بعد رحلة شاقة "بورتسودان.. الدوحة ثم الرباط ونهاية بالخميسات"..بعثة منتخب الشباب تحط رحالها في منتجع ضاية الرومي بالخميسات    على هامش مشاركته في عمومية الفيفا ببانكوك..وفد الاتحاد السوداني ينخرط في اجتماعات متواصلة مع مكاتب الفيفا    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    بعد حضور والده من المملكة.. جثمان التيك توكر السوداني جوان الخطيب يوارى الثرى بمقابر أكتوبر بالقاهرة ونجوم السوشيال ميديا يناشدون الجميع بحضور مراسم الدفن لمساندة والده    شاهد بالفيديو.. الفنانة رؤى محمد نعيم تعلن فسخ خطوبتها من شيخ الطريقة (ما عندي خطيب ولا مرتبطة بي أي زول)    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    تنويه هام من السفارة السودانية في القاهرة اليوم للمقيمين بمصر    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صور برلينية .. بقلم: د. أمير حمد_برلين _المانيا
نشر في سودانيل يوم 07 - 11 - 2014

يحتفظ السائح أو المقيم في برلين أو في أي مدينة ألمانية أخرى يعيش فيها ببعض صور ومشاهد عديدة خاطفة تحفر في ذاكراته وتربطه على نحو ما بعالم خاص، ليس بالضرورة صورة مطابقة لألمانيا. حاولت أثناء مروري في طريق برلين أن أعبر وأعكس صورا من عالم حقيقي وآخر متخيل مستفيدا في أغلب المحاور من الواقع البرليني.
عندما حولت العاصمة الألمانية من (بون) إلى (برلين) احتجت بعض دور الإعلام الألمانية لتمسكها بتاريخ مدينة (بون) معقل الحزب الليبرالي، فيما أثنت معظم الصحافة والإعلام الألماني على هذا التحول التاريخي؛ فبرلين في الأصل عاصمة تاريخية في الحقب الألمانية السابقة، ومثلت تحديا جبارا لتجاوز الدمار والنازية إلى عالم منفتح على حضارات متعددة. هنا في هذا النص _طريق برليني، أعكس خواطري لصور لمستها، تكررت دوما في أصقاع برلين لاسيما ذلك الطريق البرليني. (المذكور في النص).
Xxxxxxxxxxxx
طريق برليني
رغم برودة الطقس في هذا المساء إلا أنني أحس بدفئ وحنو يسري في أوصالي . الطريق طويل , طويل جداً أمامي ومتعرج بتقاطعات عديدة . المارة الألمان يسرعون في اتجاهات متفاوتة كأنهم في سباق مع أشباح .
سامشي الى اخره . ...انا وهو متنافسان هذا المساء !! سرت عكس قوانين السير .الإشارة حمراء و السكون مخيم وما من سيارة أو دراجة بخارية تنفلت كقذيفة طي هذا السكون المطبق.اجتزت الطريق وأنا أنظر بسخرية إلى الإشارة الحمراء وهي تحدق في بدورها باحمرار غاضب.
- أيها السيد حذاري !!!.
هتفت خلفي سيدة ألمانية هرمة متكأة إلى عصاة . من أين أتت هذه الألمانية !!.الا تنام !! ولماذا تقف هامدة هكذا في انتظار إشارة المرور الخضراء لتجتاز الطريق ؟ لم أجبها تابعتها بنظراتي وهي تجتاز الطريق المسائي الشاغر حتى من نباح كلب أو كلمة واحدة للمارة أو سكان العمارات على حافتي الطريق . أجنبي أنا لا أعير النظام اهتماماً ربما لأني شاعر كما قال توماس الألماني المسئول . لم يكن يجتاز الطرقات إلا عندما تضيء إشارة المرور الحمراء فيلعنه السائقون ويشتمونه بأبشع الألفاظ ويتابعونه بضوضاء أبواق سياراتهم.
توماس يغني دائماً:
وحيداً في الليل
أجتاز الطرقات تحت المطر
مالي أنا وتوماس ! الطريق طويل والطقس بارد إلا أنني أحس بدفئ بعد يدب في أوصالي . كم مرة جبت هذا الطريق مثقلا بتذكارات ومجابهة وحوارات مع ذاتي !! لكن لماذا وقفت هذه الألمانية في انتظار إشارة المرور الخضراء ؟ ما من سيارة أودورة شرطة تراقب حركة السير ؟ كأن من الممكن أن أسالها إلا أنني أعرف الإجابة مسبقاً .
إشارة حمراء تعني التوقف !!!
ربما خفت أن تواصل الحديث . ستسألني دون شك من أي دولة أنت ؟ سأظل غريباً في ألمانيا شئت أم لم أشأ. ما من فائدة أن ذكرت لها بأني أعيش هنا زهاء ربع قرن ستنذهل وتستغرب أكثر .
لماذا إذا تخالف قوانين السير وانت مواطن الماني ؟ .
لن أصمت أنا . الألمان يخالفون اللوائح الألمانية كذلك . ولكن هؤلاء ألمان وهذه دولتهم لماذا تقيس نفسك بهم ؟ من قال هذا ؟ لا يهم . الطريق طويل أمامي لا أسمع سوى وقع اقدامي الرتيب وأنفاسي المتلاحقة . أعرف أكثر من ثلاثة ألمان كانوا يسابقون أنفاسهم لاجتياز الجدار البرليني الفاصل بين المدينتين. أحدهم هو «شرودر» الذي توفي قبل عامين كان يجوب معي هذا الطريق في الليل يتحدث دون انقطاع عن تلك الليلة التي اجتاز فيها المنطقة المحظورة , الفاصلة بين برلين الشرقية والغربية .( نباح الكلاب البوليسية , الليل , ضوء المصابيح اليدوية , وضحكات العسكر وهم يجوبون الطريق الفاصل). ظل شرودر يضخم ويطيل في كل مشهد في تلك الليلة حتى صار من أبطال هذه المدينة.
- ما رأيك لو كتبت قصة عن مغامرتك يا سيد شرودر.
- هذا غير ممكن ! ماذا سأكتب غير أني ركضت كالكلب المسعور في ليل دامس تناهبته قوات مراقبة الحدود .
- ليس الأمر هكذا كما تظن هناك كتاب مختصون بصياغة السير الذاتية والمغامرات التاريخية كحادثتك يا سيد شرودر.
كان يبتسم باعتزاز ويهز رأسه فخوراً حين يسمع مغامرة تاريخية . لم يعد أحد يذكر شرودر في هذا الحي البرليني أثر أن كان المارة يستوقفونه في الطريق ليحدثهم أو يوقع لهم اسمه. انفاسي المتسارعة تلاحق خطوي تباعاً في هذا الطريق. لم أعد أعرفه وقد كان من قبل مكتظاً بالمقاهي التي تحمل اسماء الأدباء والفلاسفة الألمان وبعض المراقص التي يرتادها السود الأمريكان وإلجامايكيون وكذلك الأفارقة . مقهى وحيد منفرد عند التقاطع حيث نزل معتم للمومسات..
ضباب
ضباب
وضوء ضئيل بباب
يدلف رجل
يخرج آخر
آه
تعم الفضاء
لمومس تنادي
تبث الحب
آهات ودمع اكتئاب
«أيا هذا العذاب
متى خلاصي؟
متى أختم
قصة هذا الكتاب!»
يقولون عنها الكثير
حين يسري الصمت في يم الظلام
«امرأة تحترف الغرام
شبق
في دمها الوحشي
حرب
على الفضيلة والوئام «
أمرأة
تناجي قطها
دميتها الحرير
يقولون عني الكثير»
كم نافقوا
خانوا عهود نسائهم
سبقوا
خطاهم لهفة
لأمسية معي
كم
هرَّبوا أحلامهم
تلك المحظورة الحمراء
كطفل مفرد
بكوا على صدري
وأنا
تلك المنبوذة الشقراء
أشتات فتاة
مَن يسعف دمعتي !
من
يصغي الى مر احتراقي
من
سوى هذا المواء
وطيفي الساهر المفرد
على المرآة!»
ضباب كثيف يكلل سماء برلين هذا المساء . أين أقراص النجوم القمر اللؤلؤة. وسمار الصيف في منحنى الطرقات؟ أين ليل الصحراء ,اقراص النجوم والقمر وفيه سماء خالصة الزرقة في السودان ؟ صمت مخيم حولي . خطواتي توقع لحناً رتيباً مكرراً كأسطوانة مشروخة هل كان من الممكن أن يحدث شيء آخر في هذا الطريق قبل سقوط الجدار او بعده ؟ لا أدري .
الألمان والأجانب معاً أصبحوا أكثر جموداً أو ربما ازدت أنا شفافية وجنوناً؟
لماذا هذه الهجرة ...الغوص في اعماق الذات دوماً؟ لن تجد شيء سوى الفراغ يا صديقي››
هكذا قال لي إيرلندي زميل لي معجب بصامويل بيكت.
مالي أنا وكل هذه لهواجس المزمنة زنوبات و اوهام وحدي وعزلة الطريق الأفعوان. من يأنس من ؟ كفاي مكورتان طي «جيوب» معطفي ونظراتي (قدم الخطوات) مبعثرتان بين أشباح ماره تترآى وتختفي سراعاً. لافتة زرقاء بإضاءة خابية لمقهى كنت ارتاده من قبل جذبتني اليها فاقتربت منها وضغطت أنفي على زجاج واجهته الصقيل مثل ( أوشوا) الطفل المعوق لتلك السيدة الروسية التي التقيتها هنا في هذا المققهى المفرد عند تقاطع الطريق.
كظل، كفراشة تمايست النادلة بين رواد المقهى ووقفت وهلة قبالة زبونين لتلبي طلب ما ,اومأت برأسها وهي تدون في قصاصة ملصقة على دفتر بني . نظرت الي واشارت مبتسمة بان ادخل. كمشهد سينمائي دارت تلك الامسية في مخيلتي... الشمعة التي تتوسط الطاولة, همهمة الرواد, صرير باب المقهى وموسيقي البلوز المناسبة في انسجام مع اضواء المقهى الخافتة وهمهمة بائع الورود الهندي المطوف بين رواد المقهى العشاق.
آه لقد انتهى عهد الرومانسية ولم يعد سوى قشور ومكياج مزيف. هكذا بغتة همست لذاتي وانا اجالس السيدة الروسية في المقهى عينه , في مساء ربيعي , صافية سماؤه حتى كدت أن أعد النجوم... أشد اذيالها لتشاركنا الانخاب .
- ماذا تود إيها السيد؟ سالتني النادلة وهي تسجل الطلبات على دفتر من الورق المقوى.
- قهوة خالصة ؟ تعرفت على السيدة الروسية الحسناء دونما سبق ارهاص او تكلف .
لم يمض وقت طويل حتى قدمت لي ,بابتسامة جذابة, اشوا ابنها المعوق. حدثتني عنه طويلا لا أدري كيف تذوقت القهوة في ذلك المساء والحزن يعصر قلبي وهي تفض لي بعض اسرارها.
اتدري باننا - في روسيا نخبئ الأبناء المعوقين . تلزمنا الدولة بالتخلي عنهم ووضعهم تحت كفالتها في دور المعوقين . كثيراً ما تطالب الامهات بإجهاضهم ان اثبت الفحص الطبي تعوق الطفل المتوقع ؟.
قلت لها وأنا أحاول الاتزان :
- ولكن .... لكن ثمة حلول دون شك . قد قررت ولادته. كم عظيم إصرارك هذا . اشوا صبي . لطيف كما يبدو, لا أعتقد وجود ما يعتري نموه الفطري ؟.
- هكذا تقول ، تتمنى !!
ضحكت بمرارة ونظرت إلى كأسها وقطع الثلج تطفو فوقه سايحة كأحلام بيضاء على ممض .
- كم حاولوا إقناعي بتسليمه إلى دور حضانة المعوقين. حتى اسرتي واصدقاي ينسحبون حينما اكون معه. اعتبروا حياتي هباءا دون جدوى لأني ارافق مخلوق مشوه !!
- ماذا يحب أوشوا؟
- ماذا تعني ؟
- هل له هواية ما مثلاً أو عن ماذا يحب التحدث؟
لست باحثاً اجتماعياً أو منقذاً للبشرية . أنا مخلوق مستضعف كذلك في المغترب الاوربي !!أ هكذا فضيت إلى ذاتي فيما بدأت هي بالتحدث بجمل مرتبكة متقاطعة .
- لا أدري تماماً. هو مزاجي جداً. أتفهم ذلك , ولكنه يتميز بحاسة مميزة
- ماذا تعنين ؟
- إنه يشخص الناس جيداً ؟ يعرف من هو بنوايا خيرة أو متصنع باللطف تجاهه لأجل التقرب إلي !
نظرت إليها مجدداً (سيدة في نهاية العقد الثالث دون شك حلوة الملامح بلون برونزي على النقيض من ذويها الروس ناصعي البياض).
كان المساء حولنا رائعاً ومأسوياً معاً ....ظل أوشوا وحيداً يضغط بأنفه على كوب الحليب امامه وينقر بأصايعه الصغيرة على الطاولة وينظر بتردد وحياء إلى رواد المقهى . شرب الحليب ومنحته أمه ورقة بيضاء وقلم ليرسم . لم ألاحظ ما رسمه. قالت لي أنه يشخص الناس في رسومات. ضحكت وقلت لها إنه شاعر دون شك.
- من يدري «أوشوا» يستيقظ في الليل ويشرع النافذة حينما يسطع القمر أو تتراءى بعض النجمات بين الغيوم.
حدثتني عن ابنها وحدثتها عن غربتي وعن وطني. استوقفتني معجبة عندما كلمتها عن المتصوفة وحلقات الذكر. سألتني :
- ولكن هل يمكن « أوشوا» أن يشارك في مثل هذه الحلقات
- نعم . وربما توحوهوا زعيماً على الذاكرين .
تذكرت .... تذكرت بعض دراويش لا يختلفوا كثيراً عن «أوشوا « كانوا يعقدون حلقات الذكر ويتمتعون بحب الناس ويأخذ بقولهم «المقلوب» كفلسفة عصية لا يستطاع فك طلاسمها إلا بالتأمل والرؤى. ودعتها كما أودع كل مرة محاولا سدى الا التفت إلى الوراء . ...اه كم يؤلمني الوداع . مد الي « أوشوا» بالقصاصة التي كان يرسم عليها .
- نظرت إليها دائرة بيضاء تحيطها تخطيطات سوداء مترادفة تشكل دهليزا مفتوحة!!
ولكن ما هذه الدائرة البيضاء وسط كل هذا السواد يا أوشوا؟ سألته . لم يجب ، ضغط أنفه على كوب الحليب ونظر إلى أمه . لم ترد هي كذلك .
الطريق طويل أمامي و ساهر ابدا !!!. احس كما لو كان اقصر... انحسر كظل . كل خطوة تسوقفني طيه «معلم « في تلفافيه وانبساطه .
طرقات متفرعة ومباني شاهقة في الأعالي كجني انفلت من ربقة. أحس بدفء بعد يسري في أوصالي , قدماي هما عيناي اتبعهما دون تردد. كم مشطت هذا الطريق ذهاباً واياباً. ماذا منحني؟ أسمعه يرد : منحتك روعة النزهة. استحال السكون حولي الى حزن شفيف عندما شارفت نصب تذكاري تحفه عقود ورود يانعة بعد .
«نصب عائشة التركية. ضحية قتل وحشي» لا أعرف عنها الكثير سوى ما رواه المارة هنا في ذات صباح أحد وأنا أتصفح جريدة الصباح البرلينية. سمعتهم يلهون بذكرها قبالي على مقعد خشبي عتيق في المنتزه العام : ألماني أشيب وامرأتان لا شك أن إحديهما زوجته والأخرى ابنته لجلوسهما متلاصقين ومسح المرأة جواره لشعره. لا أدري ربما هما أقرباء فقط في هذه البلاد التي تشح فيها ابتسامة وادعة ولاتعرف الربت على الكاهل والترهات البريئة سمعتهم يتحدثون وأنا أتظاهر بقراءة الصحيفة :
- أحرقها والدها ؟
- لا لا أخوها ... ولكن لماذا كل هذه الوحشية ؟
- قتلها... بأكثر من طعنة . قال بأنها عار على العائلة... لطخت سمعتها بما مارسته.
- يبدو أنها كانت على علاقة بشاب ألماني. هكذا الأتراك لا يقبلون حرية المرأة. أعرف أكثر من تركي يمارس الجنس مع الألمانيات ؟ لماذا لا يقبلون بحرية المرأة إذاً قررت فعل ما تود؟ .
- لا أدري. يبدو أن ذهنية الرجل الشرقي المتصلت لم تزل راسخة فيهم . أين يعيشون؟ وفي أي عصر!!
- لم يندمجوا بعد في مجتمعنا الألماني ! هل أتيت بفتات الخبز لنطعم البط في البحيرة !
نظرت الشابة إلى حقيبتها وأخرجت كيس ورقي ورفعت نظراتها فرأتني انظر اليهم . وقفت متأبطة ذراع السيدة والسيد جوارها ثم ساروا في اتجاه البحيرة .ها انا قبالة النصب التذكاري الناصع البياض وقد تركزت عليه أضواء قادمة من بعيد فاتضحت عليه تخطيطات سوداء وأخرى ملونة متداخلة لم أستطع قراءتها سوى سطر منها بخط أسود كثيف «إلى الجحيم أيتها العاهرة›› والى جواره كتب بخط مهتز(نامي غريرة العين ايتها الثائرة الرائدة )كما تراءت لناظري خربشات ونقوش وقلبين متداخلين .
هذا عالم فوضوي يديره الجشع واللاجدوى .
زحمت مسمعي هذه العبارة ليوناني زمهري القامة يعمل في دار للطباعة جواري. جاء يعمل هرباً من العطالة في بلاده. شق سكون الطريق قرع أجراس كنيسة متواتر. عددت الضربات... أثني عشر تماماً, لم أكن أدرك حينما قدمت الى العرب الضبابي قبل سوات عديدة هدف ضربات الأجراس المرتبط بإعلان الوقت إلا فيما بعد .عندما زارني ألماني ذات مرة لأوقع مع سكان الحي في قائمة اعتراض على ضجيج الأجراس كل ساعة لإعلان الوقت او القدوم للقداس لاسيما يوم الأحد وفي الأعياد المسيحية : قال وهو يهز رأسه
- لا يمكن السكوت على هذه الضوضاء.
أعرف أنه ألماني شيوعي يقف ضد بناء الكنائس ويمقت الدفاع عن الأديان. قلت له بان العالم تغير ولم يعد كارلس ماركس ألا متحفاً أثرياً. قلت له ذلك وليتني لم أتفوه به فقد أبحر لأكثر من ساعة في التحدث عن كارلس ماركس - نبي العصر- كما كان يسميه وسيادة الرأسمالية وتحول الكنيسة إلى أداة مسخرة للسياسة.
الطريق طويييييييل يهدهده قرع أجراس كنيسة تترنح كضروع بقرة حلوب .
في ليل كهذا لا يمنح سوى الصمت والغور في الذات السليبة أحس, أحس بالعزلة وقرع عنيف على باب ذاكرتي الموصدة . من ترى القادم من قصي.من ؟ الطريق طويل يكاد ينتهي فيبدا من جديد .مفرد هنا تشدني قدم الخطوات ولكن الى اين في هذا المساء !! الطريق طويييييييييل ياخذ مني ليمنحني مجددا. خطوة أثر خطوة سرت قدماً فانتهيت عند «الينبوع»... نافورة المياه الصافية المتدفقة من رأسه الأسد. ما أروعه في الربيع وما اجمل الغشاق ماثلين أمامه كنساك في معبد.
من كان يتوقع أن تشيد هذه النافورة؟ ما من ساكن الماني اواجنبي على امتداد هذا الطريق!! انتعشت الساحة بهذه النافورة الأنيقة، عروسة الموكب بؤرة حقل الزهور حولها. كلهم حضور هنا ( العازفون والبهلوانات والرسامون والعشاق ... آه العشاق فرادى وأزواج ينخلون الحب رسومات على جذوع الأشجار ومقاعد الحديقة العتيقة) ..برغمان ). هو النحات الرسام مشيد النافورة. سكن فترة جواري وانتقل إلى حي آخر حيث قضى نحبه قبل ان يشهد افتتاح الساحة وتدفق الماء من راس النافورة الاسد . كم تمنى رؤية نافورته وسط الساحة . كنت أصغي للموسيقى الكلاسيكية والبلوز المناسبة من اسطواناته العتيقة. سألني :
هل تزعجك الموسيقى التي أستمع إليها ؟ هل أقلق راحتك ؟
- لا يا سيد برغمان.
وددت أن أقول له بأني أنام غرير العين لسماعها , ألا إنني أثرت الصمت. كانت شقته متحفا أثريا. في كل زاوية لوحة وشابلونة ألوان ولوحات وأوراق سميكة وأزميل ومطرقة. لا أدري كم من تمثال داخلها وكم من حسناء قدمت إليه ليرسمها أو ينحت لها تمثالا مكور النهذين كهذا التمثال المشفق على نفسه من حمل نهذين ممتلئين بسخاء. لابد ان اسيد بيرغمان نسي كفيه فوقهما !!
- اتحب نحت تماثيل نصفية فقط !!
- إلى أدنى النهدية فقط.
ضحك وواصل قائلا : إلى هنا فقط إلى هنا. وعقد كفيه فوق نصفه الأسفل. أقمنا له تأبيناً حول النافورة التي كان يحلم بأن تجد مكانها في هذه الحديقة التي أحبها كفنه . كانت أعز عليه من أسرته وأصدقائه .
لم تبك ابنته على وفاته. صامتة وقفت يميني في مراسم التشيع وقالت للقس المشيع.
كان أبي على الورق وظل أباً روحياً لفنه .لم يحفل بنا ولم نحفل به. لم أعثر على صورة فوتوغرافية اوتذكار واحد لنا وسط صوره ورسومه المترادفة حتى سقف الغرفة .
أنا الآن وحدي أمام باب غرفتي أتردد من فتح بابها ولا أستطيع بعد التجوال . قدماي أضربتا عن المشي ولم أعد أحس بدفئ بعد يسري في أوصالي المرهقة فقط تعب كألم ممض. نظرت من أعلى الدرج إلى الطريق الليلي الطويل مرة أخيرة فرأيت الاشارة حمراء ورجل مشدود القوام يقف قبالتها في انتظار الاشارة الخضراء. كقذيفة شق الليل المطبق صوت توماس المتسول وهو يجلس متدثرا بمعطف في زاوية مهملة عند منعطف الطريق ككلب منبوذ
- اللعنة على النظام واللوائح. اللعنة
وحيداً في الليل , أجتاز الطرقات تحت المطر.
مهداة هذه القصة الى (لي أكسنق) الكهل الصيني الحكيم الشفيق الذي التقيته في الحي الصيني بلندن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.