في أجواء مفعمة بالكرنفالية والحشد الجماهيري، انطلقت فعاليات المؤتمر العام الرابع لحزب المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم)، أمس (الخميس) في أرض المعارض ببري في الخرطوم، بحضور ستة آلاف عضو، إضافة إلى المئات من ضيوف المؤتمر داخل السودان وخارجه، إلى جانب رؤساء التحرير والصحافيين، ومديري الأجهزة الإعلامية والإعلاميين، تنادوا جميعاً إلى هذا المؤتمر مثلما يدعو الحجيج الموسمِ. وبالنسبة لي، باعتبار أنني اطلعت على بعض الجوانب المهمة من هذه الفعاليات، ونشرت بعضها في عمودي أمس (الخميس)، ولكن المفاجأة المدوية بالنسبة لحضور فعاليات هذا المؤتمر تمثلت في تقديم الدكتور حسن عبد الله الترابي الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي، كمتحدثٍ ثانٍ عن الأحزاب والقوى السياسية السودانية، وتهللت أسارير الكثير من أبناء الحركة الإسلامية في تلكم القاعة الكبرى، وامتعضت وجوه جماعةِ ما بعد الفتح، ولكن المهم أن حديث الدكتور الترابي كان حديثاً مقتضباً، ليس كما توقع الكثيرون بعد أن تمادى في فقه زكريا عليه السلام في اللوذ بالصمت لأكثر من ثلاثة أيام، بل صار صمته لأسابيع وأشهر، وظننتُ – وليس كلُّ الظنِّ إثماً – أنه سيتحدث عن بعض أشواق الإسلاميين في جمع الكلم، والاعتصام بحبل الله المتين، تصديقاً لقول الله تعالى: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ". وكنتُ حريصاً على متابعة انفعالات الأخ الرئيس عمر البشير أثناء كلمة الدكتور الترابي، فرأيته من على البُعد فَرِحاً جَزِلاً بما سمع، وأحسبه تذكر أياماً خالياتٍ، وكأني به يُردد ما قاله الشاعر العربي مهيار الديلمي: اِذَّكَرُونَا مِثْلُ ذُكْرانَا لَكُمْ رُبَّ ذِكْرَى قَرَّبَتْ مِنْ نَزَحَا وأحسبُ أن هذه المشاركة رغم أنها لم تستغرق سوى بضعِ دقائق إلا أنها تُعدُّ مشاركةً تاريخيةً، إذ أنها أول مشاركة للدكتور الترابي في منبرٍ لمؤتمرٍ عامٍ لحزب المؤتمر الوطني منذ مفاصلة الإسلاميين في ديسمبر 1999. وتساءل الكثيرون داخل قاعة المؤتمر، وقد يتساءل الأكثرون داخل السودان وخارجه، بعد هذه المشاركة عما هل ستعود رمزية ثنائية البشير والترابي مجدداً؟ وفي رأيي الخاص، أن من الموجهات المهمة في خطاب الأخ الرئيس عمر البشير أمس (الخميس) تجديد الدعوة إلى حاملي السلاح من أجل الاستجابة لنداء الوطن، بالمشاركة في الحوار الوطني من أجل تحقيق التوافق والتراضي الوطني. وتأكيد التزامه بالمضي قدماً في الحوار إلى أن يبلغ غاياته، مؤملاً أن تتحقق غايات الحوار ما دامت الأطراف المشاركة تتحلى بالموضوعية، وتُعلي قيمة الوطن فوق المصالح الشخصية والحزبية والجهوية. وأكبر الظنِّ عندي، أن الأخ الرئيس عمر البشير عمد إلى تأكيد استجابته لنداءات عضوية حزبه للموافقة على ترشيحه لدورة قادمة لقيادة الحزب، وذلك من خلال ما أكده من أن الدورة المقبلة للحزب تشهد العديد من التحديات، داعياً إلى شحذ الهمم والعزائم والإرادة في التعاطي مع هذه التحديات، بما يحقق أهداف التجربة السياسية للحزب في تطوير تجربته السياسية نحو آفاق أكثر توافقاً وبناءً للمجتمع في التنمية والازدهار، وتوفر الحرية والعدالة الاجتماعية للمواطنين كافة، وفق منظومة من القيم تحقق الحكم الرشيد. فهكذا تثبَّت الجميع من أنه عَزم َفتوكل على الله بعد أن شاورهم في الأمر، تنزيلاً لقول الله تعالى: ".. وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". أما الدكتور حسن الترابي، فأكد في غير لبسٍ أو غموضٍ في كلمته أمام المؤتمرين أمس (الخميس): "أن الابتلاءات والمكائد التي تُحيط وتتربص بالوطن، شجعت على التحاور والتشاور من أجل التوحد". وأبان لهم ما يردده في مجالسه الخاصة والعامة تحذيراً من انفجار العنف، بدعوى الحرية، فقال: "نريد للحوار أن يتحرر فيه الشعب، ولكن ألا يتفجر عنفاً في الحرية، وأن ينتظم ويأمن ولا يتجبر عليه ناظم. ونريد لعامة الناس وإن أصابتهم وطأةُ بؤسٍ أن يجدوا بشرىً وفرجاً". أخلصُ إلى أن المؤتمر الرابع لحزب المؤتمر الوطني أكد - بلا أدنى ريب - جاهزية هذا الحزب للانتخابات إذا قامت في تاريخها الموعود من أبريل 2015، ما لم تأتِ مُخرجات الحوار الوطني بتوافقٍ وطني يؤجلها أو يلغيها، في إطار التوافق على دستور انتقالي جديد. كما أنه من الضروري الإشارة إلى دقة التنظيم وجميل الترتيب، لعقد مؤتمر جماهيري واسع، لم يخلُ من بعض النقص، لأنه من عمل البشر، والكمال لله وحده، ولكنه أكد حقيقة أن للمؤتمر الوطني رجالاً ونساءً يعملون آناء الليل وأطراف النهار، بهمةٍ عاليةٍ وإخلاصٍ مشهودٍ من أجل حزبهم، مهما حامت حولهم الشبُهات، لم تزدهم إلا تمسكاً بحزبهم ومراجعة الأخطاء والتجاوزات في مسير الحزب، بُغية التقويم والإصلاح. وليت بقية الأحزاب والقوى السياسية غارت غيرةً منشودةً من المؤتمر الوطني من أجل تنظيم مؤتمراتها العامة، قاعدياً ووسطياً وقيادياً. فقد علمنا الإسلام أن نقول لمن أحسن أحسنت، ولتتنافس الأحزاب جميعاً من أجل قواعدها، ومن ثمَّ من أجل العباد والبلاد، تنافساً وتسابقاً في خدمة مواطنيهم، تنزيلاً لقول الله تعالى: " خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ". ولنستذكر في هذا الصدد، قول الله تعالى: "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ". وقول الشاعر العربي، عمرو بن الاهتم الشعبي: لَعَمْرُكِ ما ضاقَتْ بلادٌ بأَهْلِها ولكنَّ أَخْلاقَ الرِّجال تَضِيقُ