لو أن للنظام عقل، لأخفى أمر تشييد القصر الجديدوتستر على قيامه كما يفعل ببقية سوءاته وفضائحه لا المجاهرة والإحتفاء به بالكيفية التي شاهدها الناس على شاشات التلفزيون،التي عرضت عليهم تلك الأبّهة التي أُهدرت فيها ملايين الدولارات وهو شعب على باب الله ويتألف من فقراء ومرضى ومُعسرين،وهو يعتقد - النظام - أن ذلك يجلب له رضاء الشعب ويحسبه له في ميزان حسناته، وهو في ذلك مثل الذي يذهب لتعزية فقراء يسكنون في منزل من الصفيح وهو يرتدي بدلة إسموكنج وبربطة عنق حمراء ثم ينتظر أن يسمع منهم كلمة إستحسان، فهذا نظام مكشوف حال وقصير نظر ولا يُحسن التقدير،ويُفكّر بظلفه لا بعقله. كما أن الرئيس ليس لديه زوار أجانب عليهم القِيمة حتى يحرص على إستقبالهم في قصر ملكي من الطراز الذي رأيناه، والصحيح أنه ليس لديه زوار من الأساس من ريحة الرؤساء سوى زائر حصري واحد، هو الرئيس السابق "أمبيكي"، وأمبيكي هذا يستحق أن يتم إستقباله في مُلحق من غرفة وبرندة لا في تلك الأجنحة الملكية، فهو "عواطلي" وجد ضالته في قضايا السودان التي عرف كيف يسترزق منها، وكلما أمسك بطرف قضية ولّد منها ثلاثة قضايا جديدة، فأفضل خدمة يمكن أن يقدمها "إمبيكي" للشعب السوداني هو أن يحِل عن سماءه ويتركه في حاله ويعطيه عرض أكتافه. الذي نصح الرئيس ببناء هذاالقصر، هو نفس العقل الذي أشار إليه من قبل بشراء اليخت الرئاسي الذي تكلّف هو الآخر ملايين الدولاراتويقبع لسنوات مُغطّى بمشمّع، ومثل هذا المنهج في التفكير هو أحد أعراض مرض السلطة المزمنة، وهي متلازمة تُصيب كثير من الرؤساء الذين يمضون مُدداً طويلة في الحكم، وهي تنتج عن إنفصال الرئيس عن حياة المجتمع وإنقطاعه عنمعيشته كمواطن عادي مثل بقية خلق الله، فحياة البشير وهو ضابط في الجيش ليست حياته وهو رئيس جمهورية، فقد أمضى أكثر من ربع قرن وهو لا ينتظر راتبه نهاية الشهر ليقوم بتوزيعه على دائنين ينتظرونه خلف الباب، ويشتري منه كهرباء الجمرة الخبيثة، ويدفع منه رسوم النفايات وعوائد المحلية، أوتصرخ فيه زوجته حين تقطع أسطوانة الغاز، ويداوم على زيارة أصدقائه القدامى وزملاء الدراسة ويستمع لآراء أشخاص من خارج دائرة الذين يشاركونه الحكم. مشكلة هذه المتلازمة أن صاحبها يكون في حالة إنكار للمرض ويعيش في عالم آخر، عالم زين، ولو أن شخصاً جلس اليوم إلى الرئيس وقرأ عليه مثل هذا المقال، لوصف صاحبه بأنه شيوعي وعدو الله وجاهل وعديم مفهومية، ووراء هذه النظريةتفسير لما حدث ويحدث من الرؤساء ومن في حكمهم، ومن ذلك حديث "زوجة النجار" الذي قال به النميري، وحديث "البقلاوة" الذي قالت به "ماري أنطوانيت"، وهي - متلازمة الإنفصال عن الواقع - التي تُفسّر عدم إستشعار جماعة الإنقاذ بما يحدث من مفارقة بين الواقع المرير الذي يعيشه الشعب وما يحكون عنه من تهيؤات وخيال. لا ينبغي أن يتخذ الشعب من مثل هذا السَفَه سبباً للتندر والسخرية والإستهزاء وكفى، والواجب أن يكون ذلك سبباً في تسريع الخطوة التي يُمكن أن يعتق بها الشعب رقبته ويُنقذ بها ما تبقى من ممتلكاته، والمؤسف أنه لا يزال كثير من الناس يصدقون حديث هؤلاء الضلالية عن الزُهد، وهم يأكلون مال النبي، وقد طالعت في بحر هذا الإسبوع مقطع لشريط فيديو وصلني عبر "الواتساب"تطوف من خلاله الكاميرا في أركان القصر الذي قيل أن حرم الرئيس الصغرى قد قامت بشرائه بمبلغ ستة مليون دولار، وهو يقع في مساحة تُقاس بالأفدنة، ويُطل مباشرة على النيل الأزرق من ناحية بحري وبمسافة ليست بعيدة من كبري القوات المسلحة (شاهد مقطع الشريط المصور بالنقر على الرابط). ثم ما عيب القصر القديم حتى يُستعاض عنه بآخر!! فالبلاد التي تُقيم وزناً لمعنى التاريخ ورمزية المباني تحتفظ بمثل القصر الجمهوري كما هو لا تسمح بإجراء أي تغيير عليه إلاّ في حدود ما تقتضيه إجراءات السلامة والمحافظة عليه من التلف، فقد إحتفظت عشرات الحكومات البريطانية المتعاقبة على مقر رئيس الوزراء وهو عبارة عن شقة بباب من ضلفتين. لا غرابة في أن يُطلق على صاحب القصر مثل الألقاب التي تجاري السجع الذي قُصد به ما يُطلق على الملوك، فالذين فعلوا ذلك لم يذهبوا بعيداً، فهو يتصرف في الوطن بما فيه تصرف المالك في ملكه، بيد أن ما يخفف من مصابنا في مثل هذه التصرفات أن إنصراف أهل النظام نحو إهدار الأموال في المباني وترك المعاني (مبنى بنك السودان يتفوق من حيث الفخامة على نظيره بدولة الإمارات وقطر والسعودية والكويت، كذا مباني المحكمة العليا ومجلس الوزراء ..الخ)، ما يُخفف من المُصاب أن هذه المباني لا بد أن ترجع في يوم من الأيام لمن يُحسنون إستخدامها ويوجهونها لما فيه مصلحة البلاد والعباد. سيف الدولة حمدناالله