أصبح العام الميلادي 2014 في ذمة التاريخ ، لكن تظل تبعات حصاده المر تطاردنا في ما تبقى من وطن. ولأننا نفتح صدورنا لنسمات عام جديد ، يتطلع فيه كل سكان المعمورة إلى حياة أكثر رخاء وسلاماً ، وحيث شهدت بلادنا ربع قرن من الدمار دون توقف على يد نظام فاشي أرعن، وحيث كانت نتيجة تلك الحروب فصل ثلت البلاد لتصبح بلداً آخر يعلن الحرب على نفسه منذ عامين، وحيث أنّ الحروب التي يشنها النظام على شعبنا ، ومصادرة الحقوق المدنية والحريات – حيث أن كل ما ذكرت ينذر بانفجار هائل في بلادنا – ربما يتجاوز الثورة الشعبية إلى فوضى تضرب أطنابها في كل شبر من بلادنا ، فإنّ البحث عن مخرج لشعبنا وما تبقى من وطن يصبح الهم الأكبر. لست بصدد وضع الحلول لما يمكن أن نكون عليه في عامنا الجديد - ولا ينبغي لي. أريد في هذا المقال أن أشير بأصبع المتابع للحدث إلى شخصيتين أحسب أنهما كانا محور الحدث السياسي بجدارة – خاصة في الثلث الأخير من العام المنصرم: السيد الصادق المهدي – إمام الأنصار ورئيس حزب الأمة ، والأستاذ ياسر سعيد عرمان ، الأمين العام للجبهة الثورية السودانية. ولأن السياسة هي فن إدارة البشر كما يقولون ، فقد ترك الصادق المهدي و ياسر عرمان بصمتهما واضحة على خارطة الحدث السياسي بمهارة يحسدان عليها. في تقديري أنّ إعلان باريس كان ضربة البداية الموفقة للإمام. ولعله وحزبه اتخذا القرار الصائب في الوقت المناسب. إعلان باريس حرّك مياه بركة السياسة السودانية التي قصد نظام الخرطوم أن يجعل منها ساقية جحا – تأخذ الماء من البحر لتصبه في البحر. منبر الدوحة حيث يحاور النظام نفسه، ورحلات وفده إلى أديس مزوداً بلاشيء ليقوله لوفد الحركة الشعبية شمال ووعود رأس النظام في خطاب أشبه باللغز اسمه الوثبة! وكلام كثير عن حوار وطني يفضي في محصلته إلى شيء. وحين قلنا إنّ الصادق المهدي ساهم في تحريك مياه السياسة السودانية الراكدة بنصيب الأسد ووضع هو وحلفاؤه الجدد النظام في خانة الدفاع ، ذلك لأن المهدي كان باعتقاد الكثيرين ومن بينهم أناس مؤثرون وشباب طامحون في حزبه ، كان بتردده ومواقفه غير الواضحة عوناً للنظام في التسكع وكسب الوقت ليقوم بمزيد الدمار. وحتى قبل إعلان باريس بقليل كان عند السيد الصادق المهدي بعض من عشم في النظام الفاشي أن يكون فيه عقلاء يوقفون دولاب الدم والانهيار الاقتصادي وعزلة البلاد حتى من دول ما كانت لتقف موقف المرتاب من السودان مهما عكرت مياهه السياسية- وأعني دول الخليج. ولعل من أكثر أخطاء النظام فداحة أنه قرأ الجانب الخطأ في حوار المهدي معه. بل مشى النظام خطوة أبعد من ذلك حين زجّ بالصادق المهدي في سجن كوبر لأنه تجرأ وانتقد الفظائع التي ارتكبتها قوات الدعم السريع (إسم الدلع لمليشيات الجنجويد) في حق المواطنين. كانت تلك غلطة العمر لنظام البشير. فأنت حين تحاول إذلال شخصية بحجم الصادق المهدي – اتفقنا معه ام اختلفنا- فإن عليك أن تستعد لدفع ثمن باهظ. وهذا ما حدث ويحدث في المسرح السياسي السوداني اليوم. خرج المهدي من سجن كوبر بابتسامته الواثقة، وما انتبه النظام الأرعن إلا والصادق المهدي يطير من قاهرة المعز إلى باريس ليلتقي بوفد الجبهة الثورية السودانية ويخرج الاثنان على الملأ بإعلان باريس الذي كان ولما يزل صفعة ما أظن أن نظام الخرطوم تلقى صفعة أكثر إيلاما ، بل وضربة أكثر خطورة منها. والكل يعرف كيف أن المهدي بديناميكيته وكسياسي مجرب لم يوقع مع الجبهة الثورية كلاماً على ورق ثم ينام. تحرك الرجل وحلفاؤه الجدد مثل خلية نحل، واستغل كل علاقاته الدولية ليولد في الختام (نداء السودان) بالعاصمة الأثيوبية أديس والذي باعتقادي هو أكبر ميثاق تنادت تحت لوائه وفود المعارضة السياسية والعسكرية والمنظمات المدنية. المهدي كان وراء هذا العمل بجدارة وكأنه في نظري اتجه في غمضة عين مائة وثمانين درجة من مواقفه السياسية المتذبذبة ، وكأني به قد حكم على صلته بالنظام (الحوار الميت) بالنهاية المحتومة، وكأني به عقد العزم ليتوج تاريخه السياسي بضربة معلم تصب في صالح شعبه وبلاده. وما لم ينكص الرجل على عقبيه في حوار طرشان آخر مع نظام الخرطوم المائل للسقوط ، فإنه يستحق في نظري شخصية العام 2014 السياسية والوطنية بجدارة مشاركاً ياسر سعيد عرمان – جيفارا الثورة السودانية. لم تلن لياسر عرمان قناة البتة. قرأ الهرج والمرج في السياسة السودانية وهو طالب بنهائيات الجامعة، وأدرك أن كل ما كان يجري في البلاد إنما هو طواحين هواء، فالتحق بالثائر الأممي الدكتور جون قرنق دي مابيور محارباً معه في الأحراش ، فالثورة واحدة: الكفاح ضد الظلم ! وياسر المسلم من أصول نيلية شمالية ومن أرومة سودانية لها ثقلها الكبير (قبائل الجعليين) طرح القبيلة جانباً وجعل النضال من أجل سودان جديد هو الهدف. وحتى بعد فاجعة رحيل الدكتور قرنق وبعد كارثة انفصال الجنوب، ظل فتي الجزيرة الخضراء متمسكاً مع رفاقه: عبد العزيز الحلو ومالك عقار وآخرين بالحلم الذي أفنوا ردحا من سنوات العمر من أجله: حلم السودان الجديد- حلم قيام دولة مدنية ديموقراطية يتساوى مواطنوها في الحقوق والواجبات. دولة لا تميز بين مواطنيها في اللون أو العرق أو المعتقد الديني. ولا أظن أنّ سياسياً سودانياً من جيلنا ناله من نصال العدو والصديق والقريب والبعيد ما نال ياسر عرمان. لكنه ظل متمسكاً بالحلم..حلم الملايين بالسودان الجديد. وأحسب أنّ رفاقه في الحركة الشعبية شمال وفي الجبهة الثورية كانوا غاية في التوفيق وهم يسندون إليه الملف السياسي كأمين عام للحركة وللجبهة الثورية. ولعل دعوة البرلمان الأوروبي لجلسة استماع كانت أولى الأهداف الصائبة في العمل الخارجي بقيادة ياسر عرمان. في تلك الفترة تلاطمت أمواج السياسة في السودان..ليكون إعلان باريس بين حزب الأمة القومي – أحد أكبر الأحزاب بالبلاد- والجبهة الثورية السودانية، وليبدأ العد التصاعدي للعمل السياسي الثوري السوداني من جهة والعد العكسي لنظام عمر البشير من الجهة الأخرى. كان ياسر عرمان رفيق قرنق وأحد أمهر تلاميذه في النضال الحربي وفي الحوار السياسي حاضراً بقوة في ملف الجبهة الثورية صاحبة أكبر رصيد في التعداد السكاني والنضال العسكري وصاحبة أكبر مساحة من الأرض والموارد فيما تبقى من سودان. أدار ياسر عرمان الملف السياسي بحنكة. يجلس إلى خصومه بهدوء ، ويحاور بهدوء وتركيز. خبرة ثائر له قضية. كان كالنحلة في الاجتماعات الأخيرة في أديس أبابا والتي توجت بنداء السودان، ذاك التحول الذي يأمل كثيرون أن يؤدي لتفكيك النظام الفاشي في السودان بعد أن تحولت بوصلة المجتمع الدولي الآن في صالح حل سياسي شامل للمشكل السوداني يفضي إلى قيام دولة مدنية ديموقراطية ويتوج في عامنا الجديد حلم السودانيين بدخول نادي العصر الجديد عوضاً من عصور الظلام وإراقة الدماء وسرقة موارد البلاد وإضاعة هيبتها بين الشعوب والتي فعلها نظام القبح في السودان. نحن موعودون بدخول نادي العصر الجديد بجدارة سبقتنا إليها تونس الخضراء .. لكن وعي شعبنا وتجاربه تؤهلنا لذلك. [email protected] Fidaili Jamma