شاهد بالصورة والفيديو.. طفلة سودانية تبكي بحرقة إذا سمعت كلمة "دعامة" وتفرح وتشعر بالطمأنينة عند سماعها هتاف الجيش (أمن يا جن) وتطالب أهلها بترديده دائماً    رسالة البرهان لبوتين تتعلق بالتعاون الثنائي والعسكري وكافة القضايا المشتركة    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط دهشة المتابعين.. الحسناء "جورجينا" صديقة اللاعب كريستيانو رونالدو تطلب التصوير مع شاب سوداني بالسعودية ومتابعون: (والله عبرت يا ولدنا)    شاهد بالصورة والفيديو.. طفلة سودانية تبكي بحرقة إذا سمعت كلمة "دعامة" وتفرح وتشعر بالطمأنينة عند سماعها هتاف الجيش (أمن يا جن) وتطالب أهلها بترديده دائماً    شاهد بالصورة والفيديو.. وسط دهشة المتابعين.. الحسناء "جورجينا" صديقة اللاعب كريستيانو رونالدو تطلب التصوير مع شاب سوداني بالسعودية ومتابعون: (والله عبرت يا ولدنا)    بنك السودان المركزي يعمم منشورا لضبط حركة الصادر والوارد    مدرب ليفربول الجديد يصدم صلاح في أول اجتماع له مع الإدارة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل بالسعودية.. الفنانة إنصاف مدني : (البنت الما عندها قروش دي ما تعرس نهائي وبدون قروش دايرين بيها شنو والما عرست شم العود قرب)    الرياضة في زمن الحرب    اللاعب سليمان عز الله المفضل عند كواسي و محجم عند فلوران    مزمل ابوالقاسم في مرمى نيران الحاسدين    رئيس مجلس السيادة يتسلم رسالة من رئيس جمهورية جنوب السودان    والي الخرطوم: سيتم تقنين المقاومة الشعبية ودعمها وفقاً للائحة الجديدة    إياك وربط الحساب البنكي بتطبيقات الدفع!    عودة قطاع شبيه الموصلات في الولايات المتحدة    احتفالا بالذكرى الأولى لزواج الامير الحسين والاميرة رجوة.. نشر أول صور رسمية للأميرة تظهر حملها الاول    ريال مدريد يصطدم بأتالانتا في السوبر الأوروبي    أمير قطر في الإمارات    ما شروط التقديم؟ السودان بين الاكثر طلبا.. الجنسية المصرية تجذب الأجانب وتسجيل طلبات من 7 دول مختلفة    بيلينجهام لمورينيو: ماما معجبة جداً بك منذ سنوات وتريد أن تلتقط بعض الصور معك    ريال مدريد الإسباني بطل أوروبا    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    بدء الضخ التجريبي لمحطة مياه المنارة    بعد الإدانة التاريخية لترامب.. نجمة الأفلام الإباحية لم تنبس ببنت شفة    إعلان قائمة المنتخب لمباراتي موريتانيا وجنوب السودان في التصفيات الأفريقية المؤهلة لكأس العالم    دفعة مالية سعودية ضخمة لشركة ذكاء اصطناعي صينية.. ومصدر يكشف السبب    "إلى دبي".. تقرير يكشف "تهريب أطنان من الذهب الأفريقي" وردّ إماراتي    مسؤول سوداني يكشف معلومات بشأن القاعدة الروسية في البحر الأحمر    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    فيصل محمد صالح يكتب: مؤتمر «تقدم»… آمال وتحديات    السعودية تتجه لجمع نحو 13 مليار دولار من بيع جديد لأسهم في أرامكو    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    مذكرة تفاهم بين النيل الازرق والشركة السودانية للمناطق والاسواق الحرة    سنار.. إبادة كريمات وحبوب زيادة الوزن وشباك صيد الأسماك وكميات من الصمغ العربي    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تداخل النزاع اليوغندي السوداني .. بقلم: د. الطيب حاج عطية
نشر في سودانيل يوم 08 - 03 - 2015

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
إن ظاهرة تفجر الصراعات التي تشهدها عديد من أقطار أفريقيا جنوب الصحراء ما هي إلا ثمرة تراكمات أوضاع تاريخية تصاعدت درجات تفاعلها مع حاضر وسم بالأزمات الاقتصادية الممتدة وعدم الاستقرار السياسي، وبتعقيد ظروف التلاقي الثقافي والاجتماعي. كل ذلك في إطار علاقات دولية وثقافية لم تكن في كثير من الأحيان معينة لحفز دول القارة لاتخاذ سبيل فض النزاعات سلمياً، ومن ثم تقويم مجتمعاتها على قواعد السلام الاجتماعي والمشاركة العريضة والحريات وحماية حقوق الإنسان والتنمية الراشدة.
وباستثناء تنزانيا التي حظيت بدرجة معقولة من الاستقرار النسبي الممتد، فإن جل دول وسط وشرق أفريقيا ودول القرن الأفريقي تعيش ظروف نزاعات حادة تطورت في بعضها إلى حروب أهلية طاحنة هدمت البنية الأساسية الهشة، وقوضت إمكانات التعايش السلمي الإنساني، وازهقت ألوف الأرواح. لم تستثنى من ذلك الأطفال والنساء. ويوغندا دون شك هي إحدى الأمثلة الكلاسيكية لتلك الأوضاع. احتدت شدة الصراع الداخلي فيها منذ الاستقلال إلى اليوم في ظروف تميزت بخصوصية جغرافية وثقافية وعرقية. فيوغندا تتوسط نظام نزاع وسط أفريقيا، وهي دولة تحادد دول تستعر فيها صراعات دموية، لم يكن من سبيل إلا أن تتداخل مع نظام للنزاع اليوغندي الداخلي. إن لم يكن لسبب أو لآخر، فهنالك دائماً وضع التداخل القبلي الموضوعي. ويوغندا دولة ليست لها منفذ إلى البحر، ولم يشهد تاريخها هجرات خارجية مؤثرة منها أو إليها، ولا مجموعة عرقية أو ثقافية واحدة كاسحة ومهيمنة.
جذور الصراع في يوغندا
أدت الأوضاع البيئية والجغرافية والعرقية ومن ثم التاريخية إلى تقسيم يوغندا إلى شمال وجنوب (وربما أحياناً غرب). فالشقاق بين الشمال والجنوب ليس من فعل مؤامرة استعمارية بل هو حقيقة موضوعية أحسن الاستعمار البريطاني استغلال لتكريس أوضاع الفرقة بين أبناء البلد الواحد تطبيقاً لمبدأ فرق تسد، الذي أخضعت بالإمبراطورية البريطانية العالم. فقد شرعت السلطات الاستعمارية في تنفيذ سياسة تقوم على درجة أعلى من التنمية والتعليم والاستخدام في كافة المجالات المدنية لأهل الجنوب اليوغندي، في المقال إهمال التنمية والبناء والتعليم في الشمال وحصر فرص استخدامهم في التجنيد للخدمة العسكرية خاصة أفراد قبيلة الأشولي. تلك القبيلة التي عرفت بتشرب روح العسكرية تقدير القوة والشجاعة. فانقسم أهل يوغندا بين جنوب على درجة من التنمية والتطور والرفاهية النسبية وشمال متخلف حول شبابه، بسبب الحاجة للعمل والكسب، إلى أداة عسكرية في يد المستعمر، عصا يرفعها في وجه صفوة الجنوب إذا تمردت عليه، بهذا دق أسفين وسع الخلاف والكراهية بين شطري يوغندا على مدى تاريخها الحديث.
الاستقلال وميراث العنف والكراهية
عند استقلال يوغندا في 1962م تولى ملتون أبوتي رئاسة الجمهورية، وملتون أبوتي أصلا من شمال يوغندا من قبيلة (لانقي). ورث أبوتي من الاستعمار البريطاني جيشاً وطنياً يغلب فيه عنصر الاشولي ويكثر فيه أفراد قبيلته من اللانقي، فترسب في أعماق أهل الجنوب أن هذه حكومة شمالية جيشاً وإدارة. فمنذ ضحى الاستقلال لم يبدأ بالإحساس المطلوب بتحقيق الحرية في وطن واحد مستقل. وبالرغم من استمرار الرئيس ملتون أبوتي لتسعة أعوام في الحكم إلا أنه لم يتمكن من تحقيق أي قدر من التوافق أو السعي الوطني الموحد المشترك نحو التنمية والاستقرار فأطيح به في انقلاب عسكري في 1971م قاده عيدي أمين جنرال آخر من الشمال (من قبيلة الكاكاوا) إلا أنه من مقاطعة غرب النيل. وكما نعلم جميعاً كان من الأسباب التي عجلت بانقلاب أمين الأحداث في جنوب السودان والأوضاع المحيطة بحركة انانيا الأولى وما اعتقد أنه سيؤدي للإضرار بنصف قبيلته الذي يعيش في السودان. وليس هذا مجال التفصيل في هذا. جاء أمين يدفعه إحساس غامر بالخطر على نظامه الناجم عن غلبة عنصري الأشول واللانقي في القوات المسلحة فوقع فيهم تشريداً وتقتيلاً في مذابح لم يشهد لها التاريخ اليوغندي مثيلاً. فكانت هجرة الأشولي الفارين للعيش بين أهليهم في جنوب السودان البداية الأولى لتواجد بذرة للعناصر المضادة للحاكمين في يوغندا في السودان. ولقد اتسم عصر أمين بالعداء المستحكم للأشولى واللانقي وبقهر خصومه في الجنوب وإخضاعهم تماماً لسطوته. ولقد تضافرت عناصر عديدة للعمل المسلح لإسقاط عيدي أمين. منها مؤيدون ملتون أبوتي من الأشولى واللانقي ومجموعة يوري موسفيتي وكان أحد قوات الفصائل المعارضة، ثم القوة الأساسية وهي الجيش التنزاني. أحاط أمين نفسه بمجموعات من أهله الكاكاوا وبعناصر من حركة انانيا المتمردة في جنوب السودان إلا أنه خسر المعركة وأطيح به في 1979م.
أعقب سقوط أمين فترة من عدم الاستقرار انتقلت فيها السلطة من يد ليد حتى عاد ملتون أبوتي للجمهورية مرة أخرى في مايو 1980م فعادت معه سيطرة اللانقي والأشولى على القوات المسلحة وانتقلوا بدورهم في حملة انتقامية دموية استهدفت إتباع عيدي أمين وعناصر انانيا السودانية (عداء الأشولى للمتمردين السودانيين قديم) وبعض أعدائهم في الجنوب. فعادت دورة العنف والدم في يوغندا.
استمر جيش المقاومة الوطني (NRA) بقيادة يوري موسفيني في عدائه لحكم أبوتي (الشمالي). واستمر النزاع الصلح بين المتمردين (أغلبهم من الجنوب والغرب) وحكومة أبوتى حتى حسمت بالقتال الضاري الذي دار في مثلت لويرو. راح ضحية تلك المعارك الألوف من المدنيين وأضعف نظام أبوتى بدرجة عظيمة حتى أطاح به في انقلاب عسكري نظمه جماعة من كبار الضباط من الأشولى على رأسهم تيتو اكيلو في 27 مايو 1985م. وشرع اكيلو ومجموعته في الدعوة والدخول في محادثات سلام مع جيش المقاومة الوطني، إلا أنها لم تؤد لشيء بسبب البغضاء وعدم الثقة التي تشوب علاقات الشماليين والجنوبيين. فتواصل القتال العنيف حتى سقطت كمبالا في يد يوري موسفيني في 62 يناير 1986م. عندها تراجع الأشولى وقيادتهم في مقاطعتي قولو وكيتقم، وتدفقت مجموعات كبيرة منهم عابرة الحدود للانضمام والعيش بين الأشولى السودانيين في جنوب السودان. لم يستتب الأمر لموسفيني في الجنوب إلا وأطلق العنان لقواته لتمارس حملة انتقامية واسعة ضد الأشولى وقبائل الشمال الأخرى. وكانت تلك بداية عملية تحويل أرض الأشولى لساحة قتال تدور فيها حرب لا تبقى ولا تذر إلى يومنا هذا.
وعندما وجه يوري موسفيني أمراً لكافة الجنود السابقين من الأشولى للتجمع في خلال عشرة أيام في ساحة قيادة القوات المسلحة في مبويا تأكد للأشولى ما يريده موسفيني بهم. فالنداء مشابه لأمر سابق كان أصدره عيدي أمين انتهى بمذبحة كبرى راح ضحيتها الألوف من شباب الأشولى. فلم يمض طويل وقت إلا وتواصلت هجرة جنود الأشولى واللانقي السابقين لجنود السودان ومن ثم تجمعهم في جبهة جديدة للقتال ضد يوري موسفيني عرفت بجيش الدفاع الشعبي اليوغندي (UPDA). في أغسطس 1986م دارت أولى المعارك بين قوات الأشولى والقوات الحكومية. ربما لأن الفريق الأعظم من المقاتلين من المجموعتين عملوا بالقوات النظامية أو لهم ارتباط بها فإن المدنيين والأطفال ظلوا بمنجاة من ويلات الحرب المباشرة. فقد استهدف المتمردون الأهداف والمنشآت العسكرية. ووجد المتمردون تأييداً ودعماً واسعاً من مواطنيهم في الشمال خاصة بين الأشولى. قامت حركة جيش الدفاع الشعبي اليوغندي على بنيه هيكلية جبهوية تحالفيه إذ ضمت بين صفوفها عدداً من المنظمات المعارضة لنظام يوري موسفيني، ولم يبزغ نجم أي تنظيم أو زعيم من بينها كالتنظيم أو الزعيم القائد، ولم تقوم لها بني سياسية أو عسكرية في الداخل تؤمن استمرار جذر التأييد الأكيد التي تلقاه بين الأشولى. لهذا كانت الساحة مفتوحة تماماً لتملأها مدعية النبوة "جدة" جيش الرب اليوغندي أليس لاكوينا.
أليس لاكوينا مهدية يوغندا
بدا اسم أليس لاكوينا في اللمعان في أرض الأشولى (قولو وكيتقم) كمعالجة تقليدة، نصف ساحرة ونصف مصلحة دينية. كانت لاكوينا تدعي أنه قد حلت عليها روح (لاكوينا) خاصة برحالة إيطالي كان قد لقي حتفه عند منابع النيل أثناء الحرب العالمية الأولى وبمعاونته (من العالم الآخر) كانت تقوم بمداواة المرضى من الأشولى. ذاع صيت أليس لاكوينا بين الأشولى كمعالجة، ثم كرسول (لاكوينا تعني كذلك الرسولة). ثم تطور الأمر فعادت أليس تقول أنه قد حل فيها روح القدس ذاتها تتلقى منه مباشرة الأوامر والنصائح. وأنه قد أوكلت لها مهمة كبرى، ذات شقين. أولاً تطهر الأشولى من آثامهم وشرورهم بالقضاء على السحرة والمشعوذين وسطهم وأن تعمل على إسقاط حكومة يوري موسفيني. فتحولت لاكوينا إلى زعيمة سياسية ومن ثم إلى قائدة عسكرية. لقيت أليس لاكوينا تأييداً وانصياعاً عريضاً بين الأشولى فقد تميزت بشخصية جذابة طاغية وبالقدرة على التعامل المباشر مع المواطنين البسطاء فصدقوها وتبعوها كما سنرى حتى الموت.
لا يمكن فهم ظاهرة لاكوينا ومن بعد جوزيف كونى وما يعتقدون فيه من ارتباط بعالم الأرواح إلا بدراسة المعتقدات التقليدية عند الأشولى. فهم يؤمنون إيماناً راسخاً بتداخل على الأرواح والناس. وأن قاطني العالم الآخر لهم قدرة على النفاذ إلى عالمنا والتعامل مع "رسل" مختارين. ويمكن لهؤلاء الأشخاص "المقدسين" استخدام الأرواح للأغراض الطيبة أو الخبيثة. وما نريده أن نشدد عليه هنا هو عمق هذه المعتقدات عند الأشولى وكيف ينتهي عندها في كثير من الأحيان تفسير أساليب حياة وسلوك وتعامل الأشولى مع المجموعات الأخرى. وأنت تجد بين صفوة الأشولى اليوم من يعتقدون أن أليس لاكوينا كانت تملك قوى لا يمكن تفسيرها بمعاييرنا الطبيعية.
شرعت لاكوينا في تنفيذ ما طلب منها فباشرت مهمة تطهير الأشولى من شرورهم بقتل السحرة والمشعوذين والذين يستخدمون الأرواح لإيذاء الآخرين فرح ضحية تلك الحملة التطهيرية عدد لا باس به من الأشولى. إلا أن ذلك لم يؤد إلى ردة فعل شعبية ضدها، فالهدف النهائي كان نبيلاً ومقبولاً من الجميع. ثم لتنفيذ الهدف الثاني، إسقاط موسفيني، تحولت لاكوينا إلى قائدة عسكرية جمعت حولها جيشاً سمته "حركة الروح المقدس". ولقد أجمع كل من درس تلك الحركة على قدرة لاكوينا على التأثير على الناس وسحرهم بشخصيتها الطاغية المحبوبة وقدرتها على بعث روح الأمل في المستقبل بينهم وإيقاظها للقوى الكامنة فيهم. اقنعت لاكوينا تجمع المعارضة اليوغندية (UPDA) بمدها بالأسلحة وضم حركتها للتحالم المعارض.
أوقعت مليشيا لاكوينا هزائم محرجة بقوات موسفيني، جيش المقاومة الشعبية (NRA) فأثارت انتصاراتها حماساً لا مثيل له بين قبائل الشمال فتزايدت قواتها وتقدمت حتى أصبحت على بعد ستين ميلاً من العاصمة كمبالا. نشرت تعاليم لاكوينا بين المواطنين البسطاء قدراً من الهوس والخرافات عظيم. فكانت تقول لهم أن من يمسح جسده بالشحم المقدس، الذي تباركه لن يصيبه الرصاص، وأنه محرم عليهم اتخاذ سواتر لتقيهم من القذائف فعليهم أن يقاتلوا وقوفاً كما يطلب كونى اليوم من جنوده وأنهم إذا لم يبتعدوا عن الشجار والسكر والتدخين والسرقة فأنهم لا محالة ميتون في أرض المعركة. بدأت ظاهرة اختطاف المقاتلين مع لاكوينا، فقد كانت تبرر ذلك بأنها تفعل ذلك لمصلحتهم ولضمان خلاصهم، فإجبارهم على القتال في صفوفهم يعني تطهيرهم بأسلوب "سلمي".
في يناير 1987م. في جنجا واجهت قوات لاكوينا جيش موسفيني النظامي. ألوف المقاتلين محدودي التسليح إلا من تعاليم لاكوينا وشحمها المقدس وجدوا أنفسهم في مواجهة المدفعية الثقيلة والمدرعات والرشاشات فحصدتهم حصداً. يقول أحد المؤرخين أن معركة جنجا كانت مذبحة عظيمة لم يسقط في تاريخ الحرب الأفريقية عدد من القتلى كما حدث فيها. بعد الهزيمة الساحقة فرت أليس لاكوينا إلى كينيا ويقال أنها تعيش الآن هناك، وتشتت قواتها المهزومة وتراجع القادرون منهم شمالاً نحو وطن الأشولى، ومرة أخرى نحو الحدود السودانية للانضمام إلى أهلهم في السودان. طويت بعد هزيمة لاكوينا في جنجا صفحة لا مثيل لها في التاريخ الأفريقي، وأعدت الساحة لفرقة يوغندية أخرى امتداد شرعي لظاهرة لاكوينا.
إعادة حلول الروح المقدس، كوني وجيش الرب
بعد أن انقشع غبار معركة جنجا أعلن موسفيني عن سياسة جديدة تقوم على العفو عن المقاتلين، استيعاب بعضهم في القوات النظامية وإعادة المفصولين للخدمة العامة. واستجاب البعض من الأشولى لتلك السياسة وانتظم الآخرون في مجموعات متمردة ومعارضة في الشمال. إلا أنه بسبب الهزيمة العسكرية وإغراءات السلام والعفو انتهى تحالف جيش يوغندا الشعبي ببدايات 1989م، وشرعت كل مجموعة من مكوني ذلك التحالف في القتال منفردة. ولم يكن ذلك بالمستغرب فالتحالف لم يزد على كونه إطار عريض ضم عدد من المجموعات لم يجمع بينها إلا عداؤها لحكومة موسفيني.
من بين تلك المجموعات ظلت بقايا جماعة لاكوينا تقاتل في الشمال، وقد تزعم "حركة الروح المقدس" قريب شاب (عندها في العشرين من عمره) هو جيمس كوني. وكونى تربطه رابطة أسرية بأليس وقد كان مقرباً منها لدرجة كبيرة، وشريكها عند ممارسة العديد من الطقوس، كما كانت تتاح له الفرصة ليعظ المريدين إنابة عن لاكوينا، وكان الناس يلتفون حوله ولا يخفون إعجابهم بالواعظ الشاب. فعند فرارها أعلن كونى أن الروح المقدس قد انتقل إليه (بالحلول)، وأنه يتلقى الأوامر والتوجيهات مباشرة منه، ونقلها للإتباع الذين يتوقع منهم إلا إطاعتها طاعة عمياء وإلا حلت بهم الكوارث.
في هذه المرحلة من عمر جيش الرب تسبب في مضايقة حقيقية لحكومة وقوات يوسفيني وأصبح وجود المجموعة في أرض الأشولى (قولو وكيتقم) وجوداً ملموساً. قليلاً تحول الشمال لساحة حرب حقيقية وبحلول عام 1991م تصاعدت حدة عمليات جيش الرب الموجهة نحو المدنيين من الأشولى المتعاونين مع الحكومة والفاسدين وتصاعدت بدرجة كبيرة ومنفرة ظاهرة اختطاف أطفال الأشولى. عندها ارتكب نظام يوسفيني حماقة كبرى بشروعه في عملية عسكرية وأمنية ضخمة شملت مجمل مقاطعات شمال قواو وكبتقم وليرا واباك. تم خلالها اعتقال كل الشكوك فيهم وأبعد الناشطون في حقوق الإنسان وصودرت أجهزة الإرسال والسيارات ودفع المواطنون دفعاً لمعسكرات الحماية التي جمع فيها مئات الألوف من المواطنين دون أي استعدادات مسبقة ولا توفير للحاجات الضرورية. وبالرغم من انتشار قرابة الخمسة عشر ألف جندي بكامل معداتهم وتجهيزاتهم في المنطقة وعبور القوات اليوغندية الحدود السودانية فإن ذلك لم يقلل من حدة وقسوة عمليات جيش الرب. ولقد حاول نظام موسفيني الوصول إلى صيغة سلام في فترة سابقة (1991م) إلا أن كل التحضيرات انهارت بسبب عدم توفر الثقة وعمق الخلاف والبغضاء بين الطرفين. فقد اتهم كونى موسفيني بأنه خدع قواده وبدلاً عن أن يجلس معهم، أوقعهم في كمين أودى بحياتهم جميعاً.
مرة أخرى تحول الشمال اليوغندي إلى ساحة حرب بغيضة يروح كل يوم ضحيتها المدنيون من الأشولى ويهدم فيها ما تبقى من البنية التحتية وتخرب البيئة الطبيعية ويحل الجوع والمرض والخوف. فجيش الرب يحطم كل شيء من جهة والجيش اليوغندي يرتكب شتى ألوان الفظائع والجرائم ضد الإنسانية. وفي وسط كل هذا تتصاعد الظاهرة اللا إنسانية المتمثلة في اختطاف الأطفال وإجبارهم دون رحمة على المشاركة في القتال وخدمة أفراد جيش الرب المختطفون من الأشولى والمختطفين من الأشولى. وضع لن يأسى له يوري موسفيني البتة، فأعداؤه التقليديون هم أهل الشمال على رأسهم الأشولى. الأشولى الذين صاروا اليوم الضحية الأولى لأعمال المجموعة التي تدعي أنها تريد تحريرهم وإسقاط الحكومة التي تضطهدهم.
ظاهرة اختطاف الأطفال
تثير الجرائم المرتكبة ضد الأطفال دوياً هائلاً من الاحتجاج في كل العالم لأسباب بينة فالأطفال تحميهم كل الديانات والأعراف والتقاليد والمعتقدات عند كل شعب العالم، وهم في براءتهم وطهرهم دائماً تحت رحمة ومسئولية الكبار فإراداتهم الحرب مسلوبة ومعرفتهم ووعيهم محددان وقدرتهم البدنية تقصر عن مكافحة أي اعتداء كان. ولقد ترجم هذا الإجماع العالمي على ضرورة حماية ورعاية الأطفال في أدبيات قانونية وثقافية واجتماعية عديدة على مر العصور يجيء على رأسها اتفاقية حقوق الطفل التي وقعتها والتزمت بها كل دول العالم ما عدا دولة واحدة. فلم يكن مستغرق أن تثور ثائرة العالم كله من اليابان شرقاً إلى الولايات المتحدة غرباً في وجه مختطفي الأطفال ومعذبيهم. وأن تنشر عشرات المؤلفات والتقارير والأفلام والتحقيقات والبرامج بأنواعها متناولة ما يجري في شمال يوغندا مدينة وشاجية له.
ولنورد في اختصار هنا وصفاً لما يحدث واضعين في الاعتبار أن كل الروايات والشهادات والتحقيقات تجيء من مصدر واحد هو الأطفال المختطفين الذين تمكنوا من الفرار ومن أسرهم ومن المحققين العاملين في حماية حقوق الإنسان ومن المنظمات الدولية والمسئولين اليوغنديين. ولم يتمكن أي باحث من إيراد وجهة نظر أو رواية صادرة عن جيش الرب نفسه. إلا أن حجم الأدلة الواردة وتشابه الروايات والأدلة الأخرى المساندة تمنح هذه الروايات قدراً معقولاً من المصداقية. وعلى أية حال فالصورة الذهنية التي بنتها المادة الإعلامية والبحثية تصور جيش الرب أمام العالم في صورة مجموعة من الوحوش الذين لا تعرف الرحمة لقلوبهم سبيلاً. وكما جاء في صدر إحدى الدراسات فإن صورة جيش الرب اليوغندي لا تضارعها إلا صورة الخمير الحمر في زمانهم. وعلى هذه الصور وليس بالضرورة الحقائق تبنى في أغلب الأحيان القرارات والمواقف.
تتواتر الروايات على نسق سيناريو متشابه ففي أغلب الأحيان تتصيد مجموعات جيش الرب الصغار على أطراف القرى أو تهاجم الأسر في منازلهم ليل وتختطف الأطفال الذين يساقون وهم مغلولون على سلسلة واحدة تحت حراسة مشددة. ويظلون في حالة سير مستمر لفترات طويلة دون راحة أو طعام أو شراب متعرضين من آن لآخر لهجمات الجيش اليوغندي أو كمائن الجيش الشعبي لتحرير السودان المتحالفين مع اليوغنديين. يموت من يموت يجرح من يجرح ويواجه الناجون خيار التجنيد الإجباري في جيش الرب. نحن نتحدث هنا عن الأطفال بين عمري التاسعة والرابعة عشر في أغلب الأحيان، فتيان وفتيات. تقول الروايات أن من يحاول الهرب يقتل في حضور زملائه وهم يدعون للمشاركة في عملية قتله لغرس الرعب وفكرة المشاركة في الجريمة في نفوسهم وتكرار ذلك معهم حتى تنزع منهم كل مشاعر الإنسانية ويضحون بعد تدريبهم أدوات قتل فتاكة في يد من يسوسونهم وأنهم يدفعون لساحة القتال بعد فترة تدريب قصيرة يجدون أنفسهم في مهمات تتراوح بين مهاجمة وقتل ذويهم في أرض الأشولى ومواجهة جنود موسفيني أو الجيش الشعبي لتحرير السودان. في حلقة من القتال والسير المتواصل والجوع والعطش والإصابات في أحيان كثيرة يموت أطفال تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة والرابعة عشر.
ولقد تضمنت التقارير والروايات وشهادات الأطفال فظائع لا إنسانية ونظام للحياة والعمل فريد في نوعه لا يمت لتقاليد القبائل في يوغندا والسودان ولا الكنغو في شيء. فتنظيم جيش الرب يقوم على "الأسرة" التي يشرف عليها أو يمتلكها أحد القادة وهو الذي يحدد ما يفعله الأطفال ولا سبيل هنا للتردد أو المراجعة أو العصيان فالعقاب هنا يتراوح بين الضرب المبرح أو القتل. والفتيات يهدين دون إرادتهن كزوجات للقادة ولا اعتبار هنا للعمر أو الرغبة أو الحقوق. وقد يجمع القائد ما يزيد على العشرين من الزوجات وقد يبقين معه وقد يهديهن لمن يشاء. فانتشرت بينهن الأمراض الجنسية ومرض الإيدز.
تدور الكثير من الحروب في منطقة البحيرات، في أفريقيا الوسطى وفي القرن الأفريقي وفي أفريقيا الجنوبية، وترتكب العديد من الجرائم والفظائع إلا أنك تلاحظ من أول وهلة أن جيش الرب اليوغندي وجد قدراً من الاهتمام والتركيز بالإدانة وحث على الملاحقة كما لم تجد أي حركة أو مجموعة أخرى في أفريقيا وفي غيرها.
أهداف وبرامج جيش الرب (LRA)
بالرغم من مراجعتنا من المراجع والتقارير المتعلقة بجيش الرب إلا أننا لم نعثر في أي منها على ما يمكن وصفه بأنه برنامج أو ما ينبئ عن خلفية فلسفية أو أيدلوجية لحركة جوزيف كونى. وخلافاً لما ينقل عنه عن أحاديثه لمجنديه عن أن لحركته هدفان أساسيان هما إنقاذ وتطهير شعب الأشولى إسقاط حكومة موسفيني فأنت لن تجد ما يبين ما يعنيه بإنقاذ شعب الأشولى ولماذا يريد إسقاط حكومة موسفيني وأي بديل لها يريد؟ وأين يقف مع الديمقراطية أو حكومة "اللاحزب" كما يفعل موسفيني وما هو موقفه من المجموعات والحركات الأخرى المناهضة لموسفيني وموقفه من تنظيمات المجتمع المدني الناشئة وسط الأشولى. لا إجابة. وقد زاد في غموض وضع كونى وعزلته انغلاقه التام على نفس. فخلافاً للإذاعة الناطقة باسم حركته وهي إذاعة للدعاية والتطبيل، فهو لا يلتقي بالصحفيين ولا بأي ممثلين للعالم خارج عالمه هو. مما حدا بالدارسين في كل مكان والذين يدعون التحدث باسمه في الخارج لأن يطلقون التصريحات المتناقضة والآراء التي لا يسندها سند موثق. ولقد وصف بعض الباحثين حركته بأنها أصولية مسيحية على غرار أن نقول أصولية إسلامية. وهي بالطبع مزاوجة تعسفية بين المعتقدات التقليدية للأشولى والمذهب الكاثوليكي وهما بالطبع نظامان للاعتقاد بينهما بون شاسع، فكيف يمكن أن تلتقي عقائد تقوم على الاعتقاد في القوى الخفية للأرواح والسحر وما تدعو له المسيحية السمحاء.
تداخل نظامي النزاع السوداني اليوغندي:
ظلت منطقة التلاقي الحدودي السوداني اليوغندي منذ استقلال البلدين (السودان سابق بثمانية أعوام ليوغندا) بؤرة للصراع والنزاع الدموي الداخلي، الذي يمتد عبر الحدود للقطر الآخر. ولقد كان هنالك دائماً لاجئون يوغنديون في جنوب السودان كما كان هنالك دائماً لاجئون سودانيون في يوغندا. ولقد استخدم الطرفان في ظروف تاريخية مختلفة حق المطاردة الساخنة (الذي يكفله القانون الدولي) لتعقب متمردين هربوا للقطر الآخر. أعادت على ذلك التداخل القبلي بين البلدين وضعف البنية المدنية، والبيئة الاستوائية، وطول الحدود. ولقد رأينا كيف أن المجموعات المعارضة أو الحاكمة المهزومة والمطاردة في يوغندا لم يكن لها من محيض إلا أن تعبر الحدود الدولية إلى السودان. ولقد وجد المعارضون اليوغنديون دائماً من يؤازرهم ويدعمهم في السودان وكما وجد المعارضون السودانيون من يدعمهم في يوغندا. والحقيقة الماثلة أمامنا اليوم هي أن الحكومة اليوغندية تدعم وتستخدم الحركة الشعبية لتحرير السودان في نزاعها مع السودان. ويعامل السودان الحكومة اليوغندية بالمثل ويدعم المجموعات المعارضة لحكومة يوري موسفيني. يدور هذا كله دون السعي للشروع في تفكيك النزاع الداخلي في الدولتين على صورة كلية تضع في الاعتبار مساعي القطر الآخر لإحلال السلام. فإذا لم يحدث ذلك فإن حلقة تداخل نظم النزاع ستستمر لفترة طويلة ولن تعرف المناطق المجاورة طعماً للسلام ولا الاستقرار.
والنزاع المسلح وتداخله أمر عرفته المنطقة، وأن تلجأ القوات للقطر الآخر أو تتلقى الدعم منه هو أمر معروف كذلك. ولكن الجديد هو أن تنقل الممارسات اللا إنسانية والوحشية لنظام نزاع ما إلى القطر الملجأ. فحرب اليوغنديين وفظائعهم ووحشيتهم كانت تدور في يوغندا ولم يكن أحد ليفكر في لوم أو تجريم السودان في الجرائم الوحشية التي ارتكبها عيدي أمين أو جيش أبوتى أو حكومة يوري موسفيني فذلك شأنهم بين أهلهم في بلدهم ضمن نظام قيمهم وأخلاقياتهم وتقاليدهم العسكرية. لكن أن تنتقل تلك الممارسات إلى السودان، كأن يجر الأطفال على حمل السلاح والقتال، وأن يستخدموا في سخرة تفوق كل تصور، وأن توهب الفتيات الصغيرات كزوجات للقادة، داخل الحدود السودانية، فذلك هو ما لا يرضاه الدين ولا القانون ولا التقاليد ولا الأعراف السودانية. عندها واجب أن نفصل فصلاً لا جدال فيه بين العلاقات والضرورات السياسية والأمنية وبين الممارسات اللا إنسانية واللا أخلاقية. وربما كانت الكثير من المعلومات غائبة عنا حتى رأينا الثورة العارمة التي واجه بها المجتمع الدولي في إجماع مذهل تلك الممارسات وكيف أن دوائر كثيرة سعت لأن تزج باسم حكومة السودان كشريك فيها. ولقد سعت أيد كثيرة للربط بين اختطاف الأطفال بين القبائل في مناطق التماس وقضية اختطاف الأطفال اليوغنديين رغم اختلاف الأطر الاجتماعية والتاريخية لتصور تلك الظواهر وكأنها أمر واحد خارج من منبع واحد.
ولقد دفعت الضغوط المتواصلة من منظمات المجتمع المدني وعن الرأي العام مراكز اتخاذ القرار في عدد من الدول الغربية لاتخاذ موقف ما تفاوت من بلد لآخر. وبالطبع كلنا نعلم أن الحملة العارمة لتشويه صورة السودان وبالتالي معاقبته لم تتوقف وأن موقدي تلك النيران ينتظرون في القريب العاجل مواقف أكثر حدة ومباشرة من حكوماتهم.
ولا سبيل لمواجهة كل ذلك إلا بإتباع النهج العقلاني القويم القادر في عملية تبيان الحقائب وعلى اتخاذ المواقف التي تتناسق مع مبادئ العدالة والحق. ولنا مثال وأي مثال في المؤتمر الخاص بالتدارس حول مشكلة اختطاف الأطفال والنساء بين القبائل في مناطق التماس والنزاع في السودان والذي خاطبه السيد وزير العدل مبيناً في وضوح وشجاعة طبيعة المشكلة وموقف الحكومة منها. وكيف أن الحكومة لن تسمح بأي ممارسة غير قانونية ومتنافية للاتفاقيات الدولية التي التزمت بها الدولة وفصل في الحديث عن الأمر الوزاري الذي أصدره والخاص بتشكيل لجنة عليا تضم كافة الأطراف المعنية تكون مهمتها الأولى هي السعي لتحديد أمكنة هؤلاء الأطفال والتعرف على أهاليهم وأعادتهم لهم دون تأخير أو عائق. وأن يقف القانون بكل قوته خلف هذه العملية وفي مواجهة كل من يسعى لعرقلة هذه العملية التصحيحية. ودعا المنظمات الدولية والمنظمات غير الحكومية التي حضرت المؤتمر لتقديم العون للجمعيات الأهلية الفرعية القائمة بهذا العمل. في شفافية ووضوح تعرف العالم على موقف حكومة السودان وعلى سعيها ذلك وكانت الاستجابة الدولية الإيجابية الواسعة لتلك المبادرة المباشرة وكان المؤتمر وكأنه دلو ماء أريق على نار الفتنة.
خطوات إيجابية على طريق إنهاء ظاهرة اختطاف الأطفال اليوغنديين:
إن الصراع في يوغندا لم يبدأ في حقيقة الأمر في 1986م، بل هو أمر واقع ومستمر منذ الاستقلال. كذلك فحرب الجنوب في السودان اندلعت والبلاد مقبلة على إعلان استقلالها. ولقد أثمر السعي الصادق في يوغندا وفي السودان لتحقيق فترات سلام لم تحسن إدارتها، ولم يتحقق فيها النفاذ إلى المسببات الحقيقية والعميقة للنزاع ولا معالجتها بصورة مؤثرة فعادت الحرب مرة أخرى.
والآن يلوح على الأفق بصيص أمل. فالحكومة السودانية والجبهة الشعبية لتحرير السودان التزما باتخاذ سبيل الحوار والتفاوض لفض النزاع. والحكومة السودانية التزمت بموقف تفاوضي متقدم وتاريخي، أعلنت فيها أنها ستقف مع خيار أهل الجنوب في تقرير مصيرهم حتى وإن بلغ الأمر حد الانفصال. والحكومة اليوغندية بالرغم من أنها لا زالت تغلب خيار استخدام القوة لحل النزاع إلا أنها في مواجهة ضغوط محلية وعالمية عديدة أعلنت عن رغبتها في التفاوض مع المعارضة اليوغندية وعن إمكانية إعلان العفو عن المجموعات المتمردة.
ومعالجة موضوع الأطفال اليوغنديين المختطفين في السودان قد يكون بادرة عاقلة ومشجعة في سبيل تهيئة الأجواء لسيادة روح التفاهم والسلام. وهو بالتأكيد خطوة إنسانية تنطوي على معاني الرحمة والتكريم للطفولة، تؤدي إلى فك هؤلاء الصغار والصغيرات من إسارهم وعتقهم من قيد العنف والقتل والإيذاء. ولقد سجلت الحكومة السودانية مبادرات عديدة في طريق إيجاد حل لتلك المشكلة حالت دون أن يصل المسعى فيها إلى نهاية إيجابية أمران: أولاً: حساسية وتعقيد المشكلة بدرجة تتطلب قدراً عالياً من الترتيب والإقناع والثقة. ثانياً: عدم إبداء يوغندا لأي بادرة تعين مسيرة السلام في المنطقة واستمرارها في دعم الجيش الشعبي لتحرير السودان وفي استخدام القوة العمياء ضد المعارضين. رغماً عن ذلك فإن الحكومة السودانية قامت بالتالي:
أعلن السيد رئيس الجمهورية الفريق عمر حسن أحمد البشير وفي خطابه الموجه للاجتماع الوزاري للدول الأفريقية الخاص بقضايا اللاجئين والنازحين والعائدين الذي عقد في الخرطوم في 13 ديسمبر 1998م دعوة السودان للأفريقيين جميعاً لإدانة وشجب استغلال الأطفال في النزاعات المسلحة وحث الدول الأفريقية والجماعات المقاتلة على السعي للتعرف على الأطفال وتجميعهم وإعادتهم إلى ذويهم. كما نادى بأن يبقى الأطفال دائماً بعيداً عن ويلات الحروب.
أعلنت اليونسيف أمام الدورة الرابعة والأربعين للجنة الدولية لحقوق الإنسان أن حكومة السودان أوفت بالتزاماتها الدولية والقانونية وأنها قد عاونت على الأطفال المختطفين إلى أهليهم.
في الفترة من 14-17 يونيو 1998م قام السيد الممثل الخاص للسكرتير العام للأمم المتحدة المكلف من الأمين العام بقضية تأثير الحروب على الأطفال بزيارة السودان أعلن فيها ترحيب الأمم المتحدة بتعاون السودان في تسهيل عملية إيجاد ثلاثة أطفال يوغنديين إلى ذويهم. وطالب باستمرار التعاون في حل مشكلة الأطفال المختطفين بواسطة المتمردين اليوغنديين.
أعلن السيد وزير خارجية السودان د. مصطفى عثمان إسماعيل، للممثل الخاص للسكرتير العام موقف السودان الواضح من قضية تجنيد الأطفال في القوات المسلحة والقواعد التي تعمل بمقتضاها القوات النظامية في السودان. وحدد في صورة قاطعة موقف الحكومة السودانية الداعي للتعرف على الأطفال المختطفين الموجودين في السودان والعمل في شفافية وتعاون مفتوح مع المندوب الدائم لليونسيف في السودان لإعادتهم إلى يوغندا.
أعلنت حكومة السودان وفي مرات عديدة التزامها التام بتنفيذ تعهداتها باحترام الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل وكل المواثيق والاتفاقيات الأخرى الخاصة ورعاية الأطفال.
وكان السيد علي عثمان محمد طه وير الخارجية عندها هو أول من التقى بالممثل الخاص للسكرتير العام إبان فترة انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر 1997م في نيويورك وعبر له عن ترحيب السودان بزيارته وأبدى تفهماً لمهمته ووعد بتقديم العون لإنجاحها.
خلال زيارته الرسمية للسودان 14-19 يونيو 1998م ناقش الممثل الخاص للسكرتير العام للأمم المتحدة مشكلة الأطفال المختطفين في اجتماعات عقدت في الخرطوم وفي جوبا وأتيحت له فرص للقاء السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية ود. حسن عبد الله الترابي رئيس المجلس الوطني ود. رياك مشار نائب رئيس الجمهورية ورئيس مجلس تنسيق الولايات الجنوبية.
دعا الممثل الخاص للسكرتير العام للأمم المتحدة حكومة السودان لاستخدام ما في طاقتها من قدرة على التأثير على جيش الرب إيقاف عمليات اختطاف الأطفال. كما دعا لتقديم العون للبحث عن الأطفال خاصة مجموعة الفتيات (130) اللاتي تم اختطافهن في 10 أكتوبر 1996م بواسطة جيش الرب من مدرسة "ابوك" الثانوية الإرسالية الخاصة، كما عبر عن امتنان الأمم المتحدة على تعاون حكومة السودان ومساعدتها في إعادة 14 من الأطفال و3 من الشباب اليوغنديين المختطفين (فروا من جيش الرب وسلموا أنفسهم للسلطات في جوبا) وتيسير أمر إعادتهم بعون اليوسيف إلى أسرهم في يوغندا.
في 15 يونيو 1998م عند زيارة الممثل الخاص لجوبا، وبتعاون تام من الحكومة السودانية تمت إعادة اثنين من الأطفال من خلال اليونسيف إلى أسرهم في يوغندا.
في 30 سبتمبر 1998م وعند لقائهما في نيويورك عبر الممثل الخاص للسكرتير العام للأمم المتحدة للسيد وزير خارجية السودان د. مصطفى عثمان إسماعيل عن ضرورة تعاون حكومة السودان في عملية العثور على وإعادة الأطفال اليوغنديين المختطفين بواسطة الجماعات اليوغندية المسلحة وإعادتهم إلى السودان.
نرى مما سلفت الإشارة إليه تواتر المساعي الدولية وإلحاحها على معالجة قضية الأطفال اليوغنديين المختطفين في السودان كما نرى كيف أن حكومة السودان تحاول حصر الطاقة للتعاون في هذه المشكلة. ولقد بينت الحكومة السودانية في عديد من المرات أن عدم سيطرتها على الحدود اليوغندية السودانية يمثل عائقاً لوجستياً وأمنياً كبيراً في طريق مساعيها للمساعدة.
توصيات للمستقبل
إن المخرج من مشكلة اختطاف الأطفال يكون على صورته النهائية بإتباع منهج كلي وجامع لتحليل ومن ثم معالجة مسببات الحرب داخل السودان ويوغندا ويبين السودان ويوغندا. إن عملية اختطاف الأطفال اليوغنديين ما هي إلا مظهر أليم ووحشي آخر من مظاهر الحرب فتحقيق السلام في المنطقة وفض النزاع بصورة كاملة هو السبيل الأمثل لإطفاء النار كلها وشررها.
إن كل ما يتعلق بالأطفال لا يمكن تأجيله حتى نحقق الحلول الكاملة والنهائية فيجب أن تتواصل المساعي لإخراج الأطفال من أتون الدمار والموت. وعلينا السعي لفصل المشكل الإنساني الأخلاقي عن ذلك السياسي الأمني.
على الحكومة السودانية أن تعلن موقفها المبدئي الرافض للزج بالأطفال في نيران المعارك في كل ما يتعلق بالحرب. وأن تعيد ترداد ما أعلنته من التزام راسخ بتنفيذ القوانين المحلية والتمسك بالقيم والأعراف السودانية المرعية والتزام واحترام للقوانين والمواثيق الدولية الضامنة لحقوق الإنسان وحقوق الطفل خاصة الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل.
السعي لتكوين فريق عمل تناط به مهمة وضع تقرير يبين الأوضاع الحالية للأطفال اليوغنديين المختطفين في السودان وإعداد معلومات تفصيلية ما أمكن ذلك عن أعدادهم وأماكن تواجدهم سواء أكانوا في صورة جيش الرب اليوغندي أو فارين في إحدى مدن الجنوب والعمل بتكليف مباشر على إعادتهم إلى يوغندا. وعدت اليونسيف بتحمل كافة النفقات المادية المتعلقة بكل هذه العمليات كما وعدت بضمان سلامتهم والتأكد من لم شملهم مع أسرهم.
تشجيع كل ما من شأنه تحسين العلاقات مع يوغندا وإبداء الرغبة في مساعدتها على حل مشاكلها بالتوسط أو إتاحة ملاذ لقائها بممثلين للحركات المسلحة والمعارضة العاملة ضدها. وإطلاق مبادرة لا لبس فيها تنقل الرغبة في السلام والعون.
دعوة يوغندا لتقديم يد العون في دفع عملية السلام السودانية بأي صورة أو سبيل تشاء.
تشجيع كافة المبادرات التي تفتح طريق السلام والتعاون كزيارة وفد البرلمانيين السودانيين ليوغندا. والعمل على أن يصطحبوا في رفقتهم بعض الأطفال المعادين.
دعوة اليونسيف لتقديم عون عاجل للأطفال المرضى والفتيات الحوامل والرضع في معسكرات كونى. وتقديم العون للجرحى والمرضى والمعوقين.
تشجيع كونى وجيش الرب على تطوير أجنده سياسية وعلى الاتصال بالحركات المعارضة الأخرى وبالاستجابة لأي مبادرة سلام أو تفاوض تأتي من الجانب الآخر.
تشجيع جيش الرب للخروج من عزلته وإتاحة الفرصة للصحفيين السودانيين والأجانب وللمنظمات المعنية للتعرف بهم ومحاورتهم.
التأكيد في كل المحافل الدولية على مواقف السودان المبدئية وحفز الإعلام السوداني والإعلام الأجنبي والعربي والأفريقي الصديق على تبيان وجهة نظر السودان وموقفه.
إطلاع منظمة الوحدة الإفريقية والإيقاد والجامعة العربية على كافة الخطوات المتعلقة بمعالجة مشكلة الأطفال اليوغنديين المختطفين.
المراجع
1. الطيب حاج عطية: ثقافة السلام والنزاع في القرن الإفريقي مؤتمر القرن الإفريقي، معهد الدراسات الأفريقية والآسيوية جامعة الخرطوم 1992م، الخرطوم.
2. Thomas P, Ofcansky, Uganda Tranished Pearl of Africa (Boulder West view press) 1996.
3. A.B. Kosozi, The Social Origins of Violence In Uganda 1964-1985 (MontrealMc Gill – Queen) U.P. 1987.
4. AmiiOmara – Otunmu, Politics and the Military in Uganda 1980-1988, London, Macmillan, 1987.
5. Hanson and Twaddle, Changing Uganda, James Curry, London, 1991.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.