نعي أمس محمد الواثق، أستاذي و أستاذ الأجيال بكلية الآداب، بجامعة الخرطوم. صقل معرفتي بعلم العروض و أنا طالب على مدرجات الجامعة، و حينما غدوت زميلا له بالكلية، ظللت محتفظا تجاهه بمقام التوقير و الاحترام و الأستاذية.على أن معرفتي بشعره سبقت صلتي بالجامعة بسنوات، كنت حينها في أولى مدارج المرحلة الثانوية، في فترة من فترات العمر و شرخ الصبا و الشباب ،ألتهم فيها الكتب التهاما، و أبات و أمسي و أصبح و أغدو مع عيون الشعر العربي في موارده الأصيلة و منابعه الصافية الرائقة، و أذكر إذ أذكر أن وقعت عيناي وأنا اتصفح مجلة (الخرطوم) التي كانت تصدر آنذاك ،على قصيدة على نهج البسيط تحت عنوان أم درمان تحتضر، ممهورة باسم شاعر لم اسمع به من قبل :محمد الواثق. هالني ما في القصيدة من إيقاع قوي صاخب و من تمرّد تتجاوب معه نزعات الصبا المتبرّمة المتطلعة إلى آفاق أرحب ، كما هالني ما في القصيدة من جزالة في اللفظ، و قوة في العبارة تردّ المرء إلى مناهل العربية الأصيلة، مع اغتراف رائع مدهش من مكونات البيئة السودانية من شخوص و مسميات و مشاهد و ألوان. و تصرّمت الأيام و انتقلت إلى الفاشر الثانوية ، ثم إلى جامعة الخرطوم، و بينا أنا أتجول في ساحاتها و ردهاتها ، في أوائل عهدي بها،وجدتني واقفا ذات يوم أمام مكتب ،تحمل لوحة مثبتة عليه، اسم محمد الواثق، فتقافزت في نفسي و في خاطري شتى المشاعر و الأسئلة : أهو الرجل نفسه صاحب القصيدة؟ و تنعقد الصلة بين الطالب الشاب و الشاعر الثائر على خلفية أحداث ثورة شعبان و اعتقال الشاعر الذي نشر قصيدة رائعة المعاني، بديعة الاستهلال ،في رثاء المناضل الجنوبي الشيوعي جوزيف قرنق، كانت حينها حديث الركبان: إذا فاح من جسمها الصندل يخالطه العود و المندل ومرّت تحيّيك والتفتت كما التفت الشادن الأكحل و كانت إذا بسطت كفها تطيل السلام و لا تعجل كان ذلك في أواسط عقد السبعينيات من القرن الماضي، و كان الواثق رحمه الله في قمّة عطائه الإبداعي في منتدى الأربعاء الأسبوعي الذي كان متنفسا للمبدعين من طلاب الجامعة، على اختلاف مشاربهم ،و في أم درمانياته التي كانت في واقع الأمر شكوى و بكاء و تحسّرا على ما كان يعهده من سعة و رحابة في لندن و باريس، و من كدر و ضيق في أم درمان و الخرطوم! بلغت تلك الأم درمانيات تسع قصائد أو نحو ذلك ، نظمت على بحر شعري واحد هو البسيط، على غرار ما في القصيدة الأولى كما ذكرت آنفا، و لم تخل أيّ منها من التبرّم و الشكوى ، و من الحنين إلى لندن و باريس، مثلما في لاميّته التي يقول فيها: سمعت صوتا دفينا كنت أحذره يقول إذ هدّت الأعناب أوصالي "بدّلت لندنبام درمان تلزمها بدّلت زهر الربا بالسدر و الضال" "وكلّ بيضاء ملء الدرع ناهضة بكلّ عجفاء خدر البيت مكسال" و في داليّته: "متى أمرّ على باريس منطلقا حيث الأنيس و حيث العيشة الرغد قد كنت ألقى بها مونيك يعجبني جمالها الغضّ من لين و من أود وكنت إذ ما دعاني الزهو آونة أمشي العرضنة في أثوابي الجدد كيف السبيل إلى باريس وا لهفي قد صرت أقبع في ام درمان كالوتد كنا نتلقف تلك القصائد و نتبارى في إنشادها و استظهارها، على اختلاف تخصّصاتنا و كان ما قيل من هجاء في أم درمان يجري في ألسنة طلاب الجامعة مجرى الأمثال، و يجدون فيه، و هم في تلك السنّ الغضّة،متنفسا لاحتقانات عاطفية و سياسية ، من نحو: ما كلّ يوسف من تعرى النساء له خذي ثيابك يا ام درمان فاستتري و نحو: هذا الجنين سفاحا قد حملت به و الناس تهمس همسا دون إفصاح كفي مغازلتي، ما كنت صاحبه فقد أتيت به من صلب سفاح لقد رضيت به ، لو كان يشبهني كيف التشابه منا دون إلقاح و أذكر أننا كنا نذهب مذاهب شتى في تفسير تلك الروائع، عالية النفس، جيدة السبك، و تأويلها وفق صروف السياسة في تلك السنوات الموسومة بالنضال ضدّ الحكم العسكري ، في جامعة كان من بين شموسها عبد الله الطيب و ومحمد عبد الحي و محمد الواثق .. ألا رحم الله أستاذنا محمد الواثق ، و سقى مرقده بسحائب رحمته، و جعل مثواه في أعلى عليين ، مع النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين، و ألهم ذويه و أحبائه و طلابه و تلاميذه الصبر و حسن العزاء ،و إنا لله و إنا إليه راجعون. [email protected]