Abdullahi Algam [[email protected]] ودع الدكتور بشير أحمد يوسف علقم أصدقاءه ذلك اليوم في مدينة "عين الدفلي" القريبة من مدينة وهران وأدار محرك سيارته في طريق العودة إلى مدينة "الجزائر" العاصمة. عبثا حاول الأصدقاء اقناعه بقضاء الليلة معهم حتى لا يداهمه موعد بداية حظر التجول وهو في عرض الطريق ولكنه اعتذر بشدة وأصر على الذهاب لأن جدول أعماله مزدحم جدا في اليوم التالي.. قال لهم إنه سيتوقف ليقضي الليلة في أول بلدة تصادفه مع بداية حظر التجول ثم يستأنف رحلته للعاصمة كسبا للوقت... ودعوه هذه المرة بحرارة غير عادية رغم أنهم يتبادلون الزيارات وتجمعهم اللقاءات أكثر من مرة في الشهر الواحد.. هكذا غادر الدكتور بشير "عين الدفلي" هو يحمل على مقعد سيارته الخلفي جهاز تلفزيون جديد هدية لصديق جزائرى بمناسبة زواجه. جاء بشير إلى الجزائر قبل سنوات ليدرس طب الاسنان وكان يحلم منذ صغره أن يصبح طبيبا للأسنان في يوم من الأيام ولهذا السبب انقطع عن الدراسة في المدرسة الصناعية بعد أن أمضى فيها سنتين كاملتين وانتقل لمدرسة ثانوية بادئا بالسنة الأولى لأن الدراسة الثانوية هي التي تقود لدراسة طب الأسنان ولهذا أكمل المرحلة الثانوية في خمس سنوات بدلا من ثلاث. ثم شد الرحال لخارج السودان لعدم وجود كلية لطب الأسنان آنذاك في السودان فاستقر في الجزائر حتى أكمل دراسته وتخرج طبيبا للأسنان ثم طاب له المقام فواصل العمل واستطاع عبر السنوات الطويلة تكوين رصيد ضخم من الأصدقاء والمعارف من أهل تلك الديار والمقيمين فيها.. كان بقلبه المفتوح وداره المفتوحة يقوم بالدور الذي عجزت أو تخلت السفارة السودانية في الجزائر عن القيام به. أصبحت داره نلاذا للكلاب السوجانيين يعالج أمورهم المختلفة في المؤسسات التعليمية ةالإدارات الحكومية ويوفر المأوى والعلاج والعون المادي لكل محتاج منهم ، فالرجل "شيخ عرب" بالوراثة في رداء طبيب. لم تخل داره كذلك من السودانيين الذين يجيئون الجزائر بحثا عن العمل وعابري السبيل الذين تتقطع بهم الأسباب في تنقلهم بين ليبيا وخارجها في ظل الظروف المعيشية التي أطبقت بأهل السودان ودفعتهم لترك أوطانهم. وعندما تردت علاقات الجزائر مع سودان التوجه الحضاري بقي الطلاب السودانيون في العاصمة بمنأى عن الانعكاسات السلبية التي تحدث في مثل هذه الظروف إلى حد كبير. وللدكتور بشير فضل كبير في ذلك فقد كان سفارة شعبية قائمة بذاتها تمثل الشعب السوداني لدى الشعب الجزائري. كان شديد الحب والوفاء لشيخ المبدعين الجيلي عبدالرحمن ولازمه أثناء مرضه الأخير ورافقه في رحلته العلاجية للقاهرة وبقي بجواره حتى آخر لحظة. والدته لاحقته برسائلها المتكررة ورجاءاتها التي لا تنقطع ليحقق لها حلمها.. حلم كل أم برؤية ولدها عريسا. كان شديد البر بوالدته محبا لها..أوكل لها مهمة اختيار شريكة العمر وليس مجر ترشيحها، ووافق بلا تردد على اختيارها الذي جاء وكأنها كانت تقرأ أفكاره من البعد. وتحدد تاريخ الزواج ولم يتبق على سفره سوى أيام قليلة.. ولهذا كان عليه انجاز أشياء كثيرة في هذه الأيام القليلة ولهذا أيضا آثر مغادرة "عين الدفلي" في تلك الساعة رغم رجاءات أصدقائه... كان برنامجه لليوم التالي يتضمن الذهاب لمسجل إحدى الجامعات لإنهاء إجراءات استيعاب قادم جديد من السودان ، ولقاء مشرف في مجمع سكني بمعالجة أمر يخص بعض سكان المجمع من الطلاب السودانيين.. وكان لا بد له من قضاء بعض الوقت في مقر عمله الخاص الذي شغلته هموم الآخرين عن الانتظام فيه في الآونة الأخيرة. كان سيذهب بعد الظهر لاستكمال شراء بعض لوازم العرس ثم مراجعة شركة الطيران لتأكيد الحجز له ولبعض إخوته الطلاب الذين اختاروا أن يصاحبوه للسودان لمشاركته الأفراح ولذلك كان تاريخ الزواج يقع في فترة إجازة الجامعات ليتمكن هؤلاء الذين أحبهم وأحبوه من السفر معه.. كان يحس بالتزام أخلاقي نحوهم ولم يفكر في يوم من الايام في الانكفاء على ذاته ولو بقدر معقول توفيرا لما يتكبده من جهد ووقت ومال.. كان يجد متعقة حقيقية في مساعدتهم .. في صمت دائما. كان الدكتور بشير سيختتم يومه التالي بإجرا مكالمة هاتفية للسودان ليطمئن والدته أن كل شيء على ما يرام وأنه سيحضر في التاريخ المتفق عليه، فوالدته ما فتئت تذكره مرة بعد أخرى بتاريخ الزواج وكأنها كانت تخشى أن يفوته القطار إلى الابد. كان سيذهب كذلك لتهنئة صديقه الجزائري العريس ويقدم جهاز التلفزيون الذي كان يحمله في سيارته هدية له.. رغم القتل والدماء والرصاص والمدي والفؤوس ونكهة الموت ما تزال الحياة مستمرة ويزال الناس يستطيعون أن يجدوا طريقهم للفرح والحياة. انقضت ساعتام منذ أن غادر الدكتور بشير "عيد الدفلي" ووصل لبلدة "بومدفع" منتصف الطريق إلى العاصمة. عقارب الساعة تقترب الآن من العاشرة مساء بداية حظر التجول.. إذن سيمضي الليلة مع صديقه النقيب حمروش قائد منطقة "بومدفع" العسكرية..رأى على البعد حاجزا جديدا .. لم يكن هذا الحاجز موجودا عندما مر هذا الصباح في طريقه من العاصمة إلى "عين الدفلي".. كان الحاجز غارقا في الظلام والخوف والصمت مثل البلدة إلا من أضواء خافتة تتناثر هنا وهناك وكأنها تشير إلى أن الحياة ما زالت موجودة وأن "بومدفع" ليست بلدة يسكنها الأشباح بالكامل... توقف عند الحاجز الذي كان خاليا تماما من الناس.. صاح صوت يطلب منه النزول من السيارة.. كان ذلك آخر ما سمعه الدكتور بشير في الدنيا إذ انهمرت عليه زخات الرصاص من كل صوب. غرقت السيارة في الدماء والزجاج المتطاير.. تناثر جهاز التلفزيون الهدية قطعا صغيرة.. قتلوا الدكتور بشير.. هرع النقيب حمروس إلى مكان (المعركة) وما إن فتح بقايا السيارة وتعرف على شخصية قائدها إلا وأخذ يصيح (وعلاش؟ وعلاش؟ أراهو ناس ملاح) أي : لماذا؟ لماذا؟ هذا إنسان طيب. الرواية الرسمية الأولى: أن قائد السيارة رفض الاستجابة لنداءات الوقوف فأطلق الجنود الرصاص على السيارة الهاربة. الرواية الرسمية الثانية: السيارة توقفت تماما قبل الحاجز ولكن الجنود أطلقوا عليها الرصاص عن طريق الخطأ لأنها بنفس لون ومواصفات سيارة مطلوبة. الرواية الرسمية الثالثة والأخيرة: الجنود الحكوميون لم يطلقوا النار أصلا على السيارة والسلطات تعد بإجراء التحقيقات وملاحقة (القتلة) و(تأسف) لمصرع الدكتور بشير. في يوم كئيب من أيام شهر سبتمبر 1994م هبطت طائرة في مطار الخرطوم وهي تحمل وما بين (الوعلشة) و(الأسف) طوي ملف الدكتور بشير. في عام 1840م صاح الجنرال الفرنسي بيجو حاكم الجزائر العسكري في جنوده: اقتلوا كل حي.. احرقوا كل شيء.. فاندفع الجنود يقتلون كل حي ويحرقون كل شيء.. الآن يقومون بأنفسهم بقتل كل وحرق كل شيء بأيديهم لا بأيدي الجنود الفرنسيين.. تحولوا إلى قتلة وقتلى.. كل واحد يمتلك الصواب دون غيره ويمنع على الآخر حقه في الحياة. في يوم كئيب من أيام شهر سبتمبر 1994م هبطت طائرة في مطار الخرطوم وهي تحمل جثمان الدكتور بشير يرافقه عدد من الطلبة السودانيين القادمين من الجزائر.. كانوا هم نفس الذين أعدوا العدة لمرافقته لحضور العرس المرتقب. أوفوا بوعدهم تماما وذهبوا إلي حيث كان سيقام العرس في قرية "أم دوينة" في الجزيرة، وهناك واروا العريس الثرى ثم قفلوا راجعين. (يوليو1998م) خاتمة: (لم تبد حكومة جمهورية السودان اهتماما بالأمر ولم تطالب وزارة الخارجية السودانية باعتذار رسمي من الدولة الجزائرية، ويظل الدم السوداني برخص التراب)