لا يجادل احد في ان الحزب الشيوعي السوداني لعب دورا كبيرا ومقدرا في مسيرة الحركة الوطنية , فهو منذ قيامه تحت مسمي الجبهة المعادية للإستعمار كان يمتلك رؤية واضحة الوجود البريطاني في السودان , وعند قرار بريطانيا منح السودان إستقلاله سارع الحزب وطالب بإعطاء حق تقريرالمصير كاملا للسودان معارضا طرح الإتحاديين الذين كانوا يريدون إلحاقالسودان بالتاج المصري تحت شعار وحدة وادي النيل ,وهنا تحالف الشيوعيون مع ألأحزاب الإستقلالية وفي مقدمتها حزب الأمة لتعزيز حقتقرير المصير للسودان كدولة ديمقراطية ذات سيادة, وفي ذلك الموقف انطلقالحزب الشيوعي من رؤية لينينية بحتة بإعتبا ر ان حق تقرير المصير هوإنفصال كامل عن الدولة المستعمرة بكسر الميم , وبناء مؤسساتها الوطنيةوليس تلك السيادة الشكلية للسودانيين التي كانت تنادي بها الأحزابالإستقلالية وهي المرتبطة بالدولة المستعمرة . يقودنا الحديث عن الحزب الشيوعي السوداني الي دوره الفعال في رسمطرائق نضال جديدة ضد الوجود البريطاني مثل نشر الوعي السياسيوسط العمال والمزارعيين والطلاب وهو الذي بادر لإنشاء كيانات لها فيالوسط السياسيي حتي اشتد عودها وصارت جزءا هاما من منظومة العملالسياسي . دون غيره من الأحزاب شخّص الحزب الشيوعي الحالة الأستعمارية بوصفهاهيمنة إقتصادية علي موارد البلاد في الدرجة الأولي عكس القوي التقليديةوالطائفية التي لم تتجاوز نظرتها الي الإستعمار بكونه وجودا ثقافيا كافرالا اكثر, بل ان بعض هذه القوي كان شديد الإرتباط بالأدارة البريطانية عندمااغدق عليها بالإميتازات, مثل المشاريع الزراعية وتوكيلاتالتصديروالإستيراد لضمان استمرار وجودها في البلاد. استمر تواصل نضال الحزب الشيوعي ضد الهيمنة الأجنبية ومن بعد ذلك كانت معاركه التي خاضها بعد الإستقلال ضد الحكومات الوطنية ا"لرجعية"التي بدلا من تنزيل خطاب سياسي شامل يعالج الإرث الضخم من التخلف الذي تركه الإستعمار سعت وراء إقتسام السلطات والمناصب ضاربة عرض الحائط بقضايا التنمية التي يحتاجها الشعب بعد خروج المستعمر ويذكرنا هذا بشعار تحرير لاتعمير. عبرالحزب الشيوعي مراحل هامة في تاريخ السياسة السودانية وتحمل بمفرده مناجزة الإنظمة الشمولية بدءا من عبود ومرورا بالنميري وإنتهاءبالإنقاذ. في عبود تمت مطاردة مناضليه والتي كا نت غالبا ما تنتهي بالسجون والمحاكم العسكرية ,وفي النميري واجه اعظم كارثة في تاريخه عندما شنق الديكتاتور قادته في محاكمات سيئة الذكرلم تتوافراية عدالة , وتلك كانت محطة هامة في مسيرته, بل نقطة تحول سلبية في وجوده حيث اولي قضيةامنه الداخلي إهتماما مبالغا فيه حتي تحول الأمر الي عقدة سياسية لازمته حتي الان , فاذا كانت عملية الإختفاء من اجهزة امن الأنظمة الشمولية ارتبطت بالعمل السري حيث كانت مهمة الكادر المختفي تدبيج المنشوراتوالكتابة علي الجدران ضد النظام المعين فإنها لم تعد الان ذات جدوي لتطور وسائل الإتصال, كما إن الإختفاء نفسه غلبت عليه صفتي المغامرة والبطولة فصار نجاح الكادر المختفي هدفا في حد ذاته يروي عنه الرفاق حكايات"باهرة يتداولونها بإعجاب كأن يعيش المختفي وسط "ناس" الحي بإعتباره حاج فلان القادم من الريف, ولم اجد حتي الان تفسيرا مقنعا لاختفاء سكرتير الحزب الراحل نقد من امن الإنقاذ عشر سنوات حتي تماكتشافه في صورة درامية تبجح فيها الأمن بقدرته التي تمكنه من اكتشاف النملة في جحرها واذا سئل اي مسئول في الحزب عن الإنجاز السياسيالذى فعله الزعيم خلال فترة إختفائه فلن تجد إجابة مقنعة, إلا من فوبيا عبدالخالق , فالرفاق لايريدون تكرارها مع الإنقاذيين, طبعا سيرد او ربما يسخربعض الشيوعيين من هذه الملاحظات عندما يقولون انه لولا الإختفاء لكانت الإنقاذ قد اعدمت محمد ابراهيم نقد مثلما فعل النميري مع عبد الخالق ونحن بدورنا نرد عليهم سؤالهم و هو ما الذي فعله السكرتير العام طوالسنوات الإختفاء؟ . اذن فأن عملية الإختفاء كانت ولاتزال تراثا للحزب ورثه تاريخيا من إختفاء الزعيم الروسي فلاديمير ايلليتش لينين قبل قيام الثورة الروسية ,وكيف دخل موسكو ,وكيف تنقل في احيائها حتي لا يكتشفه العسس القيصري , وكيفبعد ذلك تحولت الي "عادة ثورية " ارتبطت بالعمل اليومي. ثمة مفارقة تثير الغيظ عندما تطالع صحيفة الحزب وعلي راس ترويستها شعار اصولي ساذج وهو" ياعمال العالم وشعوبه المطهدة اتحدوا! " فمن واقع الإصرار علي هذا الشعار يكتشف المراقب كم من الجهل بحركة التاريخ تسيطر علي التروكيا الهرمة وكم من العمي النظري يعشش في عقولها. كان من الممكن قبول هذا الشعار لو كان المخاطب العمال السودانيون فقطوهذه قضية سنأتي اليها لاحقا,,اما ان يكون عمال العالم فهو تخلف فكري لا تخطئه عين واصرار علي التمسك بالنصوص يشخص دون مواربة من باب. لم يكن الزعيم الراحل الخاتم عدلان مخطئا حين إستخدم مبضعه الفكري في التحولات التي طرأت علي العالم حين كتب , "آن أوان التغيير" فهو كان يريالمشهد النظري ينفجر في وجه المسلمات الماركسية الصمدية في عملية تكنولوجية ضخمة حولت العالم كله الي رأس دبوس او فأرة حاسوب ما انتحركها حتي تحصي لك انفاس المعرفة في شهيق وزفير لايتوقف . دعونا ننتقل الي موضوع اخر وهو موضوع الصراع الذي كا ن مكتوما طوال السنوات الماضية وتفجر الان , فسارع بعض قادة الحزب الي نفيه فيما اكده اخرون تصريحا , او تلميحا ,علي ان الذي يدعو الي الإستغراب هو مفهوم "الترويكا " القديمة لكلمة صراع نفسها والتي تسارع فور سماعهاالي ربطها باللائحة ,بل وتذهب الي ابعد من ذلك لتجريم الذين ينطقونها كأنما هذا الصراع خاص بالأحزاب التقليدية فقط ولاينطبق علي الحزب الشيوعي , لقد الحزب شهد صراعات ايديولوجية متعددة بدءا من عوضعبد الرازق الي الصقت به صفة الإنتهازي حتي غادر الحياة الدنيا ثم صراع يوسف عبد المجيد واحمد شامي والذي ادي الي قيام حزب جديد هو الحزبالشيوعي " القيادة الثورية" الذي كان يؤمن بثورة الريف لتحرير المدن علينمط الثورة التي قادها الزعيم الشيوعي ماوتسي تونغ لتحرير الصين. وكذاكان ختام هذه الصراعات صراع الراحل الخاتم عدلان الذي كاد ان يلحقعوض الرازق لولا صلابتة الرجل الفكرية وطرحه العميق لمجمل كينونة الحزب وجموده النظري , وها هو الصراع الذي تفجرالان يقوم اساسا علي مشروع الخاتم الذ ي رفض ان تكون الماركسية بمفردها هي مرجعية الحزب الأيديولجية الوحيدة. كان الحزب الشيوعي "الأصل" ولايزال يطلق دائما علي مثل هذه الطلاقات والإختلافات الفكرية " بالإنقسام " وذلك لتصغير شأنها , وتقليل"خطورتها" بل وإحتقارها ,فكلمة إنقسام تعني سياسيا إن الجزء الصغير التافه انقسم عن الكل الكبير الثابت الراسخ ,والمنقسم هو المتحرك سريع الزوال الدي فارق "الصمدية " الأيديولوجية الحقيقية الي المجهول النظريالذي لامستقبل له , وحتي لو تناول الحزب افكار "المنقسمين" الذين هم في شرعته "الخونة المارقون" فأنه لايفعل ذلك بوصف هذه الأفكار جديرةبالبحث تستحق النظراليها فكريا , ولكنه قبل ان يخطو اي خطوة فانه يدنها مسبقا ويعتبرها صادرة من زملاء يهربون من النضال اليومي ,او منحرفون عن الخط اللينيني الإطارالمرجعي لكل شيء , لقد حكي صديق مفكر تركالحزب ولم يدن الماركسية علي الإطلاق انه قوبل ببرود شديد عندما قاده غرض ما الي صحيفة الحزب الميدان , بل إن قياديا كبيرا رفض مصافحته عندما هم الصديق بذلك , والراوي نفسه روي كيف ان القيادي ذاته رفض ان يرفع الفاتحة مع شيوعي سابق رحل عن الحياة قريبا لانجزم ان ماصدر من ذلك المسئول هو سلوك جميع قادة الحزب , او هو سياسة الحزب الرسمية, ولكنه يحدث تلقائيا تحت سقف تراث طويل من الصراعات التي دارت داخل الحزب الشيوعي السوفييتي الأم ابان حكمه لروسيا, لاحظ ترو تسكي الذي لاحقه ساتالين حتي نال منه إغتيالا في المكسيك ولاحظ ما اطلق عليه عصابة الأربعة في الصين 1966 – 1967 . ان الثقافة التي سادت منذ ان كان اسم الحزب الشيوعي الجبهة المعادية للإستعمار هو ختم الخارجين عن الحزب بخيانة الحزب ومن ثم خيانة النظرية ,وعلي الفور يجري تصنيفهم ووضعهم في اللائحة السوداء. وإذا تركنا الماضي واعتبرناه حقبة جاهلية ماركسية وجئنا الي الحاضر لنقف امامه وفق صورته التي اشرنا اليها , فهل يتيح لنا ذلك القول ان الحزب قد تحرك من ذلك المربع الحديدي الي مربع ثورة المعلومات التي سقطت في دورتها المتسارعة والمتغيرة مسلمات وصمديات كثيرة, هل استطاعت القيادة الحالية ان تنفتح بعمق مثلا علي ثورة فكرية اخري هي الثورة التي حدثت في مفهوم التراث ,وقادها مفكرون امثال عابد الجابري ومحمد اركونونصر حامد ابوزيد , وصادق جلال العظم, هل تحركت هذه القيادة لتكسر فكريا إحتكارالأخوان المسلمين للساحة "الفكرو دينية "حيث انتشر لهوس الديني في أرجاء السودان , وهل وهذا سؤال محوري هام ان الشعار الذي يظهر علي رأس صحيفة الحزب "ياعمال العالم وشعوبه المضهدة إتحدوا" هو شعار في قدرته مخاطبة المتغير العميق الذي اصاب هذه الطبقة, وهل عامل السودان اليوم الذي كان يرمز له في الماضي "بالأبرول" هم نفسه عامل الأربعينات حتي الستينات الذي يخرج في المظاهرات من ورش عطبرة والخرطوم وباقي المدن السودانية حيث كانت السكة الحديد الوسيلة الوحيدة للمواصلات. يتبع