إقصاء الزعيم!    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    دبابيس ودالشريف    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    محمد وداعة يكتب: الامارات .. الشينة منكورة    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة شمال دارفور يتفقد مصابي وجرحى العمليات    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    مدير شرطة محلية مروي يتفقد العمل بادارات المحلية    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابوالفضل البصاص (1 و2) .. بقلم: مصطفى عبد العزيز البطل
نشر في سودانيل يوم 29 - 01 - 2015


[email protected]
الجزء الاول
القاهرة - 12 يناير 2009:
دخلت مكتبة ( الشروق ) فى ميدان طلعت حرب وفى ذهنى غرض واضح ومحدد، وهو إقتناء الأجزاء الثلاثة من كتاب ( إبن القرية والكُتّاب – ملامح سيرة ومسيرة)، المشتمل على قصة حياة الداعية الدكتور يوسف القرضاوى، وكنت قد قرأت أجزاء منجمة منها سابقا. جهدت الا أنظر الى العناوين الأخرى المعروضة حتى لا أقع فى إغراء إقتناء المزيد، فى وقت لا تزال فيه الكثير من بنات المطابع، يقبعن فى دارى بمنيسوتا، أبكارا أطهارا لم يمسسهن إنس ولا جان.
ولكن (الإغواء ليس إمرأة فقط) كما يقول عنوان الفيلم الفرنسى الشهير، ولذلك تقهقرت عندى إرادة الصمود أمام عنوان كتاب يقول: ( كنت نائبا لرئيس المخابرات). وولعى بحرفة البِصاصة وسيرة البصاصين مما هو معلوم لديك بالضرورة أيها العزيز الإكرم. ومؤلف الكتاب هو عبدالفتاح أبوالفضل أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار الذى فجر الثورة المصرية بقيادة جمال عبد الناصر عام 1952. وقد تدرج أبوالفضل فى سلك البصاصين فعمل نائبا لرئيس المخابرات المصرية الأسطورى صلاح نصر فى فترات بالغة الحساسية من تاريخ الكنانة.
ولكن ذلك لم يكن هو ما لفت نظرى. الذى حفزنى على إقتناء الكتاب حقا هو أننى فوجئت وأنا أقلب صفحاته تقليبا سريعا، بأن أبى الفضل هذا كتب بلغة عربية مبينة، لا غموض فيها ولا إلتواء، وبغير لف أو دوران، يقول أنه عمل لسنوات مسئولا عن نشاطات جهاز المخابرات المصرية فى السودان تحت غطاء صحفى، حيث عمل وعاش فى الخرطوم يمارس مهنته الاستخبارية بينما هو يحمل صفة مندوب لصحيفة مصرية معروفة.
وقد دهشت لهذا التصريح أيما دهشة، إذ لم يكن ليخطر على ذهنى أن أجهزة المخابرات العربية أصبحت تصرح لمنسوبيها السابقين بالكشف عن مثل هذه المعلومات وإباحتها للسابلة. وإن كنت أعرف يقينا أن الأجهزة الإستخبارية الغربية تسمح بذلك وفق شروط معينة، وقد كان من ضمن ما قرأت من مذكرات رجال المخابرات المركزية الامريكية السابقين كتاب ( سى نو ايفل ) ومؤلفه بوب بير، الذى كتب، ضمن ما كتب، عن فترة عمله مسئولا عن مكتب المخابرات الأمريكية بالخرطوم فى نهاية السبعينات ووصف عاصمتنا البهية بأنها مدينة تعيسة ومملة، وشكا وبكى من كثرة الغبار والزوابع الترابية فيها.
وقد عاد بوب بير من الخرطوم الى بلاده، ثم منها الى بيروت حيث تفرغ لسنوات عديدة – بحسب روايته - لمهمة تعقب ومطاردة عماد مغنية المتهم الأول بتفجير مقر مشاة البحرية الأمريكية فى بيروت عام 1983، وهى المهمة التى باء فيها بفشل ذريع ظل يقض مضاجع الأمريكيين، حتى جاء شفاء صدورهم على يد الموساد الإسرائيلى العام الماضى حيث تمكنت عناصره – بحسب تقارير صحفية أمريكية وأوربية متضافرة – من شراء بعض منسوبى الأجهزة الرسمية السورية والإستعانة بهم لتسهيل التعرف على شخصية مغنية وإغتياله فى دمشق عن طريق متفجر الكترونى ذى متحكم خارجى. وقد إلتحق بوب بير بعد مغادرته سلك البصاصة بشبكة سى إن إن التلفزيونية، الاكثر شهرة فى العالم، حيث أصبح من أبرز محلليها فى الشئون الدولية.
وعلى كثرة الزوايا المثيرة للدهشة فى الجانب السودانى من مذكرات النائب الأسبق لرئيس المخابرات المصرية، أبى الفضل، فأننى أبدأ من جانب قد لا يكون هو الأكثر أدهاشاً بالنسبة لك، ولكننى وجدت فيه، من حيث لم أحتسب، أجابات شافية وافية، أزاحت من أمامى فى لمح البصر غموض لغز إرتبط بشخصية سودانية عرفتها خلال سنى عملى فى الحكومة، فى النصف الأول من الثمانينات، وكنت قد إستيأست من معافرة ذلك اللغز وتركته فى أضابير النسيان وراء ظهرى فى السودان. وقد دار رأسى دورتين وأنا أقرأ إسم: المرحوم عبدالفتاح فرج، يتردد عدة مرات بين جنبى الكتاب. ثم أعرف من أبى الفضل عن الرجل وخلفيته وتدريبه ومهاراته، ثم تتراص القطع، واحدة بعد الاخرى، حتى إكتملت ملامح الصورة وإنحلت عقدة اللغز وإنفرطت حبيباته.
فأما عبد الفتاح فرج الذى خبرته، رحمه الله، فهو نفسه، الرجل طويل القامة، أسود البشرة، ذى الملامح الأفريقية الخالصة، الذى وصفه أبوالفضل بقوله: ( مصرى ولكنه أصلا من قبيلة الدينكا بجنوب السودان). وقد عرفت عبد الفتاح فرج بصفته مديرا لمكتب الشيخ حسن الترابى مساعد رئيس الجمهورية بالقصر الجمهورى خلال الثمانينات. وكان أستاذنا وصديقنا عبد العزيز الطيب الهندى، نائب مدير مكتب رئيس الجمهورية لشئون التكامل آنذاك، يطلق عليه (عبدالفتاح فرج السلام عليكم)، بسبب من أن فرج كان عندما يرد على المكالمات الهاتفية، بلهجته المصرية المميزة، يذكر عبارة السلام مقترنة مع إسميه الأول والثانى بصورة متصلة وسريعة على نحو يوحى للسامع فى الوهلة الأولى بأن "السلام عليكم" هو إسم جده! ولو عرفت عبد الفتاح فرج عن قرب، كما عرفته، لرأيت فيه إنسانا يتصف بالدماثة وحلاوة المعشر وطيبة القلب. وكان، كما سلفت الإشارة، يتحدث العربية بلهجة مصرية صرفة فلم يكن يعرف العامية السودانية ولم أسمعه قط يحاول تكلفها.
ولست أذكر إن كان فرج واحدا من مستخدمى ما كان يعرف بديوان الموظفين العموميين وتم انتدابه للعمل بالقصر الجمهورى مديرا لمكتب الشيخ الترابى، أم أنه كان من موظفى رئاسة الجمهورية الراتبين. ولكننى أعرف ان الشيخ الترابى لم يكن يرتاح قط الى وجوده وأن الرجل إنما فرض عليه فرضا، إذ لم يكن النافذون فى رئاسة الجمهورية آنذاك من السماحة بحيث يتيحون للترابى أن يختار بنفسه مديرا لمكتبه ترتاح اليه نفسه. وكنت أحس – من مبادلاتى الكلامية مع الشيخ – الذى كنت ألتقيه بصورة متواصلة فى آخر عهده بمنصبه ذاك، بحكم قيامى بأعباء سكرتارية عدد من اللجان العليا التى كان يرأسها، أنه يعلم عن شخصية سكرتيره فرج ما لم أكن أنا ولا غيرى نعلم.
وكانت بعض الأقاويل قد سرت هنا وهناك بأن الرجل ربما كان على صلة بجهاز أمن الدولة، الذى ظل يضع عينيه على الشيخ الترابى ويترصد حركاته وسكناته سرا وعلنا، ويتحرق شوقا الى يوم صدور الإذن الرئاسى بالإنقضاض عليه وعلى جماعته وإيداعهم السجون، وهى الأشواق التى لاقت مرادها قبيل أسابيع قليلة من إنتفاضة إبريل 1985. ولكن تصاريف الحياة مع ذلك شاءت أن يرتبط عبدالفتاح فرج بالشيخ الترابى أوثق رباط، ليس فقط خلال توليه مهام منصبه السياسى في العهد المايوى، بل وحتى بعد سقوط النظام واندحاره، فأمتدت العلاقة بين الرجلين الى فترة الديمقراطية الثالثة بعد ذلك. وكان فرج يُكثر من ملازمة منزل الشيخ، بل وأتخذ منه ومن أولاده أهلاً وأسرة.
وأذكر أن ورقة صغيرة أدخلت للشيخ الترابى أثناء جلسة لمجلس الوزراء، فى عهد الديمقراطية الثالثة، منتصف العام 1988، وكان الشيخ يومها وزيرا للخارجية، فقرأها ثم إستاذن من رئيس الوزراء وغادر المكان على الفور بعد ان قام بإضافة بضعة سطور الى ذات الورقة وقام بتسليمها الى الساعي مع توجيه بتسليمها الى الاستاذ أحمد عبد الرحمن محمد وزير الرعاية الاجتماعية الذي كان يشارك في نفس الجلسة.
علمت لاحقا من الاستاذ أحمد عبد الرحمن أن المذكرة كانت تحمل نبأ وفاة عبدالفتاح فرج فى مكان ناءٍ كان يسكن فيه وحيدا، إذ لم يكن له أقارب معروفون. أمر الشيخ الترابى بإحضار الجثمان الى منزله بالمنشية حيث تم غسله وتكفينه، وذهب الشيخ الترابى وإبنه الصدّيق والاستاذ أحمد عبدالرحمن محمد وعدد من أفراد الحراسة بالجثمان الى حيث صلوا عليه وواروه الثرى. ثم قام الصدّيق الترابي إلى متعلقات الفقيد البسيطة فجمعها من هنا وهناك، وبذل جهدا جهيدا فى محاولة التوصل الى أهل أو أقرباء له يتسلمون هذه المتعلقات دون جدوى، ولست ادرى ان كانت جهوده قد أتت إكلها لاحقا أم أنه إستيأس من غايته.
هذا عن المرحوم عبد الفتاح فرج، الإنسان الطيب رقيق الحاشية، الذى عرفته وعملت بمقربة منه ردحا من الزمن. ولكن نائب رئيس المخابرات المصرية، أبى الفضل، يفاجؤنا فيدلنا على بعض مسارات من حياة المرحوم عبد الفتاح فرج فى مراحل سابقه من عمره، لم يكن الراحل قد أماط عنها خمارها أو أسر بها الى أحد.
يقول أبى الفضل أن فرج يحمل الجنسية المصرية وأنه كان يعمل فى جهاز المخابرات العامة، وأنه – أى أبى الفضل – كان رئيسه المباشر فى بعض فترات عملهما معاً فى سلك البصاصة. ولم يكن فرج فى الأصل، بحسب ابي الفضل، متخصصا فى الشئون السودانية، بل كان يقوم بمهام أخرى من بينها، على سبيل المثال، المساعدة فى تنظيم عمليات المقاومة الشعبية ضد البريطانيين فى منطقة الإسماعيلية وقناة السويس عام 1954. غير أن المخابرات المصرية عندما تنبهت الى ضرورة أيلاء إهتمام خاص بالسودان وعجمت كنانتها، فإنها تخيرت عضو جماعة الضباط الأحرار صاحبنا اليوزباشى أبى الفضل وبعثت به الى الخرطوم مسئولا عن إدارة شئونها الاستخبارية، ثم عجمت كنانتها مرة اخرى فانتخبت له مساعدين اثنين ( راعت ان تكون أصولهما سودانية)، كان أولهما عبد الفتاح فرج، وثانيهما محمد غالب الذى يقول الكتاب أنه مصرى من أب سوداني.
ثم يضيف أنه تم إختيار فندق ( يملكه سودانى خفيف الظل اسمه كيشو) مقرا لإقامة عبدالفتاح فرج فى الخرطوم، على أساس أن (الفندق كان ملتقى الشباب السودانى المثقف، والمكان المفضل لليساريين، كما كان المكان المفضل لإقامة عدد من أعضاء البرلمان). وهذه الجزئية الأخيرة، التى بين قوسين، تشبه الى حد كبير الجزئيات التى عندما يسطر مثلها صديقنا "حاطب الليل" د. عبد اللطيف البونى فإنه يضيف بعدها عبارته الشهيرة التى يخاطب بها قارئه: (أنا ما بفسّر وإنت ما بتقصّر)! ويستفيض الكتاب فى عرض الاعمال الاستخبارية التى اضطلع بها أبى الفضل بمعونة فرج وسأعود الي بعضها لاحقا.
ولعلك الآن ترى، أيها العزيز الاكرم، كيف أن ما أورده اليوزباشى البصاص فى هذا الجانب يكفى تماما بالنسبة لى، على الأقل، لفك الحيرة والغموض التى أحاطت بشخصية عبد الفتاح فرج عند توليه مهام ادارة مكتب الشيخ الترابى فى مرحلة متأخرة من حياته.
ولكنى لا أدخر وقتا لأقول أننى فى يومى هذا لا أعرف عن المرحوم فرج ألا أنه إتخذ من مصرنا الشقيقة وطنا له، وتشرّف بجنسيتها، وخدمها فأحسن خدمتها، وأخلص لحرفته فأجادها، فى ولاء وحب يليقان بالمخلصين من عباد الله الذين يتقنون أعمالهم، مصداقا لوصية رسولنا الكريم: ( أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه ). كان ذلك فى وقت ملأت فيه نداءات وحدة وادى النيل البصر والسمع والوجدان، وأحسب أنه كان من المكافحين المنافحين عن وحدة شطرى الوادى.
لا جناح عليك، أيها الشيخ الفانى، يوم تخيرت مصر وطنا وموئلا. ولا تثريب عليك يوم آثرت أن تعود الى بلدك الاول، بعد أن تعثرت آمال البيت الواحد الكبير واستعصت على التحقيق، لتعمل مع العاملين من بنى جلدتك فى بناء وطنك الأم ونمائه ورفعته، ثم لترقد بجسدك الفارع المديد فى باطن أديمه الطيب.
اللهم يا أكرم من سُئل، ويا أوسع من جاد بالعطايا، تقبل الى جوارك الكريم أخينا عبد الفتاح فرج، وإجعل له من رحمتك و جنتك حظا ونصيبا.
الجزء الثاني
(1)
فى الأسبوع الماضى وقفنا عند بعض ما كتبه عن السودان البكباشي عبد الفتاح أبو الفضل عضو جماعة الضباط الأحرار، التى فجرت الثورة المصرية عام 1952م، والنائب الأسبق لرئيس جهاز المخابرات العامة المصرية (صلاح نصر)، فى مذكراته (كنت نائباً لرئيس المخابرات). وقد صوبنا النظر ونحن نتداول صفحات المذكرات الثلاثمائة بإتجاه ما يلينا فى السودان من أخبار وأسرار ووقائع.
وكان صاحبنا قد ذكر لنا أنه ابتعث الى الخرطوم فى العام 1955م مكلفاً بقيادة عمليات المخابرات المصرية فى السودان، بعد أن تبينت للقيادة فى مصر خطورة التحولات والتطورات التى كانت قد أخذت فى تشكيل صورة الواقع السياسى للسودان فى تلك الفترة البالغة الحساسية من تاريخه. وقد أدهشنا تصريحه بأنه كُلف بإنجاز مهامه فى السودان تحت غطاء صحفي، إذ اختارت له المخابرات صفة (المراسل الصحفي لجريدة "الجمهورية").
وقد تلقّى، فى سبيل التأهيل لهذه المهمة، فترة تدريبية قصيرة فى دار الجمهورية مكنته من الالمام بطبيعة الأعمال التى يقوم بها المراسلون الصحفيون، ثم استخرجت له بطاقة صحفية، وغادر بعدها الى الخرطوم. و أضاف أن رؤساءه حددوا له مهمته فى الآتى: (دراسة جذور الوضع المتردي فى السودان وموقف التيارات المضادة للوحدة وأسباب ذلك الموقف. والإجابة على السؤال: هل هناك أمل فى الوحدة أم أن الأمل إنقطع تماماً).
(2)
ولا شك أن بداية أبو الفضل في الخرطوم كانت موفقة الى حد كبير بمقاييس محترفي البِصاصة، فقد عمل دؤوباً على خلق وتوطيد وتوسيع دائرة إتصالاته وعلاقاته بالعديد من شباب المثقفين والعناصر القيادية فى الحزبين السودانيين الكبيرين. كما تعرّف على (صالون تتجمع فيه الشخصيات السياسية ورجال الأعمال السودانيين والأجانب وأعضاء البرلمان وبعض الدبلوماسيين. وتقدم الخمور لضيوف الصالون، وعندما تلعب الخمر برؤوسهم تنطلق ألسنتهم بأسرار الدولة السياسية والاجتماعية. وفى هذا الصالون كان يتم طبخ سياسات السودان العليا، تماماً كما كان يحدث فى كلوب محمد علي فى مصر قبل الثورة) [ ص 140-141 ].
أما الصورة السياسية العامة والحالة النفسية لأهل الخرطوم فقد التقطها من دور السينما، و تحديداً من متابعة مشاهد الجريدة الإخبارية الناطقة قبيل بداية العروض السينمائية. فقد كانت الجريدة الناطقة تظهر الملكة إليزابيث، ملكة بريطانيا، فى بعض المناسبات فى ملابس الحرس الملكي الملونة وهي تمتطي صهوة جواد وتؤدي التحية العسكرية للحرس المصطف في خشوع ونظام. وعند هذا الجزء من الجريدة الاخبارية كان الجمهور المحتشد فى دار السينما يضج بالتصفيق ويُظهر الإستحسان. غيرأن الفقرة التالية مباشرة، والتى تتضمن مشاهد للرئيس جمال عبد الناصر وهو يخطب فى الجماهير المصرية، كانت تقابل بالسخرية والإستخفاف والتعليقات المعادية!
(3)
ومن الطبيعي للعنصر الإستخبارى الفاعل أن يجهد لمعرفة ما إذا كان هناك بصاصون آخرون يعملون لحساب دول أخرى فى الدولة التى يمارس فيها نشاطه. وقد كان نجاح أبي الفضل في هذا المسعى مؤزراً، فقد تمكن من كشف اللثام عن بصاصي بريطانيا والولايات المتحدة وراقبهم مراقبة لصيقة.
وبحسب أبي الفضل، فإن رجل المخابرات الأول وقائد شبكة الجاسوسية البريطانية فى السودان، فى ذلك العهد، كان يحمل صفة رئيس تحرير صحيفة "مورننق نيوز". ولا أعرف لماذا أغفل أبو الفضل إسمه! وقد قامت المخابرات المصرية بوضع مكالمات هذا الشخص تحت المراقبة عن طريق عملائها فى مصلحة التلفونات السودانية. ولاحظت أن له إتصالات يومية مع جميع المستشارين البريطانيين فى الوزارات، فهو يتلقى منهم المعلومات ويصدر اليهم التعليمات، وقد كشفت المكالمات أن جميع وكلاء الوزارات من السودانيين يتعاونون تعاوناً شاملاً ويلتزمون حرفياً بتوجيهاته.
وقد تمكن أبو الفضل ومساعديه من استمالة سكرتير تحرير جريدة " مورننق نيوز" السوداني للتعاون معهم، ونجحوا عن طريقه في الحصول على نسخة من مفتاح خزينة رئيس التحرير، التي يحتفظ فيها بأوراقه السرية، فقاموا بتصويرها وإعادتها الى مكانها. ومن أهم ما كشفت عنه الوثائق المسروقة أن المخابرات البريطانية كانت على علم بشخصية العميل الأول لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الخرطوم، وهو نفسه رئيس مكتب الإتصال الأثيوبى (ملس عندوم).
قد قامت المخابرات المصرية، بعد وقوعها على هذه المعلومة، بالتجسس على مكالمات ملس عندوم، بنفس الطريق السابق، فتأكدت لها تلك الحقيقة. ومن سخرية الأقدار أن المطاف إنتهى بملس عندوم، عند سقوط نظام هيلاسلاسي، الى طلب اللجوء السياسي بمصر التى تكرمت عليه فمنحته ذلك الحق!
(4)
ومن نماذج إستغراق أبي الفضل في الشأن السوداني ومحاولته التأثير على مجرياته عن طريق وسائل البصاصة، أنه تمكن من تجنيد موظف سوداني يعمل في وزارة الري، وذلك خلال الفترة التي كانت تدور فيها مفاوضات إتفاقية مياه النيل سنة 1955م، بين وفد الحكومة السودانية برئاسة خضر حمد والجانب المصري برئاسة عضو مجلس قيادة الثورة البكباشى زكريا محى الدين. وكان المستشار البريطاني كارل مايكل يرسل تقريراً يومياً الى الوفد السوداني بالقاهرة يزودهم فيه بإحصائيات وبيانات وتوجيهات تدعوهم للتشدد في مواقفهم.
ويكشف أبو الفضل أن المخابرات المصرية كانت تتلقى صوراً من هذه التقارير أولاً بأول عن طريق عميلها المشار اليه فى وزارة الري، وأن منتسبيها فى شركة مصر للطيران كانوا يقومون بتأمين نقلها للقاهرة على جناح السرعة، بحيث أنها في بعض الأحيان كانت تصل الى يد البكباشي زكريا محيي الدين قبل وصولها الى المفاوضين السودانيين!
قد نزيدك، إن شئت، من أمثلة النشاط الاستخباري المصري فنحدثك عن رحلة أبي الفضل ومساعده عبد الفتاح فرج الى مدينة الأبيض ودخولهم مبنى بورصة الصمغ العربي ومراقبتهم لعمليات تجارة الصمغ الذي كانت تحتكر شراءه بأسعار زهيدة، بدعم بريطاني، ثلاث شركات على رأسها شركة جلاتلي وهانكي. ويقول صاحبنا إن هذه الشركة يرأس مجلس إدارتها الجاسوس البريطانى الذي كان قد اشتهر في عدد من البلدان العربية بإسم: عبد الله فيلبي، والذي كان يشغل منصب المستشار السياسي للملك سعود. وقد كانت من نتائج جهود أبي الفضل في إتجاه التأثير على هذا الواقع وتغييره دخول بنك مصر الى سوق شراء الصمغ العربي، وتمكنه من كسر الإحتكار البريطاني وحصول مصر على نسبة مجزية من هذه السلعة الاقتصادية الهامة.
(5)
يقدم صاحبنا لفائدة القارئ تحليلاً للواقع السياسي السوداني عشية الاستقلال، ويستند في ذلك التحليل الى سرد مستفيض لتاريخ الحركات الدينية الصوفية ومسارات تطورها، وتكوين الطوائف والاحزاب السياسية في السودان. ولم يكن موقفه العدائي من حزب الأمة وطائفة الأنصار في هذا التحليل مما يُستغرب له.
ولكن الإستغراب يفرض نفسه ونحن نطالع تحليله عن طائفة الختمية التي عرفت تاريخياً بموالاتها لمصر وتمتعها بعطفها ورعايتها. فقد سلق أبو الفضل رمز الختمية الكبير السيد علي الميرغني بألسنة حداد، فنعته بأنه رجل لا مبدئى ومراوغ، يتوخى السلامة ويتقلب بتقلب المصالح ويركب كل موجة يتوسم فيها نفعاً سياسياً، ووصف مواقف طائفته بالإنتهازية الصرفة.
وإذا كان هذا هو الرأي في الحليف القريب، الحسيب النسيب، فحدّث عن الرأى فى الخصم العنيد، ولا حرج. لا يتورع صاحبنا عن وصف الإمام عبد الرحمن المهدي بأنه دجال، وينسب له ممارسات ما أنزل الله بها من سلطان، من شاكلة ما ذكره عن أن الإمام كان يتعمد الإختفاء قبل موعد غروب الشمس فى الجزيرة أبا (( فيتسلل خارجاً الى البراري والحقول، يتجول فيها، فإذا خيم الظلام كان يظهر أمام أتباعه هنا وهناك ويتعمد أن ينير مصباحاً (بطارية يد) من تحت عباءته، فيبدو فى الليل وكأنه شبح منير. ويرى أتباعه هذه الظاهرة الغريبة فيظنون أنها تدل على الخير والبركة والتقوى وأن روح سيدهم الطاهرة تتجول فى الليل، فيتصايحون: " سيدي نوّر.. سيدى نوّر"، و ترتفع مكانته عندهم ))!
غير أن أبا الفضل ينحى منحىً آخر عندما يعرض لشخصية السيد الصادق المهدي فيقول لنا إنه خرج بإنطباعات إيجابية عند لقائه به ويصفه بأنه (شاب لبق، عالي الثقافة، يتقن الحوار). ثم يضيف أن الصادق واجهه في صدد عرضه لموقف حزبه من قضية مستقبل السودان بالقول: (إن الوجود البريطاني في السودان حقيقة، بينما الوجود المصري في السودان منذ الاحتلال البريطاني لمصر رمز وشكل دون مضمون. و نحن فى السودان نفضل أن نتعامل مع الحقيقة لا مع الشكل). وأضاف أنه سجل هذه الكلمات كما هي وبعث بها الى رئاسته في القاهرة مشفوعة بتعليقه بأن ما ذكره حفيد المهدي يعبر عن وجهة الرأي العام في السودان الذى كان يتطلّع نحو الاستقلال.
(6)
وإذا كنا قد وصفنا مداخل صاحبنا البصاص الى السودان بأنها كانت ميسورة وموفقة، فإنه لا مناص أمامنا من القول بأن مخارجه لم تكن كذلك، إذ انطبق عليه المثل السائر: (الدخول في الشبكات هيِّن ولكن التأمل في الخروج )! ولأن مُدخل أبي الفضل لم يكن "مُدخل صدق"، فأن الله لم يقيِّض له من أمره "مُخرج صدق". و الخط النهائي الأدنى هنا، أو "البوتوم لاين" في قول الفرنجة، هو أن السلطات السودانية تمكنت أخيراً من كشف شخصية اليوزباشي (آنذاك) عبد الفتاح أبو الفضل الحقيقية، وعرفت أنه ليس صحفياً، بل ضابط مخابرات يتخفّى تحت بطاقة الصحافة ليقضي من ورائها أوطاراً أخرى.
ويوم تميط السلطات، في الدولة التي يجري نشاط البِصاصة على أرضها، اللثام عن الشخصية المتخفية، يصبح البصّاص فى لحظته وفوره من سقط المتاع، " رمة " في ذمة التاريخ! واذا كانت أيام أبي الفضل فى السودان بيضاء وخضراء وبنفسجية، بألوان قوس قزح، فقد كان يوم استدعائه لمقابلة وكيل وزارة الداخلية، هو اليوم الأسود. أو لعله - كما يقول الإخوة فى شمال الوادي - (أسود من الخرّوب)!
لم يكن في السودان آنذاك جهاز للمخابرات المضادة، ولكن كانت هناك وزارة للداخلية تمارس سلطات مراقبة وحراسة الأمن العام. وفي لقائه بوكيل وزارة الداخلية جابهه الأخير بأن الوزارة كشفت شخصيته الحقيقية، وأصبحت في يومها وهي تعلم أنه ليس صحفياً، بل هو الضابط المصري اليوزباشي عبد الفتاح أبو الفضل.
ومما يؤسف له أن وكيل وزارة الداخلية إلتقى أبا الفضل، بعد ذلك، قبيل مغادرته النهائية الى مصر في مناسبة إجتماعية محضورة فبادره بكلمات غير كريمة، إذ خاطبه أمام الجمع وهو يشخص اليه ببصره: (كيف حالك يا ود البق). و يقول أبو الفضل عن هذه العبارة أنها: (إساءة بالغة درج عليها أهل السودان عندما يريدون توجيه إهانة إلى مصري، على أساس أن حشرة البق موجودة في البيوت المصرية الفقيرة).
وقد خفف من وقع الإساءة على نفس صاحبنا أن وفداً مشتركاً من الصحفيين على رأسه الاستاذ صالح عرابي، ومن السياسيين على رأسه السيد/ محمد عبد الجواد، زاروه في منزله بعد تلك الحادثة مباشرة معتذرين ومعبرين عن حبهم وتقديرهم لمصر وشعبها.
(7)
كانت مهمة أبي الفضل الأخيرة في السودان التوصل الى حل للغز المتمثل في كيفية إكتشاف السلطات السودانية لشخصيته. وقد جهد صاحبنا في هذا المسعى حتى إستبانت له جلية الأمر، إذ عرف أن وزارة الداخلية كانت قد جنّدت، بصفة متعاون، أحد المدرسين المصريين الذين يعملون بعقودات مباشرة مع حكومة السودان، وأن ذلك المدرس تمكن من إحضار نسخة من دليل تليفونات مدينة القاهرة ووجد فيه إسم أبي الفضل الثلاثى وأمام الإسم رتبة اليوزباشي!
لا تأخذنك، يا هداك الله، موجدة على صاحبنا ، فإن الرجل لم يزد عن أنه نهض بأمانته وأداها كأفضل ما تؤدى الأمانات. ولا على غيره من السودانيين الذين آزروه ومكنوه من الوفاء بمستحقات وظيفته، فإنهم إنما أضمروا الحب لبلادهم وتواصوا على رفعتها. ووحدة وادي النيل هدف نبيل هفت لمدركه النفوس وتطلعت لمراده الأعناق، ولكن الله غالب على أمره. تقبل المولى من أبي الفضل بصاصته لبلده، ومن مصادره وأعوانه من السودانيين إئتمارهم على ما حسبوه خير بلدهم وصلاح أمرهم، وتقبل منا ومنهم صالح أعمالنا وأبدل سيئاتنا غفراناً، وهيأ لنا من أمرنا رشدا.
(أعادت "السوداني" نشره صحيفة من ارشيف الكاتب)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.