الأخوات والأخوان والأصدقاء الأعزاء: في البدء أسمحوا لي أن أعرب عن شكري وإمتناني لدعوتكم لي للمشاركة في هذا المنتدي المتميز وأخص بالشكر اللجنة المنظمة. وهو يتناول قضية تهم كل السودان متعلقة بحاضر ومستقبل بلادنا، فمشروع الجزيرة يقع حيثما تقع البلد المنتجة والفاعلة وحيثما تقع المشاريع القومية التي تم تدميرها، وهي مشاريع تشكل أعمدة الإقتصاد السوداني وحضوره الداخلي والإقليمي والدولي، وقد تم تدميرها مع سبق الإصرار والترصد. وتقع كذلك في قلب قضايا عالمية، قضية إنتاج الغذاء والطعام وقضايا الأرض والمياه وقضايا الإنتاج الزراعي والعلاقة العضوية بين المدينة والريف. والأهم إن ما يقارب 80% من سكان بلادنا يعتمدون على الزراعة والرعي، والتطور الزراعي الصناعي هو أحد مفاتيح مستقبل السودان. أزمة مشروع الجزيرة ذات إرتباط وثيق بالأزمة السودانية الوطنية العامة والتدمير الممنهج لكافة المشاريع القومية المنتجة والبنى التحتية ومؤسسات الدولة، وأسوا الأضرار قد لحقت بالخدمة المدنية والتعليم والصحة. قصة مشروع الجزيرة في إحدى جوانبها هي تصفية السكة الحديد والنقل النهري والبحري والجوي وعشرات المشاريع الزراعية والصناعية التي أفسحت الطريق جانباً لنمط التطور الطفيلي ومشاريع النهب والإستثمارات الطفيلية غير المنتجة التي دمرت كامل ريف ومدن السودان ودفعت بالملايين من بنات وأبناء الريف نحو المدن والنزوح واللجوء والتشرد والبطالة وتدمير النسيج الإجتماعي، وساهمت في إتساع رقعة الحرب وإفقار الأغلبية الساحقة من السكان. ومشروع الجزيرة مقياس نموذجي لفشل الإنقاذ التي خربت كل المشاريع المنتجة وسط ضجيج و"جعجعة بلا طحين" وشعارات يكذبها الواقع (ناكل مما نزرع ونلبس مما نصنع) والنتيجة العملية هي تدمير كل المشاريع الزراعية والصناعية. ومشروع الجزيرة الذي حوى بنية تحتية كاملة وصناعات للنسيج والزيوت والصابون والغلال إنتهي بعرض نفسه للبيع، وكل ذلك لم يكن مصادفة بل هو جزء من نتاج المشروع الطفيلي وحصاده المر والذي يتجه الآن لخواتيمه لبيع كل الأصول من أراضٍ ومبانٍ في كل السودان والنموذج الأسطع هو الخطة النموذجية لبناء العاصمة القومية التي في صورتها الخارجية هي تحويل الخرطوم إلى دبي أخرى، ولكنها في حقيقة الأمر خطة قائمة على نهب وبيع كل الأراضي والمباني والمعالم التاريخية وتدمير البيئة بما في ذلك الحكم بإعدام غابة الخرطوم الوحيدة، وكافة المباني على النيل بما في ذلك جامعة الخرطوم ومستشفي النهر (عبد الفضيل الماظ) ووزارات الداخلية، والعدل، والمالية، وغيرهما، وقفل الواجاهات المائية للنيل بما فيها المقرن وبناء أبراج النهب الإستثماري لبارونات المؤتمر الوطني وشركائهم المحليين والخارجيين، وهي مشاريع غير صديقة للبيئة وللتراث والتاريخ السوداني، والخرطوم تحتاج أن تتطور كمدينة تشبه تاريخ وجغرافية السودان وثقافة أهله و لاتحتاج أن تتشبه بأي مدينة آخرى، وأعين هؤلاء البارونات تضع الجزيرة جزءاً من الإمتداد الطبيعي لبرنامجها للنهب بإسم الإستثمار. إن الطلقة التي أصابت النقل النهري والبحري والجوي وحاولت تعديل التركيبة الديمغرافية لدارفور وجبال النوبة - جنوب كردفان والنيل الأزرق لتخضعها لبرنامج النهب الإستثماري بإسم الدين وبناء الإمارة الإسلامية هي نفس الطلقة التي أصابت مشروع الجزيرة في مقتل، وفي كل الحالات وجدت مقاومة. وقد طُلب مني أن أتحدث عن إمكانية المواجهة والحوار مع الحكومة وإدارة المشروع، وشعرت بأنني لست الأكثر تأهيلاً للحديث حول هذه القضية بل المؤهلين حقاً للحديث هم قيادات المزارعين وقادة إقليم الجزيرة المتواجدين على الأرض، ولكن رأي البعض أن أعكس تجربتي في العمل مع قادة الجزيرة والمزارعين في الفترة الإنتقالية من 2005م إلى بداية 2011م، والتي عملنا فيها على نحو وثيق مع قيادات تحالف المزارعين وملاك الأراضي وتنظيمات المجتمع المدني والسياسي في إقليم الجزيرة؛ في ريفه ومدنه، وشاركت في عشرات الندوات والمنتديات في أجزاء متفرقة من ذلك الإقليم، والتقينا بأهله في القرى والمدن وإستمعنا لصوت الناس العاديين والفقراء وقادة الرأي من أبناء وبنات الجزيرة والمتواجدين خارج الجزيرة أيضاً من أبناء الإقليم. ولعل الصديق العزيز صديق عبد الهادي- وهو من الفاعلين في هذا المنتدي- يتذكر ذلك النهار وتلك الأمسية حينما قمت بزيارته في منزله بالجزيرة بصحبة الأستاذ مأمون عالم، وأمضينا تلك الساعات في النقاشات والحوار مع الناس وأشواقهم وأسئلة الشباب عن ما العمل؟.
ودعوني أؤكد على الأتي ملخصاً لتجربتبي:-
* إن الأزمة الحالية في مشروع الجزيرة مختلفة عن أي أزمة ماضية ومرتبطة بعوامل كثيرة ومعقدة بعضها موروث وبعضها من فعل هذا النظام، ولكن النظام لديه مخطط من أعلى قياداته لبيع ونهب مشروع الجزيرة. وقد إستمعت في حوارات مباشرة لقادة النظام في أجهزتهم التنفيذية والتشريعية، وعمر البشير الذي كان حرياً به أن يتفهم معاناة أهل الجزيرة بحكم صلته بهم منذ أن كان تلميذاً في المدارس، فهو الأكثر إقتناعاً بضرورة تصفية مشروع الجزيرة وتمليكه لباروانات النهب الإستثماري القدامى والجدد، ولذلك فإنه أكثر من أي وقت آخر فإن أزمة المشروع الحالية مرتبطة بالأزمة الوطنية الشاملة إرتباط عضوي وبإعادة هيكلة الدولة السودانية وهزيمة الجناح الأمني العسكري الطفيلي الحاكم من الإسلاميين، والمتمسك بالسلطة، ولا يوجد طريق لحل أزمة المشروع دون إنزال الهزيمة بهذا المعسكر ، وإستعادة الوطن والديمقراطية ومشروع الجزيرة. وهذا يقع في دائرة المواجهة الشاملة مع النظام وإحداث التغيير في كل السودان، ولمصلحة كل السودانيين وإيجاد سياسات جديدة تعيد للقطاعات المنتجة في الإقتصاد السوداني دورها وترد إعتبارها وتتوجه الدولة بحزم نحو الإنتاج وإحياء القطاعات المنتجة وإعادة تأهيل مشروع الجزيرة والمناقل كواحدة من الأولويات الوطنية. * المواجهة لا تسقط الحوار، ولذا فإن تحقيق الهدف الأول يعني أن المواجهة تمر بمراحل ومن ضمنها الحوار ومعركة المشروع تُكسب بالنقاط أو بالضربة القاضية. ولذلك فإنني لست من دعاة الضربة القاضية كطريق وحيد، بل أدعو لكسب المباراة عبر النقاط إذا لم تتوفر إمكانيات الضربة القاضية. * تجدونني كذلك من دعاة ربط جميع القضايا الوطنية وتجميعها في (سِعن) واحد مع إحتفاظ كل قضية بخصائصها. ولذلك فإن قضية مشروع الجزيرة وإفقار الريف مربوط بوقف الحرب وتوجيه الموارد للإنتاج وإعادة تأهيل القطاعات المنتجة والخدمية والبنية التحتية، ومرتبط بإعادة تأهيل السكة حديد والنقل النهري والبحري والجوي كقضايا وقطاعات ذات تأثير متبادل. إن النظام الذي يقيم السدود دون رغبة أهلها هو نفس النظام الذي لا يلتفت إلى راي المزراعين وأهل الجزيرة. قضايا التنمية وتأهيل البنيات المنتجة مرتبط بإنهاء الحروب كمدخل لإصلاح الإقتصاد السوداني. * الحكومة وإدارة إتحاد المزارعين الرسمي وجهان لعملة واحدة مع فوارق ضئيلة لا يمكن الإعتماد عليها؛ فوارق تقع في مربع العلاقات العامة. * توحيد هموم المزراعين ومدن المشروع وعلى رأسها مدني وإيجاد حركة مقاومة عريضة تربط بين المزارعين وسكان المدن والعمال والمثقفين والطلاب والنساء والشباب وملاك الأراضي والقوى السياسية وبناء تجمع مدني عريض مقاوم يضع في قلب معاركه إستعادة تأهيل مشروع الجزيرة والمناقل كعملية هامة لنهوض ريف ومدن الجزيرة ووقف بيعه وتفكيكه. هذه الشبكة من العمل السلمي الجماهيري هامة وأساسية في المعركة الجارية الآن، ومكوناتها موجودة على الأرض. وربط كل هذا العمل بمجمل القضايا الوطنية في السودان لهزيمة النظام وإحداث التغيير أمر هام. * في نهاية الستينيات كتب المثقف الثوري المنتمي والمحترف الراحل يوسف عبد المجيد كراسة"1" مهمة عن أُجراء الريف لا زالت صفحاتها تتراي أمامي، بعد أن إطلعت عليها في نهاية السبعينيات حول أهمية الإنتباه لدور أُجراء الريف وفقراء المزراعين في عملية التغيير. اليوم بإقليم الجزيرة توجد قوى مهمة من أُجراء الريف متمثلة في العمال الزراعيين المتواجدين في الكنابي والقرى والمدن، هذه القوى يجب أن تشارك في معركة إستعادة مشروع الجزيرة وأن تحتل موقعها الهام كجزء لا يتجزاء من العملية الإنتاجية والمجتمعية والسياسية في الجزيرة والتمتع بكافة حقوق المواطنة بلا تمييز. * نحن لا نبدأ من فراغ، وقد عملنا وآخرين بشكل وثيق مع تحالف المزراعين والتنظيمات الديمقراطية والقوى السياسية الوطنية وقيادات المزراعين الفاعلة من حزبي الأمة والإتحادي والحزب الشيوعي والقوى الآخرى، وما هو مطلوب الآن تطوير برنامج مسنود بحركة جماهيرية في إقليم الجزيرة يتسعيد ألق وروح حركة المزارعين في الخمسينيات والستينيات آخذين الوقائع الجديدة في الحساب، لكن من خلال عملنا مع تحالف المزارعين والتنظيمات الوطنية والديمقراطية ومنظمات المجتمع المدني. هنالك فرص جديدة لتصعيد العمل الجماهيري في الجزيرة المرتبط بمطلب إعادة تأهيل المشروع ووقف سياسيات البيع والنهب التي يمارسها النظام، وهضمه لحقوق ملاك الأراضي. والحوار إن لم يؤدي إلى الحل سيقود إلى المواجهة بل الحوار هو نفسه نقطة من نقاط المواجهة. * تجمعكم هذا مفيد للغاية ويجب أن يستمر وأن يتطور ويسلط الأضواء على قضية إقليم الجزيرة لأن لهذا الإقليم قضية "ويد سلفت ودين مستحق" على الدولة السودانية، وله دور في مستقبل نهضة السودان أيضاً. والتجمع هذا داعم لنضال الجماهير على الأرض، ولذا فإني أدعو بشكل مباشر بالإضافة إلى الدعم السياسي أن نتجه نحو الدعم المادي عبر حملة ثابتة من التبرعات وصندوق لتحرير الجزيرة من قبضة المؤتمر الوطني. وقد حددت عبر عزيزنا فتاح عرمان تبرعي ومساهمتي في هذه الحملة الهامة والتي يجب أن تشمل جميع بنات وأبناء الجزيرة والسودانيين جميعاً، ولنا أن نستفيد من فكرة التبرعات والمساهمات الصغيرة التي بنت حملة إنتخابية عظيمة مثل حملة بيرني ساندرز. وقديما شكر المسيح وتوقف عند المرأة التي من عوزها أعطت. فعلينا أن نستنهض أبناء وبنات الجزيرة والسودانيين بالخارج لدعم نضال القوى الوطنية وقوى التغيير في الجزيرة على نحو عملي ومباشر فالثورة ناصيتها العمل. * الأسمدة الفاسدة والطريقة التي إستخدمت بها فوق إنها أضرت بالأرض والإنتاجية أضرت بالإنسان، وهنالك حالات سرطانات متفشية طالت كثير من الأسر ومواطني الجزيرة، وعلى مؤتمركم هذا بحث إمكانية رفع قضية ضد إدارة المشروع والدولة من قبل ضحايا أمراض السرطان ونتائج إستخدمات الأسمدة الكيمياوية الفاسدة، كما تم في بلدان آخرى ضد شركات بعينها دفعت تعويضات كبيرة للضحايا وللمناطق التي تمت فيها الإستخدامات الخاطئة، وهنالك العديد من الأمثلة في الهند والولايات المتحدة، ورفع قضية فوق إنه ينصف الضحايا وإقليم الجزيرة ولكنه كذلك سيسلط الأضواء محالياً وعالمياً على مأساة الإقليم، وعلينا الإتصال بمكاتب محاماة عالمية متخصصة في مثل هذه القضايا. * أقترح على المنتدى بعد إجراء المشاورات اللأزمة مع كآفة منظمات المزارعين والمجتمع المدني والقوى السياسية أن يبحث إمكانية إعلان لجنة وطنية من شخصيات قيادية في الداخل أولاً والخارج ثانياً لتصعيد ودعم قضية المشروع على أن تضم اللجنة ممثلين للأُجراء من العمال والنساء ومن ريف ومدن الجزيرة على أن لا تخلو من تمثيل لسودانيين من أقاليم أخرى للدعم المستمر لهذه القضية وربطها بالقضايا الوطنية الأخرى.
في ختام حديثي، لا بد من تحية رموز من مجموعتين إرتبطوا بالناس وبالمقاومة وبالأرض والإستنارة وبتطوير العمل السياسي في الجزيرة، وأعتذر لعدم إمكانية إيراد أسمائهم جميعاً، ولكن لابد لي أن أحيي قادة المزارعين في كل أنحاء السودان، بل وفي السودانين شمالاً وجنوباً من أنزارا في يامبيو إلى طوكر. وأبدأ بالترحم على عمنا محمد عبد الله الهميج الذي رحل مؤخراً، وأن أحيي شيخ الخير ود بريمة، رئيس إتحاد مزراعي النيل الأزرق من 1957م إلى 1971م، والشيخ الأمين محمد الأمين، والشيخين يوسف أحمد المصطفى وبروقاوي، والأعمام عبد الرحمن الماحي وأحمد الماحي، والطيب الدابي، وحسبو إبراهيم، وتحية خاصة للشيخ أزرق طيبة الذي أحيى نار القرأن ومقاومة النظام وإنحاز للفقراء، ونحيي الحاضرين الأحياء منهم والراحلين على حضورهم البهي في المعارك الوطنية، وتحية أخرى خاصة لمجموعة مميزة من المثقفيين والمحترفين الثوريين الذين إنحازوا لقضايا المزارعين وإشعال جذوة المقاومة بينهم، وعلى رأسهم الأستاذ كامل محجوب، ويوسف عبد المجيد، والتجاني الساكن جاد كريم (جلال)، وعبد الحميد علي (عثمان جزيرة) في عليائهم السامق وهم الذين ساهموا في بناء حركة مزارعين مقاتلة ومقاومة. وعملت مع نفر منهم، وأجتهدنا في أن نأخذ قليلاً من بركاتهم.
وفي الختام لكم مني أجزل الشكر وتصبحون على وطن جديد للمواطنة بلا تمييز يوفر السلام والطعام والحريات.
ياسر عرمان 01 يونيو 2016م
"1" وعلى ذكر الراحل يوسف عبدالمجيد ورفاقه أحمد شامي والآخرين، فقد ذكرت في مقالة سابقة منذ عدة سنوات عن الأستاذ والقائد الشهيد يوسف كوة مكي، إن يوسف عبد المجيد كان من الأوئل الذين دعوا للكفاح الثوري المسلح في جبال النوبة، على أبان دكتاتورية عبود في الستينيات، متاثراً بحركات الريف المسلحة وبالثورة الصينية، وإن هذه الفكرة قد وجدت التطبيق العملي حينما جاء يوسف الآخر (يوسف كوة مكي) وطبقها عملياً ولا تزال، وفي النصف الثاني من الثمانينيات وفي أول لقاءاتي بالقائد الشهيد يوسف كوة مكي، ذكرت له ذلك وإقترح الإتصال بيوسف عبدالمجيد للإنضمام للحركة الشعبية. وهذه مجرد خاطرة وتحية ليوسف عبدالمجيد ونحن نتحدث عن تكامل أشكال النضال المختلفة السلمية والمسلحة في سودان اليوم.