شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    شاهد بالفيديو.. خلال إحتفالية بمناسبة زواجها.. الفنانة مروة الدولية تغني وسط صديقاتها وتتفاعل بشكل هستيري رداً على تعليقات الجمهور بأن زوجها يصغرها سناً (ناس الفيس مالهم ديل حرقهم)    مناوي: أهل دارفور يستعدون لتحرير الإقليم بأكمله وليس الفاشر فقط    آمال ليفربول في اللقب تتضاءل عند محطة وست هام    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    شاهد بالفيديو.. في أول حفل لها بعد عقد قرانها.. الفنانة مروة الدولية تغني لزوجها الضابط وتتغزل فيه: (منو ما بنجأ ضابط شايل الطبنجة)    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    محمد وداعة يكتب: المسيرات .. حرب دعائية    إسقاط مسيرتين فوق سماء مدينة مروي    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    الدكتور حسن الترابي .. زوايا وأبعاد    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    هل فشل مشروع السوباط..!؟    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إيديولوجيا الدولة ... عنف السلطة .. بقلم: أمير بابكر عبدالله
نشر في سودانيل يوم 25 - 11 - 2009


Amir Saad [[email protected]]
ملحوظة: هذا المقال كتب قبل ثلاث سنوات وحالت دون نشره في الصحف الرقابة القبلية عدة مرات، ونشر قبلاً في موقع سودانيزأونلاين وها أنا أنتهز هذه الفرصة لنشره ليأتي مقروءاً مع الخبر الذي نشرته الرأي العام وسودانايل قبل يومين لما فيه من قراءة تفسر العديد من مشاهد الموقف السياسي الراهن. والخبر كما جاء "أكد الفريق عبد الرحيم محمد حسين وزير الدفاع، أن الدفاع الشعبي سيدعم الانقاذ والرئيس عمر البشير في الانتخابات المقبلة. وأضاف وزير الدفاع في احتفالات الدفاع الشعبي بالعيد ال (12) في ولاية النيل الأبيض أمس، سنستعين بتلك القوات فى مرحلة التسجيل والتنظيم للانتخابات، وأشار إلى أنها جزء أصيل لا يتجزأ من القوات المسلحة، وزاد: واهم من يظن ان دور الدفاع الشعبي انتهى، وأضاف أنه بدأ وأصبح أكبر مما كان في زمن الجهاد والقتال.وفي السياق قال الفريق أول صلاح عبد الله قوش، إن الدفاع الشعبي مؤسسة خالصة للانقاذ وستعمل مع مؤسساته لدعمها ولتأكيد التحول الديمقراطي. وأضاف للصحافيين على هامش الاحتفالات أمس، أن تلك القوات أصبحت رمزاً لجمر القضية التى قال، يجب التمسك به.من جانبه قال د. أحمد بلال مستشار رئيس الجمهورية، إن الذين يرتجفون من الانتخابات وينادون بالتحول الديمقراطي عليهم الاحتكام للشعب. وأضاف أن الدفاع الشعبي سيحمي من يفوز في الانتخابات، وقال إنه لا يدافع عن نظام أو اشخاص، بل عن السودان.وقال عبد الله الجيلي المنسق العام للدفاع الشعبي، إن من واجبات قواته حماية الانتخابات وتقديم خيار الشعب الحر والنزيه وحماية مكتسبات الامة. ودعا المجاهدين الاستعداد لمعركة التنمية والاستقرار."
"ومتى استطاع العنف أن يحقق شيئاً آخر سوى الدمار. تحسبون أنكم إذا كشرتم عن نيوبكم، تصبح الأرض جنة. لكن أقول لكم: بهذا لا تبنى الجنة، بل تعم الفوضى."
جان دارك قديسة المسالخ
مسرحية لبرتولد بريخت
روى لي صديقي العزيز محمد حب الدين، أن (مختلاً عقلياً) في مدينة ما بالسودان يسير في طرقات سوقها بصورة يومية، وهو يرفع يديه إلى السماء داعياً: "يا رب غِنى"، ثم يميل برأسه على كتفه اليمنى ليسمع ما سيقوله المَلَك، يرفع رأسه ويقول بصوت عالٍ لمن حوله: "ماااااافي غِنى". ويسير قليلاً ليرفع يديه بالدعاء مرة أخرى: "يارب موت"، ثم يميل على كتفه اليسرى ليسمع رأي الملك على اليسار، ويعيد ذات المشهد الأول ليخاطب من حوله بصوت مرتفع: "مااااااافي موت"، ثم يقف في منتصف الطريق ليصيح بأعلى صوته: "طيب في شنو يا ربنا!" ويصيخ السمع لأعلى، ليعود إلى الأرض وهو يمشي في خطوات عسكرية والنظر (الساعة اتناشر)، مخاطباً نفسه بصوت مسموع للجميع "تِتلتلوا وتتعذبوا .. تتلتلوا وتتعذبوا .. تتلتلوا و..." ويواصل السير في الطريق الممتدة وسط السوق إلى أن يغيب.
لن أدعكم "تتلتلوا وتتعذبوا" معي، ولكن هل استطاعت الانقاذ أن تؤدلج الدولة؟ أسأل نفسي فقط ولن أميل إلى أي من الكتفين على الأقل الآن.
إذا كانت الأيدلوجيا لا تتكون من منظومة الأفكار والتصورات فحسب، بل تنصب على سلسلة من الممارسات المادية والأعراف والعادات وأسلوب الحياة، وتختلط كالأسمنت، مع بنية مجموع الممارسات الاجتماعية، بما فيها الممارسات السياسية والاقتصادية. حسبما يقول نيكولاس بولانتزاس في كتابه نظرية الدولة، فقد استطاعت الإنقاذ أن تؤدلج الدولة بما يضمن لها السطوة والاستمرار -طوال الفترة الماضية- ولفترة أطول، وأخشى من لعبة الرقمين 1 و 6 وقراءة الودَّاعية للمستقبل (أتمسك بكذب المنجمون ولو صدقوا).
لنأخذ الأجهزة الأيدلوجية للدولة أو بنية الدولة المفروض فيها خدمة أهداف عامة تعود بالفائدة، في خاتمة مطافها، للجميع وليس لفئة محددة أو شريحة معينة. وإذا كانت هذه الأجهزة متمثلة في الخدمة المدنية كجهاز قومي وأحد الدعائم المكونة لبنية الدولة المنوط به تسيير دولابها، وكذا المؤسسة التعليمية والجهاز الإعلامي والجهاز الثقافي ثم المؤسسة الدينية، فإنها جميعاً ظلت تتشكل داخل رحم ورحمة إيدولوجيا الإنقاذ وسلطتها، والتي صارت مظهراً عاماً لأيديولوجيا الدولة في السودان منذ انقلاب يونيو 89م. أي شخص لا يعرف أبجديات السياسة ولا أصول العلوم السياسية يعلم ذلك بداهة من خلال التجربة، فهو إن لم يطله التشريد والفصل التعسفي فقد طاله سوط البطالة، وإن لم يهاجر فقد وقع تحت نيران الفقر، وإن لم تؤثر فيه المناهج التعليمية فلم يسلم من حصار الجهاز الإعلامي والثقافي.
ولحراسة هذه الأجهزة، وبالتالي تمكين الأيديولوجيا، لابد من تنظيم الأجهزة المكلفة بحراستها وممارسة العنف الفيزيائي الشرعي، والمتمثلة في الجيش والأمن والشرطة والقضاء والسجون، إضافة للأجهزة (الشعبية) التي صنعتها خارج الإطار الرسمي لأجهزة الدولة (الدفاع الشعبي، الشرطة الشعبية).
وهي -أي دولة الإنقاذ- لا تستطيع إعادة انتاج وتوطيد السيطرة السياسية بالقمع والعنف لوحدهما، لذلك تستعين بالدين غلافاً لأيديولوجيتها وتلوين الأجهزة المختلفة المكونة لبنية الدولة بذلك، لإضفاء الشرعية على العنف. وفي سبيل ذلك جاء مخططها متكاملاً، حتى قبل استيلائها على السلطة، وهي تعلم المفاصل الواجب السيطرة عليها وكيفية تغذيتها حتى لا ينقطع ماؤها فتتهاوى دعائمها.
نحن أمام دولة مؤسسة على أيدلوجيا أحادية لتحقيق مصالحها، يحرسها العنف من خلال أجهزة رسمية وغير رسمية، وبقوانين تحكم عملها فصلها (ترزي قانوني) وحدد علاقتها بأجهزة الدولة الأخرى. الكل يعلم.
إذاً هو استلاب كامل قد حدث لكل مقومات الدولة القومية التي تتيح مؤسساتها استيعاب الآخر، سياسة وثقافة وتنمية، ويحرم أي تلاقح يفرخ رؤى مغايرة تحدث شرح في الجدار الأيدلوجي الأسمنتي الذي صبته الانقاذ بواسطة خيرة مهندسيها. ولأنهم خيرة مهندسيها، لم يتركوا الجدار يقوم على قوائم صلبة فقط، بل وضعوا مصدات تمنع بلوغ قشرة ذلك الجدار، ترسانة من القوانين المقيدة للحريات، أجهزة تنفذ تلك القوانين (كلُّوا بالقانون)، ولكن أي قانون؟.
هل يعتقد أحد ما أن (الإنقاذ) لم تضع في اعتبارها، وهي تصوغ أيدلوجيتها وتعيد تركيب أجهزة الدولة –بعد السيطرة عليها- بناءً عليها، الحراك الجماهيري والمؤسسات السياسية التي يمكن عبرها أن تتم المقاومة؟ أنا شخصياً لا أعتقد ذلك، فهي صاغت قوانينها ودساتيرها لتحكم وتتحكم في تلك الجماهير من أجل خدمة مصالحها فقط، بالتالي فهي تحسب حسابها في كل خطواتها. لذلك فإن العنف الذي تمارسه هو عنف ضد الجسد وضد العقل، والجسد ليس مجرد عنصر طبيعي بيولوجي، بل هو مؤسسة سياسية مثلما العقل كذلك، ولا غرابة في "اتباعها الاسلوب الفرانكوي (نسبة لفرانكو ديكتاتور اسبانيا)، "الصدمة الفجائية" وذلك باستخدام "العنف بمقدار" ترهيباً، و"الإغراء بإسراف" ترغيباً، وهو المنهج الذي استمر لعدة سنوات بعد الانقلاب. كما جاء في كتاب الأستاذ فتحي الضو "السودان سقوط الأقنعة". فالترهيب والترغيب شكلان من أشكال العنف يهدفان في النهاية إلى السيطرة.
القضية ليست وليدة اللحظة ولا وليدة انقلاب (الانقاذ)، وهو الأمر الذي فطن له المجتمعون في أمبو الأثيوبية في فبراير 89م. وقبلهم تنادت الجماهير إلى التصدي لها بأشكال وآليات مختلفة بعضها نجح مؤقتاً، لعدم تبني الأنظمة السابقة لمفهوم أدلجة الدولة بالكامل واعتمادها على عنف السلطة بشكل أكبر، واعتمدت على إعادة انتاج وتوطيد السيطرة السياسية بالقمع والعنف لوحدهما دون إجراءات منهجية تضبط أيقاع الدولة والسلطة، وانتكس هذا النجاح بفعل اختلال موازين القوى وتمركز أجهزة القمع في أيدي النخب الحاكمة. وفشل في أحايين كثيرة لغياب الرؤى الواضحة التي تحدد مآلاته.
الذي توصل إليه المجتمعون في (أمبو) –أرجو ملاحظة أن ندوة أمبو عقدت إبان الديمقراطية الثالثة- يمثل خلاصة ما ترمي إليه تلك النضالات برغم أن الإطار الذي وضع داخله كان ضيقاً، فقد توصلت الندوة التي سبقت انقلاب (الإنقاذ) بأشهر قليلة، إلى أن فترة ما بعد الاستقلال اتسمت الدولة والسياسة والثقافة بسمات منها ما يلي:
1. اشتداد الطبيعة القمعية للدولة سواء أكانت عسكرية أو مدنية.
2. استمرت الطبقات الحاكمة في استغلال الدين لأغراض السياسة والهيمنة الثقافية وهو أمر انتهى بالدعوة الإسلامية الأصولية.
كما توصل المجتمعون إلى أسباب فشل الجهود الجماهيرية الشجاعة في تحقيق هدف الوصول إلى السلطة، منها:
1. غياب قيادة سياسية قادرة على توجيه الجماهير سياسياً توجيهاً ملائماً.
2. عدم وجود برنامج موحد للقوى الوطنية الديمقراطية يحدد أهدافها المشتركة ويوضح وسائل تحقيقها.
3. عدم وجود دعم مسلح منظم مناسب في تلك اللحظات الحرجة يتماشى مع هدف الوصول إلى السلطة السياسية.
وهم توصلوا –في إطار قضايا البناء الوطني وبنية السلطة- إلى حقيقة مفتاحية، وهي "أن السودان لم يتشكل تاريخياً كأمة، وهو بلد متعدد القوميات والثقافات، لذا لا يحق لأي قومية من القوميات السودانية –أياً كان حجمها- أن تفرض هويتها على القوميات الأخرى."
إذاً هناك هوية وهيكل لدولة مهيأة أصلاً لحقنها بمزيج إيديولوجيا (الإنقاذ)، وهي ساهمت في تشكله إلى حد كبير عبر تطور الدولة السودانية ما بعد الاستقلال، أثناء كمونها وتكونها وانتشارها بتوسيع رقعة العباءة الدينية التي تكسو كعبة الدولة، وعينها على تمكين نفسها مالياً وعين أخرى على السلطة الساعية لبلوغها بشتى السبل.
في مقابل ذلك هناك قوى جماهيرية كانت ترى ذلك، ولكنها لا تقوى على فعل شيء في إعادة تشكيل وبناء الدولة بما يحقق تمتع الجميع بحقوقهم فيها، على مستويات الحقوق المختلفة، في ظل غياب تلك القيادة السياسية القادرة على توجيه الجماهير توجيهاً سياسياً ملائماً، وكذا غياب ذلك البرنامج الواضح الذي يمكن تعبئة الجماهير خلف أهدافه.
من بنية السلطة إلى بنية المعارضة
مشهد عام
السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة القضائية؛ تلك هي السلطات التي تحدد كيفية ضبط وإدارة دفة الدولة وتصدر من اللوائح والقوانين والدساتير ما يحكم العلاقة بين أجهزة الدولة المختلفة والسلطة وما يحكم العلاقة بين المواطن والدولة والسلطة.
بقراءة عامة لكيفية تشكل هذه السلطات عبر مسيرة الدولة والسلطة ما بعد الاستقلال وما قبل (الانقاذ)، نلمح أنها إما خاضعة لقواعد ممارسة ديمقراطية تعتريها كثير من السلبيات مما يجعلها مشوهة في كثير من مناحيها، ومثال واحد لذلك ما يقول الاستاذ محمد إبراهيم دريج في مداولات ندوة برجن –فبراير 1989م- "إن معظم الناخبين الذين أتوا بحزب الأمة إلى السلطة هم يمثلون الغرب، ولكن مع ذلك فالوزراء الذين يأتي بهم حزب الأمة هم من النوبيين وليس من دارفور، إن من ترشحه القيادة الدينية للحزب يتم انتخابه، حتى ولو كان هناك مرشح من المنطقة نفسها، ومن القبيلة، التي ستصوت للشخص الذي تأتي به القيادة بسبب الانتماءات الدينية". ويبرز موريس ديفرجيه موضوعاً مهماً في كتابه الأحزاب السياسية، سنعود إليه في موضع لاحق، إذ يقول "تتعلق درجة فصل السلطات بنظام الأحزاب أكثر مما تتعلق بالأحكام التي تنص عليها الدساتير"
أو هي تتشكل مع إيقاع المارشات العسكرية، حيث لا حدود تفصل بين التشريع والتنفيذ والقضاء. ثم يخفت صوت المارشات رويداً رويداً في عملية مونتاج تبدأ بذلك ال fade، لتتداخل إيقاعات مختلفة تطل من خلالها رقصة الحزب الواحد، والرئيس الواحد وفي الأزمات تختلط الأمور ليصبح الأمر جيش واحد .. شعب واحد. ويتأرجح البهلوان ذات اليمين وذات اليسار، أيهما تمنحه القرعة ضربة البداية. وتبقى نشوة الاستيلاء على السلطة والسيطرة عليها بلا توجه محدد، أو لنقل بتوجه يحاول استدعاء الجماهير إلى صفها من أجل المحافظة على استمرارها. ويبدل الجنرال بذته العسكرية المرصعة بالنجوم بعد أن يرقي نفسه، يبدلها مرة بالجلابية أو أي زي محلي آخر وأخرى ببدلة أفرنجية أنيقة، ويعيد بذته العسكرية سيرتها الأولى كل ما ضاقت واشتدت الخطوب والإحن.
في كلتا الحالتين لم يهتم راكبو حصان السلطة بإحداث تغييرات دراماتيكية حادة في بنية الدولة، بقدر اهتمامهم بالمحافظة على السلطة واعتمادهم –كما قلنا سابقاً- على إعادة انتاج وتوطيد السيطرة السياسية بالقمع والعنف لوحدهما.
استفادت الجماهير ومؤسسات العمل المعارض تماماً من تلك الأرض الحرام في معاركها مع السلطة برغم العنف، والأرض الحرام هنا هي تلك المساحة ما بين السيطرة السياسية بالقمع والعنف لوحدهما والسيطرة الأيديولوجية على بنية الدولة.
في ظل الحالة الأولى، فورة الخروج من دائرة الدولة المستعمرة يلقي بتداعياته على المشهد السياسي عموماً، وحماس المؤسسات الحزبية يلتقي في أعلى درجات رسمه البياني مع درجة حماس الجماهير المفعمة بتلكم الروح الوطنية التي قادت في خاتمة المطاف إلى الاستقلال. يقول د. محمد سعيد القدال في كتابه (تاريخ السودان الحديث) "تفاقمت أزمة الإدارة البريطانية في السودان عام 1952. فقد أصبحت في عزلة، ولم تعد الجمعية التشريعية ذات وزن، كما واجهت حركة شعبية متصاعدة خصوصاً بعد أن بدأ المزارعون يتحركون نحو تنظيم أنفسهم".
بدا المشهد المعارض في ظل الحكومات الأولى –ما بعد الاستقلال- حيوياً، لقابلية ورغبة الجماهير في الحشد والتعبئة وتطلعها إلى المشاركة الفعلية في العملية السياسية. ولكن خاب أملها في رموزها وهي ترى نوع الصراعات التي يخوضونها باسمها، في البرلمانات سواء من الاحزاب الحاكمة أو التي تمثل المعارضة، فالأولى تدير الأمور لصالح بقائها في السلطة والأخرى تديرها لصالح بلوغها، دون الالتفات لإدارة التنمية وتحقيق الاستقرار. يكتب العميد عصام الدين ميرغني في (الجيش السوداني والسياسة) "تجاذبت السودان صراعات الأحزاب السياسية الحاكمة في تغليب مصالحها الذاتية، وبغياب كامل لتطبيق استراتيجية قومية يصطف خلفها كل الوطن لتحقيق التنمية والاستقرار الدائم. بدأت ظاهرة الانقسامات الداخلية في الأحزاب، وظاهرة التصدي النقابي المطلبي – السياسي، وكلاهما معاول هدم في نظام ديمقراطي غير متماسك."
وفي ظل الحالة الثانية، راهن أصحاب القبعات الخضراء على هشاشة النظام الديمقراطي الذي أفرز حكومات كسيحة، كما راهنوا على انحسار التأييد الجماهيري لها أو لمعارضيها وهم ينفذون مخططاتهم للاستيلاء على السلطة. وبرغم أنهم استولوا على السلطة بدعم ومساندة أحزاب هي جزء من إفرازات ذلك النظام الديمقراطي الهش، إلاَّ أنهم لم يخروجوا من دائرة السيطرة السياسية على السلطة ومتطلبات ذلك، فيما ظلت بنية الدولة كما هي أو دهنت بطلاء خفيف لا يغير من جوهر الأمور شيئاً.
وحيث لا جديد في الأمر، تستعيد الأحزاب السياسية المتضررة –من استيلاء أصحاب القبعات الخضراء- أنفاسها، لتبدأ في تشكيل تحالفاتها ضد ما هو قائم. وأول ما تبدأ به هو مخاطبة الجماهير ثم الحديث باسم الجماهير، والجماهير تنظر بعين الريبة والشك وهي المكتوية بنيران كل الأنظمة. رغم ذلك تتغلغل المؤسسة السياسية في مواعين العمل الجماهيري من نقابات واتحادات، وفي إطار الصراع العام ضد النظام القائم –أياً كان- تصطرع فيما بينها للفوز بغنيمة المستقبل، وفي غمرة ذلك تنسى قضايا الجماهير الأساسية. ويزداد الخناق على الجماهير إلى أن ينفجر غضبها المتراكم وهي تنظر تحت أقدامها وأمامها، فيما المتأنقون فكرياً وسياسياً ينظرون إلى الثمرة أعلى الشجرة وقد حان قطافها والكل توَّاق لقطفها.
للمعارضة بنيتها، وهي بنية مهتزة هياكلها ومتباينة رؤاها، لذلك ظلت بنية قائمة على رد الفعل في مستواها العملي ومتأثرة بذلك الاهتزاز والتباين، أكثر منها بنية قادرة على التغيير الحقيقي على مستوى الدولة والسلطة. ويمكن النظر لهذه المسألة من زاويتين، قمع السلطة ومحاولاتها طمس أي معالم للمعارضة، وعجز المعارضة عن وضع برامج تؤسس لدولة قادرة على النهوض بنفسها وسلطة قادرة على قيادتها إلى ذلك. وعندما أقول عجز المعارضة فأعني إنها تقف عاجزة عن الفعل الإيجابي تجاه القضايا الوطنية الكبرى حتى عندما تمكنها الظروف من بلوغ السلطة، لأنها أصلاً مفتقرة لرؤية واضحة لإيجاد حلول مرضية لتلك القضايا، أو لنقل إنها تعالجها وفق ما يحقق لها مصالحها الحزبية لأنها ليست "لديها عين النسر" كما يقول القاص د. بشرى الفاضل، فهي لا تنظر أبعد من مستوى خطوتها الآنية.
ظل الصراع محصوراً في كيفية الوصول إلى الحكم، وفي ظل غياب تصور متكامل لكيفية إدارة السلطة لأجهزة الدولة لتحقيق الاستقرار وبرامج التنمية. وهو قصور طبيعي إذا دققنا النظر إلى داخل بنية المعارضة أو حتى السلطة.
تركيبة المعارضة ظلت غريبة سوى على مستوى الحكم المدني أو العسكري، لذلك من السهل تفكيكها والنفاذ إلى قراءة التفاعلات داخلها.
لنأخذ هذا المشهد .. برلمان 1986م.. المعارضة (الإسلامية) .. المعارضة (الديمقراطية) في برلمان واحد. ليس هناك ما يجمع بينهما سوى معارضتهما للسلطة القائمة، كلاهما يعارض من أرضية مختلفة تماماً.
ثم هذا المشهد .. المعارضة الإسلامية تتحول إلى جانب الكتلة الحاكمة بعد تعديلات إئتلافية ليتغير منظر عام المعارضة.
ومشهد ثالث .. تتحول المعارضة الديمقراطية إلى صف الحكومة (السلطة) وتعود الكتلة الإسلامية إلى موقعها في المعارضة.
هذه المشاهد مكررة ولكن ليس برلمانياً، وإنما تعبير عن تحولات حزبية نفعية استفادت منها السلطة في فترة الحكم المايوي مع اختلافات في الترتيب الزمني، نذكر كيف بدأ الحكم المايوي وإلى أين انتهى.
ولا استثني من ذلك حتى المعارضة المسلحة في الجنوب –ما قبل الانقاذ- وقد اتفقت مع نظام مايو بعد ثلاثة أعوام من نجاح انقلابها وحتى العام 1983م الذي انطلق فيه الكفاح المسلح مرة أخرى. وكذا ما أفرزه اتفاق نيفاشا مؤخراً بعد حرب طويلة الأمد، لم يتعد إطار المحافظة على بنية الدولة لتخدم مصالح الأطراف الموقعة عليه.
ظلت المعارضة تمارس فعالياتها في عدة حلبات وهي تصارع السلطة من أجل السلطة، وظل ميدانها الرئيسي أثناء فترات الحكم (الديمقراطي) هو البرلمان. والوصول للبرلمان اتخذ طرقاً متعرجة لا علاقة لها بالنهج الديمقراطي خاصة بالنسبة للأحزاب التي تداولت السلطة، وهي أحزاب هشة ديمقراطياً، تفتقر إلى ديمقراطية صنع واتخاذ القرار داخلها لأنه لا بنيتها التنظيمية ولا الفكرية تحتمل ذلك النهج.
ولكن ماذا فعلت (الإنقاذ)؟؟
عدة أشياء، أهمها استفادتها القصوى من النهج الاقصائي للحزب الشمولي وبنيته التنظيمية، ومن المفهوم الحزبي الغربي (بالتحديد الأمريكي) ونهجه البراغماتي و"أن غاية أي حزب هي بلوغ السلطة أولاً". وإذا كانت في أمريكا تتحكم اللعبة الديمقراطية ومؤسساتها الراسخة في بلوغ حزب ما السلطة بعد إقناع الناخبين ببرامجه المقترحة لحل القضايا على كافة مستوياتها، فإنها ليست شرطاً ضرورياً في بلدان العالم الثالث والسودان أولها.
ولكنها ذهبت إلى أبعد من ذلك كثيراً، أو كما يكتب د. منصور خالد في كتابه السودان أهوال الحرب وطموحات السلام "الجبهة، من الجانب الآخر، لها مشروعها الخاص لإعادة تشكيل السودان، لم تفاوض في أمره أحداً في بداهة الأمور، ولم تتوافق بشأنه مع جماعة في أعجازها. هي وحدها العليم بما ينفع أهل السودان في عالم الغيب والشهادة، وما على السودانيين إلا الطاعة والاحتذاء".
الجنوب .. الأيدولوجيا والعنف
كعب أخيلها، الذي ظلت تخشاه (الانقاذ)، هو الجنوب. والجنوب ليس كحركة مقاومة مسلحة -موجودة على الأرض- فقط، بل الجنوب كجغرافية إثنية وثقافية ودينية –تعمل على اختراقها- في المقام الأول. جغرافية أكثر حدة داخل خريطة السودان، التي تشتهي (الإنقاذ) رسمها من جديد، يمكنها إحداث شروخ في جدار تلك الأيدولوجيا التي لا تحتمل التعدد والتنوع.
ولكن الأهم من كل ذلك هو تلك الغدد التي تفرز لعاب يسيل لمجرد رؤيته للدنانير، ناهيك عن ثروة بحجم توقعات واكتشافات البترول والجنوب مسرح أساسي لذلك. هنا مربط الفرس؛ التحكم في مفاصل الدولة بالضرورة يعني التحكم في تروس انتاج البترول، الذي هو (كومين) ممنوع على الآخرين الاقتراب والتصوير، وبقية مصادر الدخل القومي الأخرى (نصف كوم).
العقلية السائدة هنا عقلية المضاربات ذات العائد السريع (المحسوس الملموس)، ولا يهم مردودها الاقتصادي المستقبلي ولا ما يمكن أن تحدثه من تأثيرات وتحولات اقتصادو-اجتماعية. فهي تستخدم الدين من أجل السيطرة على المال أكثر منه (أي الدين) إدارةً للحياة بمختلف جوانبها، بما فيها المال ليعود نفعه على الجميع تنميةً وازدهاراً. هذا هو المكون الأول لمجموع تصوراتها وأفكارها ومشكِّل جوهري لقيمها، فالمال غاية عندها.
إذاً الجنوب في إيديولوجيا (الانقاذ) محور ذو أبعاد لابد من التعامل معها على عدة مستويات. المستوى الاقتصادي ويأتي في المقام الأول. وهو مستوى ليس معني به تنمية ولا توازناً، وإنما استغلال لموارد متاحة بأقل خسائر ممكنة (الخسائر البشرية ليست ضمن الخسائر المحسوبة). ولكن لابد أن تسبق ذلك خطوات سياسية تعزز مواطن السيطرة على مفاتيحه.
يبقى استمرار الحرب (العنف).. أول تلك الخطوات السياسية، وفي ذات الوقت تمثل الحرب بعداً آخراً من محور الجنوب في إيديولوجيا (الانقاذ). تخدم الحرب (العنف) عدة أشياء هنا وعلى عدة أصعدة. أولها إيجاد مبررات لاستمرار حالة الطوارئ في كل البلاد، وليس هناك أقوى من نشوب حرب، وبالتالي خلق طقس مشحون بالتوتر ومخنوق بالقوانين الاستثنائية. وثانيها، تمريرها لخطابها الأحادي مستغلة كل أجهزة دولتها في ذلك، باستخدامها ذات الحرب وسيلة للتعبئة والحشد الإيديولوجي. وهو بالرغم من كونه خطاب ديني (جهادي)، يفترض أن يوحد (أهل القبلة)، فهو لا يكرس لوحدة دينية لمنطلقاته الاستعلائية حتى على مستوى الخطاب الديني. وهنا يحضرني قول الشيخ يوسف القرضاوي في ندوة حول التعددية السياسية أقامها مركز الدراسات الحضارية بالقاهرة عام 1992م وأشار إليه الأستاذ فهمي هويدي في كتابه الاسلام والديمقراطية، يقول الشيخ القرضاوي: "نحن هنا بصدد مشكلة حقيقية لا ينبغي أن تغيب عنا، وهي أننا نواجه بآراء غريبة وشاذة على الساحة الإسلامية ترفض الاختلاف بين الناس، وتدعو إلى مدرسة الرأي الواحد، ليس فقط في تعامل الإسلاميين مع غيرهم، ولكن في داخل الإطار الإسلامي ذاته، حيث لا يجيزون التعدد حتى بين الفصائل الإسلامية التي تختلف في الاجتهاد والنظر".
هذا قول في صميم المسألة التي نحن بصدد الحديث عنها، ولكن لماذا إصرار مدرسة الرأي الواحد (الإنقاذية) على الإنفراد بالساحة الدينية دون الآخرين من الإسلاميين ناهيك عن (النصارى والعلمانيين)؟؟ هي زاوية أخرى غير التي انطلق منها الشيخ القرضاوي، إذ لا علاقة للموضوع هنا بالاختلاف في الاجتهاد والنظر بقدر ما هو مرتبط بالمصالح باعتبارها العنصر الأساسي للحياة الاجتماعية لأصحاب نظرية الصراع الذين يرون أن الحياة الاجتماعية ليست سوى صراع حول المصالح وأنها تقتضي استعمال الترغيب والترهيب لبلوغها، وأن التمايز الاجتماعي يعني تمايزاً في القوة. وهو ما يؤكد أن المال (زينة الحياة الدنيا) والقوة هما العنصران الأساسيان المكونان لإيديولوجيا (الإنقاذ).
قطع الطريق أمام المساعي الرامية لإيقاف الحرب –حينها- ظل هدفاً استراتيجياً للإنقاذيين، مثله تماماً والسيطرة على مفاصل الدولة وبالتالي على مقدراتها. وقد كان في 30 يونيو 89م. إن استمرار الحرب يجعل الحديث في غيرها بمثابة المحرمات، فمن ناحية عليهم أن "يعدو لها ما استطاعوا من قوة"، وتحت دعاوى الإعداد تمرر كثير من الأجندة الهادفة إلى مزيد من السيطرة، ومن ناحية أخرى استمرار الوضع على ما هو عليه جنوباً بل وتعميق الأزمة أكثر باستخدام آليات الفُرقة بحدة أشد، إلى جانب آليات الفرق العسكرية.
الأهم من كل ذلك هو استمرار الوضع الإنساني السيئ في الجنوب، وطمس أو على الأقل تعويق إمكانيات الخروج منه لأطول فترة زمنية ممكنة، حتى يجيء بعدها التفكير في قضايا هي من الترف بمكان أمام الجوع والتشرد والموت، مثل التنوع الثقافي والتعددية والرأي الآخر. وكانت مشاهد الجوع والموت تطل بارزة مما يجعل السؤال الاستنكاري يقفز بسهولة إلى السطح : "الناس في شنو ....؟؟"
(الانقاذيون) يعلمون جيداً ما أن يحل الاستقرار ويستلقي الجميع في هدوء ويتابعون بنظرهم النجوم وهي تنتقل من منزلة إلى أخرى حتى تطل الأسئلة المشروعة برأسها، وتبدأ الذاكرة الفردية ومن ثم الجمعية في العمل بأن هناك حقوق اخرى لابد من نيلها. هذا لا يتفق والبنيان الذي تراص ولزمن حتى أصبح صلداً، هذا ما يحدث شرخاً في إيديولوجيا مدرسة الرأي الواحد. إنه التنوع وحقه في إيجاد مساحة له.
لذلك ظل هناك أيضاً سؤالاً استنكارياً آخر يدعم به الإنقاذيون خطابهم: "القضية قضية دين وجهاد يا رجل، كيف تجرؤ..؟؟" هذه قمة عنف السلطة وذروة ما يمكن بلوغه من استغلال للدين لبلوغ مصالح دنيوية.
ولكن هل تستمر عباءة الدين ساتر دائم؟ "فالقضية ليست قضية دين وجهاد يا رجل وانظر حواليك لتتأكد. لذلك تجرأت"
المعارضة المجنَّحة
نجحت (الإنقاذ) بفضل وضوح الرؤيا لديها فيما تريد بلوغه وعدم تورعها في استخدام كافة الآليات المشروعة وغير المشروعة دون ان يرمش داخلها جفن ورع أو تقوى، نجحت في إحتلال الأرض الحرام التي كانت في السابق تدار فيها معارك السلطة والمعارضة. وباحتلالها الأرض الحرام، أنشأت حاجزاً قوياً ومصدات قوية لأية محاولة للوصول إلى خنادقها أو محاولة اختراقها.
بدم بارد جداً، قامت بتصفية كل مؤسسات الدولة (الخدمة المدنية، المؤسسات التعليمية، الإعلام والثقافة) من كل البؤر والأوكار الي يمكن أن تصنع فيها المعارضة أعشاشاً لها لتفرخ من الطير ما يقض مضاجع (الإنقاذ)، ويشغلها بمعارك جانبية عن تنفيذ خطتها في أدلجة الدولة.
بدمٍ باردٍ جداً، أجهزت على مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب ونقابات واتحادات واحتلَّت فيزيائياً دورها وهياكلها، أرجلها وأذرعها، لتجعلها كسيحة إلاَّ من فعل مؤيد لسياساتها معضداً لأيدلوجيتها متفاعلاً مع أهدافها.
بدمٍ باردٍ جداً، قبضت على خناق المؤسسة العسكرية والأجهزة النظامية والأمنية التي لم تكن بعيدة عنها في العقد الأخير قبل استيلائها على السلطة بصورة أو بأخرى، وبعد أن غربلتها صنعت ما يوازيها من أجهزة استعداداً لمرحلة العنف والقمع.
بدم بارد جداً، تمدد أخطبوتها الاقتصادي ليعتصر من لا يواليها ويخرجه مرغماً من دورة المال والانتاج، ليصبح حكراً عليها دون غيرها.
كل ذلك صاغته مراسيم دستورية ودساتير وقوانين شرعتها لإدارة مصالحها لا لمصالح غيرها، مؤسسِّة لدولتها وممكِّنة لسلطتها ومسخِّرة الآخرين لخدمتها. وضربت بقوة وعنف وجبروت كل من يحاول اختراق المنطقة الحرام مدعية أنها "هي وحدها العليم بما ينفع أهل السودان في عالم الغيب والشهادة، وما على السودانيين إلا الطاعة والاحتذاء" كما اوردنا سابقاً لدكتور منصور خالد.
فقدت المعارضة الأرض الحرام التي كانت تتحرك فيها سابقاً، وفقدت معها أذرعها التي تستجدي الجماهير الوقوف خلفها والمواعين التي من خلالها يمكن تنظيمها وإعدادها لمعركة السلطة، وصارت مجنِّحة تراوح مكانها زمناً طويلاً عملياً، بعد أن داومت على مراوحة مكانها فكرياً وسياسياً. استطاعت (الإنقاذ) أن (تزنقها في خانة اليك).
الكفاح المسلح .. العنف المضاد
الكفاح المسلح صيغة نضالية التزمتها كثير من الحركات والشعوب في العديد من البلدان، خاصة إبان فترة التحرر الوطني. وتواصل الإلتزام بها كوسيلة لمناهضة الأنظمة الديكتاتورية والشمولية. السودان ليس استثناء من الإلتزام بهذه الصيغة النضالية وإن ترسخ في أذهان الكثيرين أن الكفاح المسلح ارتبط بالجنوب وحركاته في فترات الحكم الوطني (ما بعد الاستقلال).
ولأننا بصدد الحديث عن الفترة الأخيرة، فقد كان للجنوب القدح المعلى في تصعيد الكفاح المسلح طويل الأمد ولأسباب ثقافية وجغرافية مساعدة، إذا استثنينا الإنقلابات العسكرية المضادة قبل وبعد (الإنقاذ) والحركات المسلحة المحدودة قبل (الإنقاذ).
ولما (زنقت الإنقاذ، المعارضة الشمالية في خانة اليك) وأعدت من القوة ورباط الخيل لمواجهة (عدو الله) في الجنوب، وانطلقت أيادي أخطبوتها لتتمدد في مناطق خارج حدود السودان. فعلت ذلك وهي مستندة على حائط الدعم الإيديولوجي والمالي الإسلامي العالمي، متقمصة روح الخليفة عبدالله التعايشي الذي أراد أن يدخل الملكة فكتوريا الإسلام ولو بحد السيف.
إعادة المعارضة لقراءة الخارطة النضالية في ظل القمع والعنف اللا معهودين، جعل قادتها يعيدون تشكيل قدراتهم وتنظيمهم خارج الحدود. ساعدهم في ذلك نظام (الإنقاذ) نفسه والموقف الإقليمي والدولي منه، إضافة ل(كعب أخيلها) الجنوب تلك الثغرة النازفة والجرح الذي رفض أن يندمل، خاصة وأن قنوات سالكة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان أدت في خاتمة المطاف لانضمامها ل(التجمع الوطني الديمقراطي)، المظلة التي تراضت أطراف المعارضة العمل تحتها.
وفي إطار طموحات الحركة الشعبية التمدد عسكرياً شمالاً، ومناخ الإقليم والعالم المهيأ لحصار نظام (الإنقاذ)، (تخمرت) فكرة العمل المسلح كوسيلة تستخدمها المعارضة من أجل إسقاط النظام، بعد أن كانت فكرة (فطيرة) تعتمل في نفوس الكثيرين. ولكن؟؟؟
الكفاح المسلح مسألة أكثر تعقيداً، وتعقيدها يتجاوز مواضيع كالدعم السياسي واللوجستي والحشد داخلياً وخارجياً، ويتجاوز قواعد الانطلاق والمعسكرات وتكتيكات الحرب من هجوم وانسحاب، بل ويتجاوز هزيمة وإسقاط النظام.
يقول د. منصور خالد في كتابه، السودان أهوال الحرب وطموحات السلام "ولا ريب أن الصادق (يعني المهدي)، ومن يشاركونه الرؤى في السودان، لا يمانعون في أن يلعب الجيش الشعبي والقوى المتوحدة معه، دوراً في إضعاف النظام واستنزافه من بعيد، ولكنهم لا يطيقون رؤيته وهو يلعب دوراً داخل حدود الشمال."
قول صحيح، ولكن في تقديري أن السبب الرئيسي لذلك يكمن في أن العمل المسلح يحدث حراكاً اجتماعياً وسياسياً، ليس في صالح كثير من القوى التي تبنته مما جعلها تضع عراقيل كثيرة في سبيل نجاحه، وهي تكتشف كل يوم حجم الخسائر في رصيدها لصالح التوجه نحو بناء دولة لا تحقق مصالحها كما تشتهي. وهو واحد من دوافع السيد الصادق المهدي للخروج بحزبه من التجمع الوطني، خاصة وأن هذا العمل ليس له فيه النصيب الأكبر وهو يرى حشود الحركة الشعبية تتمدد في الجبهة الشرقية، في الوقت الذي فشلت فيها دعوته لأنصاره (بالهجرة) إليها لإعادته رئيساً لحكومة (شرعية).
وليس ما سبق ببعيد عن السيد الميرغني، كما يقول الأستاذ فتحي الضو في كتابه، السودان.. سقوط الأقنعة "لقد حاول رئيس التجمع (يعني مولانا الميرغني) التخلص من العبء الثقيل الذي وضعه العمل العسكري على كاهله قبل ذلك بكثير، وقد أعيته الحيل، التي لم يُجدِ صنعها، في تحقيق ذلك الهدف.." ويروي الأستاذ فتحي أن أحد نشطاء الحزب الاتحادي صرح في أغسطس 2001 لإحدى وكالات الأنباء عن مماطلة النظام مما يدفع بالمعارضة لتفعيل خياراتها العسكرية، وكيف أن السيد الميرغني ضغط عليه ليضطر لتبليغ ذات الوكالة ب"أن ما نسبته للحزب ليس بياناً صادراً عنه، وإنما تصريح صادر عني شخصياً ..."
إذاً تبنت بعض القوى السياسية الكفاح المسلح ليس بغرض التغيير السياسي والاجتماعي الذي يمكن أن يحدثه، وإنما مجرد فكرة مثلها كأي إنقلاب عسكري يقوده مجموعة من العسكريين ينجز مهام تغيير السلطة وبسرعة، دون ان يتمكن من النفاذ إلى بنية الدولة التي تخدم مصالحهم. تجاهلوا بذلك ما قد يستغرقه الكفاح المسلح من وقت وما سيحدثه من انقلابات، وفي بالهم قدرتهم السيطرة على انفلاته إذا ما تجاوز الحدود المرسومة له والدور الذي ينبغي أن يؤديه.
فعلاً نجحت تلك القوى –جزئياً- في السيطرة على أي إنفلات غير متوقع للكفاح المسلح يمكن أن يؤثر على مراميها المستقبلية. نجحت –جزئياً- بمجهوداتها وقدراتها وساعدتها التغيرات الدولية والإقليمية إلى حد بعيد في ذلك. أقول نجحت جزئياً لأن الكفاح المسلح، وبرغم جدية القوى الأخرى التي التزمت به، لم يسر إلى نهاياته المرجوة في تغيير بنية الدولة، بل أبقاها كما هي ذات الدولة التي بنتها وتسيطر على مفاصلها (الإنقاذ).
لكنها لم تنجح (للآخر)، إذ اخترقت قوانين الكفاح المسلح قواعد اللعبة السياسية في السودان، ونجحت في إقصاء تلك القوى حتى الآن على الأقل، بينما احتلت بعض القوى التي تبنت الكفاح المسلح (الحركة الشعبية، حركة تحرير السودان، جبهة الشرق) موقعها من السلطة دون إحداث أي تغيير في بنية الدولة، بل يمكن القول أن الحركة الشعبية لتحرير السودان، أكبر شركاء المؤتمر الوطني (الإنقاذ) الذي جاءت به اتفاقية نيفاشا، صارت الوجه الآخر ل(إلإنقاذ) في الجنوب تتحكم فيها إيديولوجيا المال وتتحكم فيه بعنف السلطة. لكنها أضل سبيلاً لافتقارها لآليات وقدرات المؤتمر الوطني في إدارة الدولة والسلطة (بطريقته)، في غياب قدرات وبرنامج واضح الأهداف والمآلات وهي تواجه ما دمرته الحرب على الصعيد التنموي والاجتماعي.
ولكن ما هو أكيد أن الكفاح المسلح، برغم العثرات والعقبات التي واجهته، أفرز واقعاً سياسياً واجتماعياً مغايراً -بدرجة ما- عن ما كان عليه قبل الإنقاذ. لكنه واقع يصعب ضبطه ووضعه في سياق تطور إيجابي لعمليات التحول السياسي والاجتماعي التي تفرزها الثورات المسلحة ذات الأهداف والبرامج الواضحة، حيث تبدأ عمليات التحول من بنية الدولة وأجهزتها التي تدار معركة التغيير بواسطتها.
ما أفرزه الكفاح المسلح وغير المسلح ضد دولة ونظام (الإنقاذ)، وكل الاتفاقيات التي وقعت تحت ضغوط معلومة وليس عن رضا وقناعة بأهميتها -شئنا أم أبينا الاعتراف بذلك- أفرز حكومة (وحدة وطنية) كسيحة غير قادرة على لعب أي دور في إحداث تغييرات أساسية على مستوى إيديولوجية الدولة وما تمارسه السلطة من عنف وقمع، لسيطرة الإنقاذ عليها. كما أفرز هيئة (تشريعية)، لا تزال تحمل اسم المجلس الوطني، بطعم ونكهة (الإنقاذ) يلعب آخرون فيه أدواراً توحي بأن تغيراً ما قد حدث، فبدلاً من مجلس (الإنقاذ) الوطني الذي كان (زيتهم في بيتهم) لا يشاركهم فيه أحد، صار هناك آخرون دون قدرات لإحداث تغييرات حقيقية.
أما اخطر إفرازات الكفاح المسلح وغير المسلح في اعتقادي هو محاولات (الإنقاذ) الترسيخ لنظام سياسي يضمن لها البقاء الدائم في السلطة، ويحافظ على دولتها وبالتالي مصالحها. وهو نظام ستحاول أن يلعب فيه الآخرون (باتفاقيات أو دون اتفاقيات وبضغط التوجهات الدولية) دور مسمار التنفيس في طلمبة جاز (الإنقاذ)، تفتحه كلما ازداد ضغط الهواء داخل أنابيب الضخ السياسي للتفريغ. أو هو أشبه بالنظام السياسي في مصر الذي فرضه واقعها (أي مصر)، متجاهلة التركيبة الجغرافية والاجتماعية والثقافية الأكثر تعقيداً للسودان مما سيزيد من تعقيدات الوضع السياسي مستقبلاً.
تصريحات قادة دولة (الإنقاذ) المتناقضة في ظاهرها حول بقاء الإنقاذ، وأن لا تغيير في جوهرها كما يظهرها من يطلقون عليهم المتشددون، وحول أن الإنقاذ ستتصل وتواصل اتصالاتها ببقية القوى السياسية من أجل توحيد كافة الجهود، لا تكشف عن تناقض جوهري إذا ما قرئت مع ما سبق.
إن الحالة السودانية أكثر ما يميزها كثافة التنوع على كافة المستويات اللغوية والدينية والثقافية والاجتماعية، الشيء الذي يستوجب قراءة سياسية واجتماعية وثقافية مختلفة، فيها كثير من الابداع والخلق، قادرة على استيعاب هذا الموزاييك في تناغم تام داخل إطار واحد. فقط لندع هذا الحشد من التنوع هو الذي يخلق وينسج إطاره، لا أن نفرضه عليه حسب منطلقات مصالحنا وأهواءنا وأغراضنا.
ولكن ذلك يتطلب دولة متماسكة وقادرة على استيعاب كل ذلك التعدد والتنوع، معبرة عن جميع جزيئاتها إن لم أقل ذراتها. دولة بعيدة عن مفاهيم الإقصاء والتعصب، وهو ما لا تعبر عنه الدولة السودانية ببنيتها الحالية، وحسناً فعلت (الإنقاذ) إذ بلغت بها أعلى مراحلها التي تستوجب إعادة النظر الجادة في إعادة بنائها موحدة، قادرة على استيعاب متطلبات المرحلة القادمة، أو لتتفرق أيدي سبأ.
لا دولة (الإنقاذ) ولا سلطتها ستتغير من نفسها، ولا من رصوا بنيانها لديهم الرغبة في تغييرها إلا بمقدار ما سيحافظ على مصالحهم إن وجدوا لذلك سبيلا. وكما تقول إحدى النكات عن واحد من المطربين المشهورين تعاقدوا معه على إقامة حفل زواج في إحدى القرى، وقبل الفاصل الأول قدموا له (شاي بي لبن) وهو ليس ببراءة عادل إمام في مسرحية شاهد ما شافش حاجة، فصعد إلى المسرح ليغني أغنية وطنية كررها كل الفاصل. ولما كان الفاصل الثاني وتكرر (الشاي بي لبن)، كرر ما حدث في الفاصل الأول. فصعد إليه أحدهم، تنقصه نشوة طرب، محتجاً: "شنو يا ... ما تغير شوية"، ضحك المطرب قائلاً: "قول لي جماعتك غيِّروا الجوَّة".
حكومة مشروع وطني
هل هذه حكومة وحدة وطنية؟؟ كثيرون يقولون (لا) وأنا منهم، ولكن إسمها حكومة وحدة وطنية حسب اتفاق السلام. بعض الأصوات تعالت منادية بحكومة وحدة وطنية حقيقية تضم كافة القوى السياسية، و(الإنقاذ) تتخوف من هذا الاتجاه لذلك تقطع الطريق أمامه ملوحة بالاتفاق، والحركة الشعبية لن تجازف بالتخلي عن شبر من أراضي السلطة التي (حررتها) بالتوقيع على الاتفاق.
استغرق الحديث حول هذا الموضوع وقتاً طويلاً، مثلما استغرق أصلاً للوصول إلى تلك الصيغة التي تدار بها شئون الدولة السودانية. لذلك لابد من تناول آخر، تناول فيه من الخلق والإبداع –كما أسلفت- ما يتجاوز بنا الحالة الراهنة. إن من واجبنا ألاَّ نقطف الثمار بعد أن نقطع الشجرة وهو أسهل الحلول، بل أن نقطف الثمار ونراعي الشجرة حتى تثمر مرة أخرى. إنها نقطة إنطلاقي للوثبة الإخيرة وفي ذهني ما كتبه مونتسكيو ، حسبما ورد في كتاب تاريخ الفكر السياسي، لجان جاك شوفالييه "لتشكيل حكومة معتدلة يجب ترتيب القوى وتنظيمها وتعديلها وجعلها تفعل. ويجب، إذا صح القول، إعطاء ثقل لبعضها لجعلها قادرة على مقاومة الأخرى. إنها تحفة تشريعية، نادراً ما تصنعها الصدفة، ونادراً ما نترك للحكمة أن تصنعها. أما الحكم الاستبدادي فهو، بالعكس، ظاهر للعيان، إذا صح القول. إن له شكلاً واحداً في كل مكان. وبما أنه لا لزوم لإقامته إلاَّ للشهوات، فإن كل الناس يصلحون لذلك."
أهم المطلوبات لتشكيل حكومة مشروع وطني تبدأ من "غيّروا الجوَّة". ويبدأ التغيير من خطوات تنظيم داخلية للأحزاب والحركات السياسية،. وثاني المطلوبات هو منهج تفكير سياسي مغاير لمقابلة المرحلة المقبلة، التي يجب التحضير لها منذ وقت مبكر. وثالث المطلوبات هو برنامج قصير إلى متوسط المدى لإعادة بناء الدولة السودانية المعبرة عن الجميع. ومن ثم يمكن الحديث عن تحالف انتخابي عريض بهدف حصار دولة (الإنقاذ)، وذلك بإضعاف حزب المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم)، لإنجاز برنامج حكومة المشروع الوطني.
تبدأ الخطوة الأولى من العمل الجاد للأحزاب في تنظيم نفسها داخلياً، بالشروع في الإعداد لمؤتمراتها (خاصة تلك التي لم تعقدها لأربع سنوات على الأقل للوراء) لإعادة انتخاب قياداتها ومؤسساتها وإجازة وثائقها الداخلية الحاكمة. وما هو أهم إجازة برامجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهي نقطة جوهرية تكشف قدرات كل حزب، ومدى التزامه ببرنامجه مما يسهل على الرأي العام دعمه أو حجب الثقة عنه. وهي خطوة ضرورية للأحزاب الراغبة في خوض الانتخابات المقبلة، وفي اعتقادي أن العاجز عن القيام بها غير مؤهل للحديث باسم الجماهير وبالتالي خوض الانتخابات أو الدخول في تحالفات من أجل خوضها.
وهي أولى الخطوات نحو التأسيس لمشروع الدولة السودانية ونظام حكمها الديمقراطي من ناحية، وتفعيل دور عضوية الأحزاب ومشاركتها في صنع القرار الداخلي للاحزاب ولملمة أطرافها. يقول مونتغمري "إن إهم خطوات كسب الحرب هو توحيد الجبهة الداخلية"، ومن ثم إشراك الجماهير واستفتاءها حول برامج الحزب وحشدها للوقوف خلفه من جانب آخر. إن الململة الداخلية وظاهرة الانقسامات داخل الأحزاب واحدة من أهم أسبابها هو غياب الديمقراطية الداخلية، وعدم مشاركة العضوية في صنع القرار داخلها. كما وأن الجماهير ملَّت الشعارات السياسية الجوفاء التي تُطوى بطي اللافتات عقب انتهاء الحملات الانتخابية. وهي التي فقدت أصلاً الثقة في النظام الديمقراطي الهش، وضاعت بين قمع الدولة الاستبدادية ومتاهة المعارضة.
إن التعاطي مع الجماهير سوى من قبل السلطة الحاكمة او المعارضة ظل سلبياً، حيث ينتظر الإثنان دعمها ومساندتها، دون أن تحقق السلطة تطلعاتها ولا أن ترتقي المعارضة إلى ممارسة تحقق تطلعاتها. وها هي الجماهير تعلن رفضها للعب دور حصان طروادة، وتقف في مدرجات المتفرجين تشاهد وتشهد وتتشهد. وما فشل الأحزاب المعارضة في حشد الجماهير ضد سلطة (الإنقاذ)، وكذلك حشد (الإنقاذ) القسري للجماهير حول برامجها السياسية سوى مشهد من سيناريو علاقة الأحزاب بالجماهير.
رغم ذلك يمكن القول أنه بتلك الخطوة (الجادة) يقطع منهج التفكير المغاير شوطاً بعيداً، مخترقاً بذلك سياسة (رزق اليوم باليوم) التي انتهجتها الأحزاب طويلاً (ولا زالت)، في التعاطي مع القضايا السياسية دون استناد إلى برنامج قائم على التحليل السليم. فقضايا سياسية كثيرة تتخذ فيها قرارات دون دراسة كافة جوانبها، والعديد من الأحزاب تطرح رؤاها دون دراسة كافية ومن أجل إثبات وجود في دفتر الحضور اليومي فقط. أستثني من هذا الحزب الحاكم (المؤتمر الوطني)، المدرك تماماً لبرنامجه ووسائل تحقيق اهدافه التي يجب مواصلة النضال ضدها.
لكي تتسق هذه الخطوة (الجادة) مع منهج التفكير المغاير لابد من الحديث عن ضرورة تغيير الأحزاب وقياداتها لمنهج التعاطي السياسي (فعلاً ورد فعل). وأول التعاطي هو طي صفحة تلك الممارسات السياسية القائمة على التعالي الأجوف، وأساليب الكيد والضرب تحت الحزام لتدمير أو إقصاء أو إضعاف حزب ما، والتي لا تعبر سوى عن الضيق بالآخر.
وبعيداً عن أنا كبيركم (الذي علمكم السحر)، فإن الحزب طالما امتلك رؤية واضحة وبرنامجاً سياسياً قابلاً للتنفيذ، فإن الجماهير هي حجر الزاوية في الحكم عليه. وهي التي تبقيه أو ترمي به إلى مزبلة التاريخ. وهو ثاني التعاطي القاضي بحتمية مشاركتها الفعلية، لا إعتبارها مجرد صهوة يمتطيها من يشاء متى شاء، فالعنصر الحاسم في المرحلة المقبلة هو الجماهير، مما يستوجب ابتداع الطرق والوسائل لإشراكها في عملية التحول والتغيير لا استنهاضها لتعود لسباتها بعد أداء المهمة. فإنتظارها لتقوم بأداء دورها المفترض في مخيلة القيادات السياسية والأحزاب يعد ضرباً من الكسل السياسي إذا لم يرق لمرتبة الانتهازية السياسية.
إن التعالي والنرجسية السياسية ملتصقة بالضيق بالآخر، أضاعت على قوى المعارضة وقبلها الوطن فرصاً كثيرة، فهي بدلاً من اتجاهها لتحقيق أهدافها المشتركة، انشغلت دوماً بمشكلاتها وحروبها الداخلية وحربها ضد بعضها. وعندما أسمع الحديث عن وحدة المعارضة وأن حزب واحد لن يحل مشكلات الوطن "أصدقك"، ولما "أشوف عمايلك استغرب". هذا بالضبط ما يحدث، ودوني الكثير الذي قيل وكتب حول هذا الأمر، بل وتجربتي في هذا الخصوص. وبقراءة واعية للمشهد السياسي والاجتماعي، وما أفرزته الحروب في كل الجبهات من تغيرات عليه، تأتي ضرورة إعادة النظر في المنهج وطريقة التفكير تلك.
إذا كانت المصائب (يجمعن المصابينا)، فالضرورة الوطنية تقتضي تفكير تصحبه ممارسة إيجابية قادرة على تفعيل الطاقات لا إهدارها. والرؤية السليمة تقول بأن على الأحزاب المعارضة بعد إنجازها مرحلة البناء الإيجابى وترتيباتها الداخلية، وحتى تلك التي جاءت بها معطيات الواقع السياسي الراهن إلى الحكم، التواضع على برنامج حد أعلى (وليس أدنى)، قصير ومتوسط المدى بملامح وخطة تنفيذ واضحة للعبور بالوطن إلى دولة المشروع الوطني.
المرحلة الأولى من الفترة الانتقالية، والتي ستنتهي بإقامة الانتخابات، تنبئ بأهمية المرحلة المقبلة ودورها المفصلي في تاريخ مسيرة الدولة السودانية، تستوجب التحضير لها جيداً. وهي في تقديري مرحلة ذات جزئين، أولها التحضير للدخول للانتخابات ثم خوضها، وثانيها ما ستفرزه تلك الانتخابات أو بالأحرى ما يجب أن تفرزه، إذا ما أردنا بناء دولة المشروع الوطني.
أهمية المرحلة القادمة تأتي من كونها المؤسِسة لسودان ما بعد الفترة الانتقالية، وهي فترة مرتبطة بوقت محدد له ست سنوات. وإذا كان الواقع يقول بأن الطرفين المتنفذين فرضا رؤاهما على المشهد السياسي السوداني (بوضع اليد) في المرحلة الأولى، فإن ذلك المشهد يمكن أن يتغير إلى آخر معبراً عن الجميع في المرحلة القادمة ويرسم ملامح ما بعد الفترة الانتقالية.
إذاً المرحلة القادمة قائمة على التراضي والتوافق، أكثر منها معركة تشحذ فيها النواصل. ولكن هل من السهولة بلوغ هذه الغاية؟ بالتأكيد لا، خاصة وأن حمى الانتخابات معروف هزيانها حين تسري، كما وأن شريكي نيفاشا المتنفذين يمتلكان قدرات دولة لخوضها، مما يعني صعوبة اختراق رغبتيهما في الحفاظ على ما تحت يديهما من سلطة وثروة. إضافة للأحزاب (التقليدية) ذات الرصيد الجماهيري (حسب آخر انتخابات في ظل نظام تعددي)، والمفروض فيها استيعاب درس التغيرات في هذا الرصيد والتي حققت انتصاراً للجبهة الإسلامية (الأب الشرعي للإنقاذ) في تلك الانتخابات، كما عليها استيعاب درس التغيرات التي حدثت على الصعيدين السياسي والاجتماعي التي أفرزتها الحرب (التي لم تضع أوزارها بعد)، وهي خصماً على ما تبقى لها من رصيد.
مراجع:
- إدارة الأزمة في السودان، مداولات ندوة برجن فبراير 1989م. أعدها للنشر عبدالغفار محمد أحمد، قونار سوربو ، مركز دراسات التنمية – جامعة برجن أبريل 1989م.
- الإسلام والديمقراطية، فهمي هويدي، الطبعة الأولى 1993م، الناشر مركز الإهرام للترجمة والنشر.
- السودان سقوط الاقنعة، فتحي الضو، 2006م، القاهرة، دار آفاق جديدة، مركو الدراسات السودانية.
- النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، إيان كريب، ترجمة د. محمد حسين غلوم، 1999م، سلسلة عالم المعرفة، الكويت.
- نظرية الدولة، نيكولاس بولانتزاس، الطبعة الأولى 1978، دار التنوير للطباعة والنشر، لبنان.
- الأحزاب السياسية، موريس ديفرجيه، ترجمة علي مقلد وعبدالحسن سعد، دار النهار للنشر، بيروت 1983.
- الجيش السوداني والسياسة، عصام الدين ميرغني، القاهرة 2002م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.