عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. الجمامة هي منطقة وادعة تقع بين محليتي بارا وسودري ويسكنها خليط من قبائل شمال كردفان خاصة دار حامد والكبابيش وكاجا والدواليب وغيرهم. كانت الجمامة في سابق عهدها من المناطق المفضلة للدمر لتوفر الماء بها ووجود المرعى الوفير. بيد أن هذه المنطقة وغيرها لم تسلم من لسان شاعرات الجراري في دار الريح, ولا ندري لماذا تقدم شاعرة على الدعاء على مكان ما، وهل هذا الدعاء حقيقي أم أنه يخفي وراءه شجوناً وشحنات عاطفية لم تجد الشاعرة بداً من التعبير عنها بهذا الشكل المحير الذي تتميز أغاني الجراري. فمثلاً تقول إحداهن: الجمامة تصوح عليها بريق ما يلوح صغيرة بتنوح دايرة تسوق وتروح وحتى لا يستعجل القارئ الكريم في الحكم على هذه الشاعر الرقيقة وإدانتها بالتعدي على الجمامة، دعونا نلقي بعضاً من الضوء على مفردات هذه المربوعة. فالجمامة كما هي القرية التي أشرنا إليها أعلاه ولعل الاسم نفسه مشتق من "الجمّام" وهو المكان الذي يتوفر فيها الماء، وكلمة "تصوح" بمعنى تجف لعدم نزول المطر. وهذه لعمري كلمة عربية فصيحة فقد جاء في معجم المعاني الجامع: صَوّحَ النَّبِتُ ونحوُه : يَبِسَ حتى تَشَقَّقَ صَوّحَ الحَرُّ أو الريحُ الشيءَ : جَفَّفَهُ أو أَيْبَسَه حتَّى تَشَقَّق وتناثر وهذا مؤشر على فصاحة هذه الشاعرة البدوية التي لم تتكلف اللغة بل استخدمتها على الفطرة والسليقة. و"صغيرة" اسم لبقرتها إذ من عادة العرب تسمية الأشياء إما تدليلاً أو تمييزاً أو حبا ً لها وقد كان رسول الله صلى الله عليه يسمي كل شيء فاسم ناقته القصواء وبغلته اسمها دلدل وقد عاشت عمراً طويلاً بعد انتقاله للرفيق الأعلى بأبي هو وأمي. وكلمة تنوح بمعنى تحدث صوتا يدل على الحنين كما تفعل الأبقار عندما تبدأ مسيرة الرحيل أو تلتقي صغارها. وهذه البقرة في هذه الحالة تنوح شوقاً للرحيل إلى الجمامة حيث مكان الدمر الذي اعتادت عليه وتريد أن تذهب أو تروح هناك. وكل هذه معطيات تفيد أن الشاعرة سوف تفارق الأحبة وهي لذلك تدعو على الجمامة ليس تشفياً ولا كراهية بل خوفاً وإشفاقاً من فراق من تحب. ومثال آخر على هذا النوع من الشعر نجده في قول أخرى: الكوكيتي خرابا ما يدودي سحابا قوم بينا يا يابا من دار الحطابا وعلى العكس من شاعرة الأغنية الأولى ملت هذه الشاعرة من البقاء في الكوكيتي التي هي أيضاً قرية في دار الريح ومن المناطق الجميلة جداً في الخريف ولا تقل روعة عن الجمامة، إلا أن هذه البدوية لم يرق لها العيش في هذا القرية بل تاقت لسكنى البادية حيث العيش الطلق والخضرة ولذلك فهي تدعو أن يكون الكوكيتي "خرابا" أي يحل عليه الدمار بألا ينزل عليه المطر ( مايدودي سحبا) وهذا أيضاً دليل آخر على فصاحة أهل هذه المنطقة وقرب لهجتهم من العربية الفصحى وبحسب المعجم نجد أن: دَوَّى: ( فعل ) دوَّى يُدوِّي ، دَوِّ ، تدوِيةً فهو مُدَوٍّ دوّى الرَّعْدُ : جَلْجَلَ ، سُمِعَ لَهُ دَوِيٌّ ، أَحْدَثَ صَدًى وهذه الشاعرة التي ضاقت من الحياة في الكوكيتي تحث أباها على الرحيل من هذه القرية التي لا يعرف أهلها إلا حرفة الحطابة التي لا تألفها وهي أيضاً لا تدعو على الكوكيتي من باب الكراهية وإنما شوقاً إلى حياة البادية حيث الأنيس والعيش الرغد في أحضان الطبيعة. وما هذه إلا نماذج من أدب ثر تمتاز به منطقة دار الريح.