالت لي سأزور موطنك ذات مره، في إحدى عطلاتي الصيفية. من يأبه بوطني الصحراوي؟! كتبت عنواني الالكتروني على علبة سجائرها وافترقنا. أتراها تتذكرني بعد! يقولون وحده الخط اللون ذو ذاكرة حافظة لما هدمه الزمن ياكاندنسكي. ذاكرة كألوانك ... ها أنت ترحل من مسرح الحياة فتظل ريشتك ندية... تنهض كشراع مبحر في اللانهاية يا شاعر الريشه، هاهو صداك يترجع في الآفاق (كل شيء سيهزمه الموت إلا الفن).
أمواج هذا الأزرق اللانهائي المنسرح في آفاق لوحتك...؟ ها أنت تؤطر... البحر تعبأه في قوالبك الهندسية، وتشحذها كأفلام.
هذا الأزرق والأصفر المنفرد خلفه بانوراما صحراء لانتهاء تدثرها سماء خالصة الزرقة. هكذا تحدثني ريشتك عما كان يعتمل في مخيلتك . الأزرق البحر... يخصب اللوحة، يندرج... وينتهي بغتة ببناء هرم ويستقيم في فضاء حر. انه الشراع الممخر في الضباب ياكاندنسكي. كم من أديب وفنان مثلك الهمه والتهمه البحر بسحره؟! كم؟ ربما بارح همنغواي جنون البطولة ليستقيل، ليخلع قبعته امتناناً لخليج كوبا (الشبح والبحر) أيأمن الانسان قدره؟ أيكون صراعه مع الحياة تحديا ً لها أم فطرة عمياء؟ أتدري ياشاعر الريشة، أتدري ماقاله كاتب كوبي عن همنغواي حينما سأل عنه قال: أنه يذكرني دائماً باللون الأزرق... بالبحر والسماء ومياه الجليد الذائبة التي كان يصطاد فيها! لماذا اذاَ انتحر همنغواي وقد أحب الأزرق اللانتهاء، وتداخل مع البحر، تداخل الموج والشط. ونحن جلوس على شط البحر ياكاندنسكي قال لي صياد اسباني بأن الذي يبحر يوماً واحداً في حياته، سيحمله الحنين للمعاودة الإبحار ولو على لوح خشبي وأشار بيده الى الفضاء الممتد وقبة السماء.
كان الموج يتسرب خلال رمل الشاطئ كإنسراب الغبطة في قلبي. حركت قدمي في الماء وقلت له، بمثل ما أحب البحر، أهابه... أهاب البحر... هز رأسه مستغرباً ياكاندنسكي وأجابني:
هل أحببت امرأة.؟
نعم
أتكتفي بمشاهدتها أم تريدها ان تكون جزءاً منك... أن يتقمص بعضكم البعض؟
عرفت وقتها ما أراد الصياد قوله... البحر الأزرق اللانتهاء لا يقبل التجزئة وأنصاف الحلول...
كيف جزأته ياكندنسكي بأنامل جراح... عبأته في قوالبك الهندسية ومضيت لتنام، كأن لم يكن شيئاً. وهذا الحيز الأبيض... كضيف غريب على لوحتك يتمركز بؤرة أقواس متشابكة مع قوالب مجردة. حيز أبيض محور ألوانك كلها: الأزرق اللانهائي، الكرزي، الأصفر الشاحب، وسواد الحداد... يتموج الحيز الأبيض في انعكاس خيوط الضياء كتموج ستار شفيف نهره نفثات النسيم. في ما كنت تفكر وقتها ؟! ها أنا أقرأك كأشعار الهايكو... مقاطعاً مثلثه بلون واحد، تنفتح بغه على دهاليز ألوان لا انتهاء.... قوس قزح. فيما كنت تفكر؟ أفي نافذة مضاءة في عمق ليل اضرمها شجو غناء غريب تذكر فجأة موطنه النائي... قرية على ساعد النيل؟؟
هذا الحيز الأبيض بؤرة ألوانك الصارخة، والدافئة ومرقد النيل الأفعوان الذي يشطرها كبيت شعر موزون. هكذا الأمر ياشاعر الريشة. اشعة مسلطة بدربة تنغرس في قلب الألوان... لكأني أبصر دماً يتفطر من فنك المؤطر قبالتي.
أفقت فجأة من تأمل اللوحة في غرفة الانتظار، لصوت المريض رقم 11 وهو يشتم مجدداً، فيما تحاول مرافقته سدى تهدئته.
أتدري ياماري أن دكتور استفان، يضع ساعة كبيرة على طاولته، ليحسب الدقائق التي يعالج فيها كل مريض، ويضرب بكفه على الطاولة ما ان انصرمت خمس دقائق ثم يمد يده ليودع المريض قائلاً: أراك في المرة القادمة . ذهبت الى طبيب آخر. ما اسمه؟ دونالد... لا أدري على وجه الدقه، المهم ياماري انه يضع كتاباً طبياً تحت طاولته كما يبدو.. يسحبه ويقلب صفحاته بعد ان يسمع تشخيص المريض لألمه. يبحث ياماري مقلباً الصفحات ثم يقف فجأة مشيراً بسبابته ويهتف... ها... انك تعاني من مرض كذا وكذا، ربما تشكي فيما أقوله ياماري، ولكن الأمر هكذا كما قلت. وربما يختلف من ناحية أو أخرى.
ان الأطباء يعالجوننا كعضو منفرد، وليس كبشر لقد أرهقت ياماري. ذهبت لأول مرة في حياتي إلى طبيب فأحالني إلى آخر، ومن ثم إلى المستشفى، وانتهيت لأبدأ من جديد. اللعنة، متى أخرج من دوامتهم. لقد أمرضوني تماماً كمضاعفات الأدوية، أمرضوني وقد كنت معافاً. انهم يقّسمون المرض كمؤن الإغاثة ياماري. كل طبيب واختصاصه. كدت أن أعمى فأحالني دكتور استفان إلى طبيب العيون، فأحالني هذا الى آخر وقالوا لي في نهاية الأمر أن نسبة السكر مرتفعة ! اللعنة، اللعنة ياماري فأحلت من ثم الى المستشفى الى متى أتردد بينهم ككرة تنس بين لاعبين. صمت المريض رقم 11 ونظر الى لائحة الأرقام، ثم نهض، وجلس، ومسح نظارته السميكة. كل شيئ كما هو في غرفة الانتظار المريض شبه الميت، المرضى وهم يقلبون المجلات بقلق... حتى أطفال السيدة العربية قوضوا بيت المكعبات وسط الألعاب وشرعوا في انشاء آخر. أتسمع ياكاندنسكي اللون الأبيض أذاً ليس زيّ ملائكة الأرض الأطباء وانما هو حرب صريحة بين المصلحة الذاتية وحياة الآخرين. حرب دامية حياتنا ياكاندنسكي. أندمي ألوانك حين تشتبك؟... أكانت الخرقة الحمراء لتهييج ثور الحلبة الأسباني، وحي الهام بيكاسو لرسم لوحة الثور؟
الدم القاني الذي قطرته ريشتك على اللوحة يرحل بذاكرتي الى حرب مجهولة... كحروب كثيرة، تندلع وراء الكواليس، انني أتذكرها ملياً... تمر في ناظري كشريط سينمائي... هؤلاء القتلى زملائي الجنود، رحلوا دون أن يوارى جثمانهم في تلك الأدغال تحت قبة السماء الاستوائية... فنبت العشب بين أضلعهم.
من يودع من؟ انها حرب ككل الحروب!! هكذا زعموا، كان قصف المدافع... والطلقات الطائشة يستاف الأثير حولنا، لا ندري من أين يثب الموت (هيا ازرني أضغط على الزناد، لم أعد أطيق مرارة الألم)
كانت رصاصة الرحمة كل ما ينشدونه في غمار، آلامهم من اصابات الرصاص. الأحمر القاني يخاطبني ياكاندنسكي غير أني لا أملك رداً سوى كلمات تتداخل كأشباح في قصر مهجور. ها أنا أبحث عن فضاء آخر سعيداً غير الدم القاني. وذكرى الحروب وسواد الحداد. لماذا يلاحقنا اللون الأحمر بهوس الموت والاغتراب:
هل ثمة غير الغربة
نلبسها فتعرينا
وذكرى من رحلوا
للحزن قنوت
كأزهار، نبعت في قلب الصحراء
على غرة
فطواها الموت
الوداع ياكاندنسكي... سأغلق لوحتك ككتاب ثمين لوحتك جاحظة البهاء، متى تترجل من الجدار الأملس وتهدأ من حرب طواحين الهواء؟ بطني تؤلمني... دخلت إلى الطبيب وأخبرته بالألم الممض.
نهض من كرسيه الجلدي الوثير، وضغط على بطني بشدة، فتأوهت من شدة الألم. قال لي أن لا آكل اليوم شيئاً، فقط أن أشرب، وأعود اليه في الغد الباكر ليشخص مجدداً، وربما استدعى الأمر احالتي إلى المستشفى لإجراء عملية استئصال للزائدة الدودية. لم يرهبني توقعه، فقط كنت أود التخلص من هذا الألم بأي علاج.
اقتعد كرسيه الهزاز ومنحني بضع أقراص مسكنة من مستودعه الطبي الخاص. سألني بتهذيب بالغ:
من أين؟
من راينكن دورف
ضحك، وأعقب قائلاً:
لم أقصد من أي حي ببرلين، ولكن من أي دولة؟
من السودان
أفضيت الى ذاتي بأن هذا القطر لا يعني له شيئاً البته دون شك، ففاجأني قائلاً:
لقد زرت السودان مع وفد سياحي أكثر من مرة لرؤية الآثار في شماله وجنوب مصر، وملتقى النيلين في الخرطوم عند
(توته).
ترددت من تصويبه، فقد عنيَ (توتي) دون شك، بؤرة التقائهما، وليس (توته) كما ذكر. قلت له أنني أحفظ قصيدة (توتي في الصباح) لأديب سوداني رحل في شرخ الشباب. لاحظت تأثره وانكسار نظراته، قال:
ثمة عظماء كُثّر بارحوا مسرح الحياة في مقتبل العمر، أمسلمُ أنت؟
نعم، وكل أفراد أسرتي، وعشيرتي وأسلافي كذلك.
قال مواصلاً:
إن إلهكم يدعوا إلى التأمل في الكون والأنفس، أليس كذلك؟ لقد ظللت، ولم أزل، أبحث في ماهية أعضاء الإنسان وفسيلوجيتها. لكم شائك وعصى لغزه. أنتم تسمون إلهكم الله، وغيركم ينعته بالروح العظمى، ويهوذا، وغيرها من مسميات عدة، كحروب عدة أضرمت بإسمه تنزه عنها، أتوافقني فيما أقول؟ لا أدري إلى أين تسير بنا قواه الخفيه، ومقولة ازلية الكون وانتفاء الخالق؟
كان يحدثني ساهماً بنظراته في فضاء الغرفة، فتراءى لي كمجذوب أثمله الحال.
قلبت نظري فلم أر ساعة لتحديد مدة الفحص، ولا من ثمة كتب طبية مدرجة في زاوية مظلمة يستعين بها كطبيب في تشخيص المرض. أترى يهزء المريض رقم 11؟ حينما خرجت سمعته يلعن حظه من جديد ويكرر ياماري ياماري... من يدري ربما ألتقيه ذات مرة، فأحدثه عن قصيدة الزائدة الدودية للطبيب الأديب غود فرد بن G.Benn وعن عبث الحياة، لإلبرت كامو... ربما، ربما.
خرجت فقادتني خطاي الى بائعة الورود ثانية. حيتني بابتسامتها تلك فصارحتها بجرأة أخافتني، قلت لها أنها سيدة مستحيلة الجمال، لا أدري كيف أبادرها الحديث، فسراعاً ما تشتد ضربات قلبي وأتلعثم. صرفت نظراتها بحياء وتورد وجهها كقرص شمس جانحة للمغيب.
هل لي أن ألتقيك؟
لم لا.
التقيتها في صباح الغد غير آبه بميعاد الطبيب. كان لقائي بها منعطفا خطيرا في حياتي برمتها. خمسة أعوام لا بل سبعة لم أحس فيها بوطاة مرض ولم أتردد على الأطباء ولو ليوم واحد، إلا ذات مرة ذهبت لاحيي هذا الطبيب وأتمعن ثانية في لوحة كاندنسكي الملّغزة، وأفك طلاسم حب طيها أعيتني وقتها. لم يكن شيئا. فقد هاجر الطبيب الى جزيرة نائية تاركاً خلفه صخب المدينة، وحل محل عيادته مكتب لحماية البيئة.
هذه القصة مهداة الى(نيوسا) البرازيلية زميلة الدراسة .
اشارات:
مصطفي سعيد البطل الذي انتحر غرقاً في رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح.
هالر بطل رواية ذئب البوادي لهرمان هسه الكاتب العالمي.
قصة (تابوت بحار) اشارة إلى قصة من أدب امريكا اللاتينية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.