عامان مضيا على انتقالي للعيش والعمل في اليابان ألممت خلالهما إلماماًشبه تام بعادات وتقاليد اهل هذا البلد. فأنا مثلا لا أجروء على البصق في مكان عام، وأحرص دائما على ترك حذائي بالخارج قبل أن أدخل بيتا أو مكتبا. ولا أخفيك أنني كنت كثيرا ما أذهل عن مراعاة هذه التقاليد أول عهدي باليابان، وكان ذلك يوقعني في حرج بالغ، لذلك اجتهدت في تعلّم ومجارات تقاليد اليابانيين. السرقة سلوك معيب، لا يختلف في ذلك شعبان، إلا أنها معيبة بشكل خاص في اليابان. فأنت ترى الناس في مدينة كيتو، مثلا، يركنون درّاجاتهم خارج المتاجر وعليها بعض اغراضهم، ثم يدخلون إلى المتاجر للتبضّع، وعندما يعودون فإنهم غالبا ما يجدون مُتعلّقاتهم في مكانها لم يتعرّض لها أحد. طبعا هذا وضع لا يبدو في حيّز الوارد، إلا أن هذا هو الاصل في هذا البلد. إلا أن الناس هنا يأخذون دراجات غيرهم أحيانا، لا أعني الدراجات الجديدة، بل اعنى الدراجات القديمة البالية التي يتركها أصحابها لأسباب شتى عند مداخل محطات المترو. أحد الاصدقاء كان قد حثّني على أخذ واحدة من تلك الدراجات، مُلمِحاً إلىأن ذلك وإن لم يكن سائغا مائة بالمائة من وجهة نظر القانون، إلا أن الجميع، بمن فيهم اليابانيين، يفعلونه، فاستقر عزمي على أخذ دراجة من تلكالكومة. وكان شجعني على ذلك ايضا أن كثيرا من اليابانيين—خاصةً بعد أن يقبضوا حوافزهم السنوية—يقتنون أثاثا جديدا ثم يتخلصون من أثاثهم القديم بوضعه بقارعة الطريق. وكان كثير ممن أعرف من الاجانب يستفيدونمن هذه الاثاثات السائبة في تجهيز دورهم. إلا أنه لم يخطر لي أن الدراجاتمستثناة من هذا العُرف. على كل حال، في شهر ديسمبر الفائت قررت أن آخذ درّاجة من كومة الدراجات التي تجاور مدخل محطة المترو القريبة من منزلي. وأنا أعائن الدراجات بدا لي بعضها عبارة عن هياكل معدنية مهترئة،وبعضها بلا مقاعد، أو لها مقاعد ولكنها ملتوية مشوهة. إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى عثرت على درّاجة حمراء مكتملة الاجزاء. كانت الدراجة في حالة جيّدة للغاية، حتى المفاتيح كانت مثبتة على قفلها غير المغلق. ساورني شك أن تكون مثل هذه الدراجة بلا مالك، إلا أنني وضعت هواجسي جانباًوأخذتها. ظللت اتنقّل بالدراجة لبضعة أسابيع دون ان يعترضني احد. وذات ظهيرة وأنا خارجة من محطة المترو وجدت شاباً يابانيا واقفاً قرب "دراجتي"المركونة عند مدخل المحطة. لم أعر المشهد كبير اهتمام، لكن ما إن انحنيتُلأفُكّ الدراجة حتى بدأ الشاب يصيح بي ويصوّرني بهاتفه الجوال. كان يتكلم بسرعة شديدة فلم افهم ما يقول. أخيرا، أخذ الرجل يصيح مرددا كلمة انجليزية أعرف معناها جيدأ: لص! لص! لص! وما هو إلا أن حضر رجال الشرطة. تحدث الشاب إليهم وهو يؤمي تارةً إليَّ وتارةً إلى الدراجة. أصطحبني الضباط إلى مركز الشرطة. في مركز الشرطة وضعوني في غرفة صغيرة جدا ارضيتها مفروشة بالبساط الياباني التقليدي رخيص الثمن والمعروف بالتاتامي. داخل الغرفة أحاط بي اربعة من الضباط. أخذ أحدُهم، وكان أكبر زملائه سناً وحجماً ولؤماً، يصرخفي وجهي وينتهرني بعنف. لم افقه حرفاً واحدأ مما يقول. حالة الخوف والارتباك التي تلبستني كانت قد أنستني ما تعلمته من اللغة اليابانية. لكن، وبعد مزيد من الزجر والنباح، استطعت أن أُفهمهم أنني لم أفهم حديثهم. بعدها غادر الضباط الغرفة الصغيرة وتركوني جالسة إلى طاولة خشبية منخفضة جدا، وكان حذائي بالخارج. انتابني شعور بالهوان وقلة الحيلة. بعد دقائق دخل إلى الغرفة ضابط آخر. كان يتكلم بعض الانجليزية. سألني كيف حصلت على الدراجة، فقلت له انني أخذتها من كومة الدراجات بقرب محطة المترو. الشرطي: سرقتِها تقصدي! أنا: كلا، لم اسرقها. لم يخطر لي أنها قد تكون ملكا لشخص آخر! الشرطي: أليس فعلك هذا سرقة؟ أنا: كلا، لم أسرق. كل ما في الامر هو أنني أخطأت التقدير. تجاهل الشرطي إجاباتي وظل يردد ذات السؤال: هل سرقتِها؟ هل أخذتِها؟ هل...هل...؟ وأخيرا قال لي: "اسمعي! لن نطلق سراحكِ حتى تعترفي بسرقة الدراجة. فالافضل لك أن تسارعي إلى الاعتراف" "لم أسرقها" صحتُ محتجةً، إلا أن شيئاً في وجه الضابط جعلني أدرك أنني إن لم أعترف فسأقضِ ليلتي في هذا الجو الرهيب! وضع الشرطي ورقة وقلماً على الطاولة وقال لي: إذا اعترفتي ووقّعتي على هذه الورقة فسيمكنك الرجوع إلى بيتك الآن! ولأن الرجوع إلى بيتي كان بالنسبة لي غاية الغايات في تلك اللحظة استسلمت وقلت له: "نعم سرقتها." انفرجت أسارير الشرطي وقال لي: انتظري قليلا من فضلك! وخرج. ثم لم يلبث أن عاد ومعه بقية الضباط. قال لي الضابط وأومأ إلى الورقة: هيا وقّعي! نظرت إلى الورقة. كانت الطاولة منخفضة جدا، وفي هذه اللحظة فهمت مغزىالحكاية: إن اعتذاري لم يكن هو المُراد، بل كان إذلالي وتعييري هو الهدف. وكنت قرأت في بعض الكتب أن ثقافة اليابان ثقافة تعيير بالخطأ، لا ثقافة شعور بالذنب. بركتُ بجانب الطاولة وأكببت على الورقة ووقّعت، ثم جعلتُ أبكي بمرارة. كان شعور بالعار قد تلبسني بالفعل! "إنني آسفُ لما جرى" قلت ذلك وأدرت عيني بوجوه الضباط الذين كانت أبصارهم تُحدِّق فيَّ. بدا لي أنهم راضون الان. رأيت ابتسامة طفيفة ترتسم على وجوههم.وأطلقوا سراحي. بعد أيام قليلة على تلك الحادثة -- وشعوري بالعار كان لا يزال متّقِداً -- اشتريتُ دراجة. لكن لم يمر شهر حتى اختفت الدرّاجة. كنت تركتها عندمدخل محطة المترو ونسيت أن أؤمّنها بالقفل. لكن لم يمض أسبوع حتى جاءإلى بيتي ضابط شرطة ومعه الدراجة. سلمني الضابط الدراجة وانحنى انحناءة كبيرة ثم استدار ومضى. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.