فُجعت مثل كثيرين غيري بنبأ وفاة الأستاذ محمود عثمان صالح. ذلك الرجل الفريد، الذي يفتقده كل محبيه وعارفي فضله. إذ أنه صنفٌ من الرجال فريد، وكما قال لي صديقي وزميلي السفير طارق أبوصالح، إنك ما أن تلتقيه إلا وتشعر بأنك تعرفه منذ أمدٍ بعيد. وهذه لعمري، لمن صفات الصالحين. فالرجل تغمده الله بواسع رحمته وكريم مغفرته كان موطأ الأكناف، ما أن تجلس إليه إلا ويأثرك بثقافته الرفيعة وتواضعه وأدبه الجم. وقد جرت العادة، أنه قلما تجد رجل أعمال، ناجحٌ في أعمله، مهمومٌ بنشر العلم والثقافة. ولكن كان محموداً فريد عصره ونسيج وحده في ذلك. فقد كان ثرياً واسع الثقافة. ليس هذا وحسب، بل قام بإنشاء ورعاية مركز عبد الكريم ميرغني، الذي أضحى بجهده أحد أشهر مراكز النشر الثقافي المتميزة في البلاد. فالشكر للأستاذة الدكتورة فدوى عبد الرحمن علي طه، التي أحسنت وأجادت بمقالها الشامل عن الفقيد الكبير. وأما عن قصتي معه، فتعود إلى أيام عملي بسفارتنا في القاهرة، وكنت وقتها مشرفاً على القسم القنصلي، وكان ذلك في النصف الثاني من العشرية الماضية، حيث أبلغتني إحدى الموظفات في القسم، أن شخصاً إسمه محمود عثمان صالح يرجو مقابلتي!! وبطبيعة العمل القنصلي في القاهرة، يلتقي المرء يومياً بعشرات السودانيين، وجلهم يأتي لإنجاز مصلحة أو سعياً لحل مشكلة. لذا كنت أتندر مع زملائي بأن مكتب القنصل في سفارتنا بالقاهرة، أشبه بالعيادة الخارجية في المستشفيات الكبيرة، التي تعرف إختصاراً بال OPD !! .. فالقنصل هو الذي يعقد القران، كما أنه يحرر قسيمة الطلاق؛ وهو الذي يصدر شهادة الميلاد، كما يصدر شهادة الوفاة، ويشرف مع حانوتي السفارة على إجراءات دفن أو ترحيل جثامين الموتى إلى السودان؛ وعليه أن يتواصل إجتماعياً مع الجالية الكبيرة هناك، متفقداً لأحوالها ومعيناً لها في حل مشاكلها مع الجهات المعنية في الدولة؛ وفي كل ذلك يحتاج لأن تكون في يده دوماً موارد مالية للقيام بهذه الخدمات المتعددة. وهنا مكمن المعانة النفسية، حينما يقف ببابك من يحتاج لعونك، ويحول شح الموارد دون تقديم يد العون. إستقبلت الرجل، ومن هيئته ظننت أنه يود أو يوثق بعض المستندات التجارية. إذ لفت إنتباهي بأناقته في غيرما تكلف، وحديثه المهذب. ولكن ماحدث لم يكن يخطر ببالي، إذ قال لي أنه يود أن يترك لديّ مبلغاً من المال، وأنه يفوضني لأنفقه على من يستحق، وطلب مني أن يكون الأمر سراً بيننا .. حينها إمتلأت نفسي بالإمتنان والإجلال والإكبار لهذا الرجل الفريد، الذي أسأل أن يتقبل منه ذلك، وأن يرحمه بحق كل من وصلهم ماله. لم يكن محمود منفقاً وحسب، بل كان دالاً على الخير، إذ أتاني أكثر من مرة وبرفقته بعض أصدقائه من رجال الأعمال السودانيين، ليقدموا ماتيسر لهم من مال، خدمةٍ للمعثرين من أبناء وطنهم في مصر. وكان هناك بعضاً من رجال الأعمال السودانيين الذين يداومون على الإنفاق عبر القنصلية، ودوماً مايشترطون عليّ التكتّم في الأمر، وكانت مساهماتهم تصلني عبر رسلهم. وأذكر منهم الراحل الأستاذ خضر الشريف، عليه رحمة الله، وكانت له أيضاً مكتبة كبيرة وصلاتٌ واسعة بالنخبة في مصر. أما محمود فقد كان مختلفاً عنهم جميعاً. ولعلمي بمدى إنشغاله، إذ كان دائم الترحال. فكنت أُحرج بتجشُّمه مشقة الحضور لمكتبي، فقلت له مرة: بالرغم من أنني أسعد بزيارتك لي في السفارة، إلا أنني يمكن أن أرسل لك من يقوم بالمهمة دون حضورك. فأجابني بلطفه المعهود "يعني ماعايزني أجيك ولاشنو" ؟! فقد كان حريصاً على أن يقوم بذلك بنفسه .. لله درك يامحمود، وأني لأشهد إنك بتواضعك، قد سموّت في نظر كل من عرفك. وبذا توثقت صلتي بمحمود، وكنت عندما أزوره أحياناً في شقته الفخيمة بمصر الجديدة، أجده حريصاً على خدمة ضيوفه بنفسه، وفي كل زياراتي له ماكنت أخرج إلا وفي يدي بعضاً من آخر إصدارات المركز. سعدت كثيراً عندما علمت أن "جدي" الراحل الأستاذ عبد الرازق عبدالغفار، يعكف على تأليف كتابٍ عن تجربته، إذ إنه كان أحد الرواد في وضع مناهج تدريس الفنون الجميلة في السودان، وأحد الذين أرسوا قواعد كلية الفنون الجميلة، التابعة لجامعة السودان حالياً. وعندما أخبرت الأستاذ محمود عن مشروع الكتاب، ذكر لي أنه يعرف الأستاذ عبد الرازق كأحد المخضرمين في مجاله، وأنه سيسعد بطباعة ونشر الكتاب، الذي أصبح مرجعاً هاماً للدارسين وكل المهتمين بأمر الفنون الجميلة في السودان. وبالفعل صدر الكتاب في ثوبٍ قشيب، ضمن إصدارات المركز، بعنوان: "فلسفة التربية الجمالية: نشأة الفنون الجميلة، بخت الرضا والمسترج.ب. جرينلو". قد يذكر بعضنا أن جائزة الدولة للآداب في مصر قد نالها مرة الأستاذ الراحل الطيب صالح. فرأيت أن أحتفي به قبل أن يغادر مصر التي كان يتردد عليها من وقتٍ لآخر .. قبل الأستاذ الطيب دعوتي. فقد كان بحق إسماً على مسمى. وإستحسن رأيي، أن يشاركنا الغداء صديقيه الحميمين، محمود عثمان صالح والسر أحمد قدور. ولكنه إشترط علىّ أن أرجعه إلى حي المهندسين، حيث كان يقيم، قبل الخامسة مساءاً لإرتباطٍ آخر في مساء ذات اليوم، فوعدته بذلك. إصطحبت الأستاذ الطيب في سيارتي إلى منزلي في المقطم، وكان معي صديقي الأستاذ جمال الخبير. وجمالٌ هذا، رجلٌ لايسع المجال للحديث عنه. ولكن وبإختصارٍ شديد، ما أن تجلس إليه إلا ويبهرك بل ويأثرك تماماً بعلمه الغزير وثقافته الموسوعية المدهشة. وكانت دعوة مختصرة، حضرها المستشار الثقافي بالسفارة حينذاك، الأستاذ أحمد عبد الرازق، وصديقي وزميل زوجتي بجامعة الدول العربية، التونسي، الأستاذ عبد الوهاب الرايسي، الذي كان ثورياً قبل أن تبزغ شمس الثورة في بلاده .. وقبل أن نجلس للغداء بقليل، إذا بمحمود يتصل معتذراً عن المجيء لإصابته بنزلة حادة. فتأسفت لذلك، إذ كنت أتطلع للقاءه مع الأستاذ الطيب، شغفاً لسماع حديثٍ، يندر أن يحظى المرء بمثله في القاهرة. وبعد الغداء كانت لنا جلسة لاتنسى، كان الجميع فيها تلاميذاً في حضرة الإستاذ جمال، الذي إستفاض في الحديث عن التاريخ الإسلامي، ثم دلف بسلاسته المدهشة، سابراً لأغوار القران الكريم، شارحاً لبعض آياته، حتى يخال المرء أنه يسمعها لأول مرة !! الجميع كانوا آذاناً تصغى لحديث الأستاذ جمال. مر الزمن وتجاوز الخامسة. ورأيت أن "أطنّش" من تزكير الأستاذ الطيب بموعده، إذ كان الحديث شيقاً والجميع مستغْرَقون في الإستماع بكل حواسهم. وقُبيل السادسة رنّ هاتفه، فتوقف الأستاذ جمال عن الحديث، فإعتذر الأستاذ الطيب لمحدثه عن الحضور لإرتباطٍ طارئ !! كانت سعادتي غامرة ببقائه، وبالفعل كان إرتباطاً طارئاً .. فإسترسل جمال مستفيضاً في الحديث شارحاً لبعض الآيات، وكان أستاذ الطيب يستوقفه مستفسراً عن معنى كلمة وكثيراً ما كان يعلق بصوته الرخيم الآثر "عجيييب" !! .. وفجأة قاطعه، موجهاً حديثه "لعم" السر، قائلاً له: " يالسر، راسانا سخّن، ماتغني لينا غنية" .. فرد الأستاذ السر بتلقائيته المرحة: "أغني ليك ياتو سورة ياخوي" ؟! .. وقهقه بضحكته المحببة، فأنفجر الجميع ضاحكين. فقد كنا بحاجة للتنفيث، إذ كان الحديث شديد الوقع على أنفسنا جميعاً. أمتدت دعوة الغداء وإنفض سامرنا عند العاشرة مساءاً، بعد أن إستمتع الجميع بحديثٍ نادر عن القرآن الكريم، مليءٌ بالإمتاع والدهشة، ولم يتسنى لنا الإستمتاع بصوت عمنا السر الشجي، متعه الله بالعافية ومدّ في أيامه. فحكيت للأستاذ محمود في اليوم الثاني طرفة عم السر، فقهقه ضاحكاً بصوته الذي لا أكذب إن قلت أنني أسمعه الآن .. ووعدني بتلبية الدعوة في أقرب سانحة. وكانت السانحة في الخرطوم في 2009، حيث تشرفنا باللقاء في نادي الدبلوماسي، وكان معنا الأستاذ جمال الخبير وعدد محدود من الأصدقاء. وكان حديث الأستاذ جمال تطوافاً مختصراً في تخوم بعض آيات القرآن الكريم. وقبل أن يغادرنا محمود، قال لي معلقاً: "كلام صاحبك جمال دا عايز ليهو مجلدات"، ولاشك عندي أنه كذلك. وبعدها تهاتفنا أكثر من مرة، وقدمت له الدعوة لزيارتي في دار السلام، فذكر لي أنه يرجو أن ألتقيه في القاهرة، التي لم أسعد بلقائه فيها بعدها، على الرغم من أنه كان كثير التردد عليها، ولكن في زياراتٍ عجلى .. إلى أن جاءنا الناعي بنبأ إنتقاله إلى رحمة الله. وعلى الرغم من أنني لم ألتقي بالأستاذ محمود إلا في مراتٍ قلائل، ولم يتيسر لي التعرف عليه عن كسب، للإلمام بجوانبٍ أخرى من شخصيته الفريدة. ولكن القليل الذي عرفته منه وعنه، أكد لي أنه رجلٌ من معدنٍ نادر، قلما يحظ المرد بمقابلة مثله في زماننا هذا .. فهو من صفوة الصفوة، المرء منها كالجوهرة، متعددة الجوانب. كل جانبٍ منها يؤثرك بريقه وجماله الأخّاذ. أمس وأنا في طريقي لمقر عملي صباحاً، نظرت إلى السفن الراسيات، في إنتظار دورهن لتفريغ حمولتهن في ميناء دارالسلام. فرأيت محموداً في مخيلتي، كسفينةٍ كبرى تمخر عباب البحار، محمّلة بالخيرات، لتفرغ منها ماتيسر في مرافئ العالم .. فقد كان محمود جوالاً بينٍ العواصم الكبرى، كرجل أعمالٍ ناجح، ولكنه كان خادماً مخلصاً للعلم والثقافة في أكثر من بلد، وراعياً كريماً لمركز عبدالكريم ميرغني. وكان أينما حلَّ منفقاً خيّراً في غير منٍ. متواضعاً أنيساً لكل من يجالسه .. أللهم أرحم محموداً وأكرم مثواه، وأفرغ الصبر الجميل على أهله وذويه وأصدقائه وعارفي فضله .. إنا لله وإنا إليه راجعون.