في يوم الجمعة الموافق 22يوليو 2016 تشرفت بحضور فعاليات تدشين كتاب سعادة السفير فاروق عبدالرحمن - السودان وسنوات التيه، نصف قرن لم يكتمل - الكتاب في مجمله لا يعطي اي انطباع بان هذا السفر هو اول تجربة للمؤلف، هو عبارة عن سفر جيد السبك والعبارة، سهل الاسلوب، شفاف، فيه تشويق وجاذبية لسرد تجارب ثرة ومعلومات قيمة تخفف علي القارئ عناء القراءة. عندما حدد يوم التدشين الذي تأخر لعامين طلب مني سعادة السفير ان اتحدث في حفل التدشين لدقائق، ليس بوصفي متحدثا بارع او ناقدا املك من ادوات النقد او ناصية البيان، ولكن لأني كنت شاهد عيان علي مخاض وولادة الكتاب. كان لي شرف ان اكون اول من استلم المولود عند خروجه من مطبعة مكتبة جزيرة الورد بالقاهرة، وبالتالي اول من اطلع علية ( بعد الطباعة )، واول من احضر نسخ منه الي منزل المؤلف بلندن. سعدت جدا حينما شملني سعادة السفير بالشكر ضمن اسماء الذين وجه لهم الشكر. لم اتحدث في يوم الاحتفالية لأن المتحدثين والمتداخلين كان جلهم من الذين عاشوا ظروف مماثلة وارتبطوا بعلاقات قديمة مع المؤلف بعضهم رافقه منذ الطفولة والصبا، تحدثوا حديثا شيقا عن المؤلف وتجاربهم معه والبعض كان شاهدا علي بعض الوقائع التي تضمنها الكتاب ففصلوا وأبانوا، والبعض كان تلميذا لوالد المؤلف رحمة الله عليه. كما ان الوقت المخصص لإجار القاعة محدودا لا يسع لتناول محتويات كتاب بمثل هذا الحجم. وانا من الذين يتهيبون المايكروفون لذلك لم اطلب الفرصة التي ضاق الوقت علي طالبيها، فحمدت الله علي ذلك حمدا كثيرا كان الانطباع الاول عندما استلمت الكتاب انطباعا سلبيا، لأني وجدت بين يدي كتابا عدد صفحاته تزيد عن السبعمائة صفحة !، قد يكون الكثيرون مثلي عندما يذهب ليشتري كتابا غالبا ما ينظر الي العنوان ان كان عنوانا مشوقا بحث عن المؤلف، وان كان المؤلف غير معروف في مجال التأليف قد يغامر بأخذ الكتاب ان كان صغيرا في حجمه ليختبر به المؤلف. ففي حالة كتاب سعادة السفير لن تجد لا هذه ولا ذاك. لكن بالطبع في حالتي اختلف الامر لأني عرفت المؤلف وقدراته. اخذت الكتاب معي الي الشقة وبدأت المطالعة، كان ذلك في اواخر رمضان عام 2014 وعند عودتي الي لندن كنت محملا بما تيسر لي من النسخ. اذكر من الاخوة الذين كانوا مهتمين ويتابعون اصدار الكتاب استاذنا حسن تاج السر الذي اتصل وسأل عن الكتاب. وانطباعي عنه، عندما ذكرت له ان الكتاب فيه أكثر من سبعمائة صفحة، رد بعفوية فيها اسف: يا أخي ما يكون اخونا فاروق زاد عدد صفحات الكتاب بالشتائم!! حسن رجل هادئ وحمول ويعلم ان سعادة السفير من الذين يجهرون برأيهم دون مراءة. أحسب أن استاذنا حسن وجد ما يسره بعد اطلاعه علي الكتاب، فقد عبر عن ذلك بشهادته التي بثها في حفل تدشين غطي المتحدثون جوانب عديده من الكتاب، إلا ان الوقت لم يسع للتعرض لجوانب أخري تحتاج لندوات لتناولها. من الاشاء التي لم تغطي، حدث يتعلق بوالد المؤلف المربي الجليل المرحوم عبد الرحمن عيسي. الغريب ان مدخلي لمعرفة قصة الكتاب كان هذا الحدث. قبل سنتين ونصف تقريبا نزلت صورة للمعلم عبد الرحمن عيسي هو وزوجته في صفحة صور السودان القديم علي الفيس بك وهما يقفان امام المسجد ألأقصي بالقدس بفلسطين، يبدو ان بعض السودانيون كان بعد قضاء فريضة الحج بمكة يذهب لزيارة المسجد ألأقصي في القدس بفلسطين، بالطبع كان ذلك قبل عام 67 واحتلال اسرائيل للقدس. ذكر بعض المتداخلون ان المعلم عبد الرحمن هو من درس علي يديه الملك فهد واخيه الملك عبدالله ببخت الرضا. لفت انتباهي التباين في معلومات المتداخلين. اتصلت علي سعادة السفير لأتبين الامر فعرفت منه انه بصدد اصدار كتاب وطلب مني ان احضر المساء لمكتب اخونا التاج علام ليطلعني علي اربعة صفحات من مسودة الكتاب تتحدث عن هذا الموضوع، وقد كان فصححت بعض معلومات المعلقين. هذه كانت واحدة من المعلومات التاريخية التي احتواها الكتاب المؤلف سرد ووثق لملامح من المجتمع السوداني في الحقبة التي دون فيها مذكراته. فقد سجل احداث متنوعة اشترك في صنع بعضها وكان شاهدا علي البعض الاخر. روايته المؤثرة عن احالته للصالح العام او الطرد كما يسميه، وملاحقته ومطاردته لمنعه من إجاد وظيفة تعينه علي توفير العيش الكريم له ولأسرته، تفتح بابا لدراسة ظاهرة المكيدة المستشرية وسط جهاز الدولة السياسي والتنفيذي منذ الاستقلال. تاريخنا الحديث يحدثنا عن نماذج كثيره تتحدث عن من قبضوا ثمن غدرهم علي حساب هلاكهم لزملائهم، مبتغاة لعرض الحياة. بعض الروايات مروي وبعضها مبثوث في كتب المذكرات ونظمت شعرا ابلغها قصيده صلاح احمد ابراهيم التي ينعي فيها الشفيع حين يقول: جابوا معاوية يشهد شوف معاوية وغدرو - طلع خنجره وطعن الشفيع في ضهرو. هذه المكيدة في اقصي مداها اما الشائع والمستشري هو المكيدة لفصل الخصوم والمنافسين من الخدمة او تخطيهم وظيفيا لتخلو الساحة لهم وحدهم يتمرقون في نعيم الوظيفة والاستمتاع بمزايا الدرجات العليا دون ان تأخذهم شفة بالضحية او ادني إعتبار لحق الزمالة. الكتاب يحتوي علي مواقف فيها دلالات وعبر كثيرة. علي سبيل المثال لا الحصر يذكر المؤلف قصة والده الذي ترشح للانتخابات في الابيض عن حزب الامة. بالرغم من علاقاته الواسعة وحب اهل مدينته له الا ان الدائرة ذهبت لمنافسه الذي كان يمثل الحزب الاتحادي لان المنطقة يغلب عليها الاتحاديون. فما كان من والده الا ان اخذ معه اثنين لوري محمله بعصير الليمونادة الي منزل الخصم مهنئا له مع حمولة اللورين الذي ذكر بانها كان معدة للمهنئين في حالة الفوز وبما انه لم يفز اتي بها لمن فاز. قصة اخري وردت بالكتاب ولحسن الحظ نحن كنا شهود عليها. قبل حوالي عشر سنوات انتخبت الجالية السودانية سعادة السفير ليكون رئيسا لمجلسها، بعد سنتين وعند انتهاء اجل الدورة حاولنا ان نثني سعادة السفير ليقبل الترشيح لدورة اخري لأننا كنا نعتبر ان تلك الدورة واحدة من افضل الدورات، الا انه رفض وبإصرار، معللا ذلك بوجوب توزيع الفرص وتداولها بين الناس، لأنه يعلم ما حاق بالسودان نتيجة الكنكشة والإستماته في الحفاظ علي الكرسي. من افضال هذا الكتاب ان المؤلف كان شفافا ومباشرا عند تعرضه للمكيدة والكائدين. ففي قصته المؤلمة لعملية طرده من الخدمة، يحكي قصة زميل له كان مفصولا عن الخدمة في عهد النميري. عندما أصبح المؤلف رئيسا لنقابة الدبلوماسيين عمل مع زملائه في النقابة علي إرجاعه واعادته للخدمة. وقد تم لهم ذلك وتلقي المؤلف رسالة شكر من الزميل العائد للخدمة. وعندما اصبح المؤلف وكيلا لوزارة الخارجية تلقي اشارة من وزيره للنظر في امر المفصولين تعسفيا. كونت لجنه وكان نفس الزميل مفصولا عن الخدمة وتمت اعادته للخدمة ضمن المعادين وللمرة الثانية. كان هذا الزميل أقدم واكبر سنا من المؤلف، فلم يرضي ان يكون المؤلف اعلي منه وظيفة، فبدأ يدس الدسائس لاعتقاده انه احق بكرسي الوكيل. ما ان غادر المؤلف سفيرا لدي الاتحاد الأوربي، حتي تحققت رغبة الزميل ليصبح وكيلا للخارجية وبدأت معاناة المؤلف مع الوكيل الجديد. بعد ان تم تعين هذا الزميل الوصولي وزيرا للخارجية، وفي اقل من شهرين من تسنمه منصب الوزير تلقي منه المؤلف خطاب الاحالة للصالح العام في تراديجية اشبه بمأساة بروتس. كما انه يذكر قصة وزير خارجية سابق، تواضعت علي ترشيحه اغلب الدول ليتبوأ منصبا مرموقا بالأمم المتحدة، الا انه فقد المنصب بسبب عدم الحصول علي موافقة حكومته مما افقد السودان تمثيلا رفيعا في منظمة اممية مرموقة. كثيرون هم من انتاشهم قلم المؤلف. الدساسون والمتسلقون الذين اسماهم بالمبدلين لجلودهم. ويعيب عليهم انكسارهم امام الزعماء والسلاطين ودخول بعضهم تحت عباءة الطائفية او الحزبية او اي تنظيم ليحقق لهم طموحاتهم الشخصية. رغم سوء الحظ الذي لازم المؤلف في بعض الاحيان الا انه يعرض لنا كثير من نجاحاته التي حققها وهو مستقلا دون التقيد او الالتزام بإيدلوجية معينة. استطاع المؤلف ان يدخل اتحاد الطلاب بالجامعة، ونقابة الدبلوماسيين، و وكيل وزارة الخارجية، وعضوا في بيوت الشباب العالمية و اللجنة الاولمبية. كأنما يشير من طرف خفي لهؤلاء ان تحقيق الطموح الشخصي ممكن دون انكسار حتي الأموات الذين اصبح حسابهم في يد الملك الغفور، لم يتركهم وشانهم. في بادرة تستحق الاشادة وسنة نأمل ان يقتدي بها الكل لنتحرر من ثقافة عفا الله عن ما سلف، وأذكروا محاسن موتاكم، وخلوها مستوره...الخ. بلا شك ان هذا السلوك هو أحد العوامل التي تعيق تقدم البلاد - من امن العقوبة أساء الادب. هذه دعوه لاستئصال هذا الورم الخبيث وكنس وإماطة الأذي عن الطريق ليعبد طريق الوطن حتي يسير نحو النمو والتقدم نجنب أنفسنا والاجيال القادمة من الحفر التي ما ان نخرج من احداها الا وقعنا في أخري. بسرده لرحلة حياته المبذولة بخيرها وشرها، لا شك انه قد برأ ذمته من الخرص وعدم السكوت عن الحق ونقل تجاربه للأجيال التي بلا شك ستكون هاديا وعبرة لهم. بل ان بعض مشاهداته في حقبة الخمسينات والستينات من القرن الماضي قد يروا فيها شيتا اصلو ما شافوه، بل قد لا يتسع خيالهم لاستيعابه. يؤكد المؤلف علي صدق ما خطت يراعة في جرأة وصراحة أصاب البعض رشاشها، بعبارات من شاكلة انه غير نادم وغير مهزوم في اشاره لرضائه وراحة الضمير التي انتابته بأدلائه لشهادته علي العصر في الختام لا أجد غير هذين البيتين من الشعر:- وما من كاتب الا سيفني - ويبقي الدهر ما كتبت يداه ولا تكتب بخطك غير شئ - يسرك في القيامة ان تراه لا شك ان سعادة السفير فاروق عندما يري كتابه هذا يوم القيامة، سيكون ان شاء الله من المسرورين عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.