[email protected] بعد تشخيص المرض وتحديد نوع السرطان الذي أصابني، أصبحت عمليا على بعد همسة من الموت فنادرا وما يتقاعس السرطان عن أداء مهمته المنذور لها وهى الإجهاز الكامل على كل خلايا الجسد والانتشار السريع في أجزاء متعددة تاركا لي الوهن وفقدان الشهية وبحة الصوت والتحديق المتفرس في الفناء. سبحان ربك تنزلت علي شجاعة لم آلفها من ذي قبل، عقدت مصالحة مع الموت، وتعايشت مع كل معانيه، وفي هذه المرحلة بالذات تزايد الدم الذي يخرج من تجاويفي، ذلك الدم هو العلامة الوحيدة التي يرسلها سرطان الكارسنويد، كنت أبصق الدم واستنشق الموت وأهفو للحظتين معا، الاستنشاق والاستنثار!. في تلك الأيام كتب أخي الأصغر الأستاذ ضياء الدين بلال عمودا صحفيا ضاجا بي وكلفا بمزاياي، عمود فهم القراء منه أنني أصبحت في أجندة الموت الصريحة وضمن أولوياته فأصيب هاتفي في تلك الديار البعيدة بداء الرنين المتواصل دون مراعاة لفروق الوقت. بعض الأعمدة الصحفية مثل (ضل الشق) لا تمتد إلا لداخلها ولا تعني إلا كاتبها، لكن عمود ضياء اجترح معنى أوسع للانتشار من داخل بنيته لخارج معانيه التي ما تزال تمتد. كان سندي وسلاحي الباتر الذي قاومت به خبث السرطان هو صوت الحناجر التي انثالت جداول وتفجرت مثل الينابيع المستورة، كانت الأصوات تأتي من كل كون الله الفسيح، من السودان والخليج بكل دوله وسلطناته واماراته ومن أوربا وأمريكا وأستراليا ومن قارة آسيا، وكلما تناثر الدم جففته مكالمة. كان لكل صوت مقام، صوت القيادات السياسية الحاكمة والمعارضة والتي في طريقها إلى الحوار والمقاطعة للحوار، وصوت القامات الفنية والصحفية والشعرية والروائية، وأصوات الأهل من (خلوة الرزوقه) بتتقاسي الرويس حيث كان أبناء عمومتي يتجمعون في الخلوة لأداء صلاة المغرب ثم الدعاء لي بالشفاء. أكثر الأصوات التي بددت السرطان وبعثرته كان صوت امرأة تجهز (أم فتفت) في مطعمنا بشرق الخرطوم، أوصيت ابن خالتى متوكل بها خيرا، وكللتها بسحائب الرضا حين تم تعيينها في هذه الوظيفة الهيكلية، لم تنس (عشرة اللحم) وسطوته وعقيدته المعقود جوهرها على التراحم. أعترف أنني بكيت حين سمعت صوتها المتقطع النابع من الأسى!!. من جهته لم (يقصر) مصطفى البطل فقد أوصلني لمنزلة السخرية من السرطان فعنا نسخر منه في كل محادثة حتى ارتد السرطان خجولا، ومن المفارقات أننى تلمست شجاعة ماعهدتها في هاشم كرار فقد حلت به (رجالة خريف العمر) التي كنت أول وآخر المستفيدين منها، ومن نيروبي كنت أنتظر صوت فيصل الباقر بصفتيه الشخصية والحزبية وبصفة ثالثة نعرفها سويا، وكان يمسك بي فتحي الضو رغم مسافات المواقف التي تباعد بيننا، غير أن أشجى الأصوات كان صوت بشير معاذ، هو قاضٍ ينمذج معنى القضاء النزيه، هاجر لدولة قطر، ورغم أنه أكثر القضاء خوفا من المرض، لكنه لم يكن جزوعا، كان يهاتفني في منتصف ليل كندا ودائما ما تكون محادثته آخر المهاتفات، كنت أحس بأن أمي تغطيني من البرد والسرطان! احتفيت كثيرا بمحادثة من سيف حمدنا الله فهو قد ظل يهاجمني كثيرا لكن محادثته راحمتني طويلا. أما من مكثا معي في تلك الديار القصية كانا الاستاذ الصحفى الكبير السر سيد أحمد والدكتور الواثق كمير، فحين فتحت عيني بعد العملية وقفنا على وجهيهما الرحيمين داخل مستشفى (سانت جوزيف). كان السر يحمل علبة حلوى فيما كان الواثق برفقة زوجته يحمل باقة زهر. إنها لونية السماحة التي تميزنا بين كل الشعوب كسودانيين فوق العادة. سبحان من يجعل الأصوات لواقح، ومن يخرج من همسها شفاء من المرض.