الهلال يرفض السقوط.. والنصر يخدش كبرياء البطل    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الجيش ينفذ عمليات إنزال جوي للإمدادات العسكرية بالفاشر    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالفيديو.. تاجر خشب سوداني يرمي أموال "طائلة" من النقطة على الفنانة مرورة الدولية وهو "متربع" على "كرسي" جوار المسرح وساخرون: (دا الكلام الجاب لينا الحرب والضرب وبيوت تنخرب)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    عصار تكرم عصام الدحيش بمهرجان كبير عصر الغد    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أساس الفوضى (34) .. بقلم: د. عبدالمنعم عبدالباقي علي
نشر في سودانيل يوم 08 - 09 - 2016


بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
نواصل طرحنا النَّظري وتحليلنا لحديث المصطفي صلي الله عليه وسلَّم، عن شرار النَّاس، تناوُلاً لنهايته لنتعلَّم عن أسوأ هذه المجموعات قاطبة، بعد أن تدرَّجنا من قليلة الضَّرر إلى أكثرها ضرراً.
وقلنا بأنَّ النَّرجسيَّة والطَّاغوتيَّة هما وراء هذه الظَّاهرة، وبينهما تناسب طردي، ومثلما بيَّنا درجة النَّرجسيَّة الضَّارة والنَّافعة فإنَّنا سنُبيِّنُ، إن أذن الله سبحانه وتعالي، درجة الطَّاغوتيَّة الضَّارَّة أولاً ثُمَّ نتناول النَّافعة والشُّروط التي تكفل نفعها.

قال المصطفي صلَّي الله عليه وسلَّم: أفلا أُنبِّئكم بشرٍّ من ذلك؟ قالوا: بلى يا رسول الله.
قال: "من لا يُرجى خيره ولا يؤمن شرُّه".
وهنا يجب أن نعلم أنَّ الإنسان قد وصل للدَّرْك الأسفل من انعدام الإنسانيَّة، إذ هو أضلُّ سبيلاً من الحيوان الذي لا يقتل أهله ولا يكذب عليهم، وهي مرحلة تكلُّس القلب النِّهائية التي وصفها المولي عزَّ وجلَّ بأنَّها أقسي من الحجارة، وهي درجة الطَّاغوتيَّة العالية وعلامة ذلك اليأس من كلِّ خير يُرجي منه وانعدام الثِّقة تماماً فيه.
ولا تتمُّ هذه المرحلة بجهل الإنسان؛ فالجاهل يُمكن تعليمه، وإنَّما بكمال علمه بعد ظهور الدَّليل القاطع، والذي يأمل المُشاهد للأمر أنَّه سوف يُغيِّر من سلوك مثل هذا الإنسان، ولكن هيهات: "ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‬"، وهذه الآية جاءت بعد معجزة إحياء الموتى لبني إسرائيل: " فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‬". ولذلك المولي عزَّ وجلَّ يوضِّح اليأس الكامل من تغيير مثل هذا الإنسان: أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ؟ ‬
هذا حسم للنِّقاش الدَّائر في أوساط العلوم النَّفسانيَّة عن إمكانيَّة التَّغيير لمثل هذه الشخصيَّة.
وكلّ دراسات النَّفس تُثبت أنَّ الشَّخصيَّة التي بها طَاغوتيَّة عالية أي سايكبوثيَّة طاغية، هي متكلِّسة القلب لا شعور فيها ولا اهتمام تُبديه تجاه مشاعر الآخرين، وهي إجراميَّة السلوك ولا تندم على فعلها الإجرامي الغير مسئول والمُتكرِّر، ولا تعتذر عنه، ولا تُلقي بالاً للقوانين أو الأعراف أو المُثل الاجتماعيَّة.
وأيضاً ليس لديها القدرة على الإخلاص للآخرين أو النَّجاح في علاقاتها الشَّخصيَّة، وتهيج لأتفه الأسباب، وتتصرَّف برعونةٍ وعنفٍ لا يتماشيان مع الموقف وتَفْجُر في الخصومة. وهي شخصيَّة لا تثق في أقرب الأقربين إليها وحذِرةٌ دائماً، وتتوقَّع الأسوأ من النَّاس وأسوأ الاحتمالات دائماً، وتبني تصرُّفاتها على هذا الأساس ولذلك فهي تُحبُّ التَّحكُّم وتتحكَّم في كلِّ صغيرة وكبيرة.

كما أنَّها لا تتعلَّم من تجاربها وتعيد نفس السلوك؛ بل وتزداد سوءاً حتى وإن أُنفقت عليها أموال الدُّنيا كلَّها عقاباً أو علاجاً، ولا تلوم نفسها أبداً، بل وتجد من التَّبرير ما تحاول به شرح أسباب صراعها مع الآخرين أو المجتمع، وتُنهي تبريرها باستنتاجٍ يلوم الآخرين على تصرُّفاتها ويُلقي عليهم بالمسئوليَّة.
ومن صفات هذه الشخصيَّة الجُبن، وإدمان الكذب، وعدم الصدق في الوعد، حتى أنَّ نوع كذبها يُعرف بالكذب القهري؛ أي أنَّ الإنسان لا يستطيع أن يُقاوم الرَّغبة في الكذب، ومن كثرة كذبه يُصدِّق أكاذيبه التي يتوهَّم أنَّها حقيقة، ويستمرُّ في ترديد أكاذيبه لأنَّه لا يتذكَّر ما قال من قبل؛ لأنَّه لا يحكي عن واقعٍ حصل ولكن من خيالٍ مصطنع، ولذلك فقد قيل: "إذا كنت كذوباً فكُنْ ذَكُوراً"؛ أي تذكَّر أكاذيبك الأولي حتى لا تقول شيئاً مُختلفاً. وهي لا تتورَّع عند كسب رزقها من أيِّ المشارب أتي ولذلك فكذبها وأكلها للحرام متلازمان تلازم وجهي العملة: " سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ "، والكذب له وجه آخر وهو الطُّغيان: " كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا‬".
والطغيان هو تجاوز الحدَّ المقبول والتجبُّر والاستبداد والإسراف في الظُّلم، بينما الطَّغام هم أوغاد النَّاس، ولذلك جاء وصف المولي عزَّ وجلَّ لقائد ثمود بأشقاها، إذ لا بُدَّ ‬من قائدً وتابعٍ، والقائد هو الذي تكون فيه الطَّاغوتيَّة في قمَّتها.
فإذا ما تأمَّلت حال إنسان يكذب فهو لا بُدَّ وأن يكسب حراماً، وإن فعل ذلك فلا بُدَّ أنَّه طغي قبل ذلك ولا أمل في إصلاحه أو تغييره حتى وإن تظاهر بذلك.
ومن صفاتها أيضاً عدم قدرتها على تقمُّص تفكير أو شعور الآخرين، والذي يؤدِّي لتبلُّد الإحساس بالآخرين، وهو دليل انعدام الرَّحمة.
وأيضاً من صفاتها التَّهوُّر والمُجازفة، ولذلك فتصرُّفاتها مُتعجِّلة ومُندفعة ومن غير اعتبار لسلامة الآخرين؛ حتى وإن كانوا من أهله الأقربين بما فيهم أطفاله، ولكنَّها قد تُخطِّط لجريمة بتؤدة، أو تندفع في ارتكابها خاصَّة إذا كانت تحت تأثير الخمر أو المُخدِّرات المادِّيَّة والمعنويَّة.
وهي أيضاً لا تعرف التَّوسُّط في الأشياء والتَّصرُفات، فقد تُغدق الاهتمام والعاطفة على شخصٍ حتى تجعله يُحسُّ أنَّه أفضل النَّاس قاطبة ولكنَّها قد تقضي على نفس هذا الشَّخص ببرود وبلا وخز ضمير إذا ما هدَّد مصالحها.
وهي ذات شعورٍ طاغٍ بالعظمة والأهميَّة والكِبر، ومثل هذا الشُّعور هو ما سمَّيناه بالتَّعويض الزَّائد وقد وصَّفه الفاروق عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه: "ما وجد أحد في نفسه كبراً إلا من مهانة يجدها في نفسه".
وهي أيضاً ذات قدرة على السخرية من الآخرين وعلى خداعهم واستغلالهم، وتستخدم السخرية لمُهاجمة من تظنُّ منافستهم أو خطرهم على سلطتها أو مكانتها، أو قد تستخدم كلَّ الوسائل للقضاء عليهم ولا يطرف لها جفن، فهي بلا بصيرة لا تري اعوجاج رقبتها وفي رأيها أنَّ الجميع مُخطئ ما عداها.

وهي في العادة تعيش على عطاء الآخرين؛ تأخذ ولا تُعطي، إلا إذا كان في ذلك كسب لها. ولكن برغم ذلك فهي في العادة شخصيَّة جذَّابة، وذات حضورٍ طاغٍ يُقزِّم الآخرين، ومحبوبة بتطرُّفٍ أو مكروهة بتطرُّفٍ، وفوق ذلك فهي فَكِهةٌ، وطليقة اللسان، وقد تكون موهوبة في أشياء كثيرة.
وقد أثبتت الأبحاث في المستشفيات الإنجليزيَّة النَّفسانيَّة لهذه المجموعة من الأفراد الذين يُعانون من طاغوتيَّة عالية، أنَّها قد ازدادت إجراماً بعد سنواتٍ طويلة من العلاج النَّفساني، وقد كانت نتيجةً أذهلت المُتخصِّصين في المجال وأثبتت عدم جدوى علاجهم، بينما تعافي مُعظم الذين يُعانون من أمراضٍ عقليَّة أو عاطفيَّة أدَّت لارتكابهم جرائم.
وهذه المستشفيات تشبه السجون مثل مستشفى "بروُدْ مُورْ"، بل ويعتبرها الجمهور سجوناً، وهي ذات حماية عالية للمجتمع، وذات تأمين العالي ضدَّ هروب المرضي، وهي مُخصَّصة للمجرمين الخطرين الذين يُعانون من مرضٍ نفساني عقلي، أو عاطفي، أو من طاغوتيَّة عالية تُسبِّب خللاً في الشخصيَّة فتُصبح مجرمة، ويتمُّ الإدخال لها من المحكمة الجنائيَّة بأمرٍ قضائي.
والشَّخصيَّة التي بها طاغوتيَّة عالية تُعتبر في نظر القانون والمجتمع أنَّها تالفةٌ نفسانيَّاً واجتماعيَّاً لأنَّ تصُرّفاتها تجاه المُجتمع غير مسئولة ومُضرِّة، وهناك اختلاف كبير بين المُختصِّين على الأسباب التي تؤدِّي لنشوء هذه الشَّخصيَّة، وأيضاً على إمكانيَّة وكيفيَّة علاجها أو تغييرها.

وفي بريطانيا بعد إلغاء حكم الإعدام في عام 1964 ارتفعت جرائم القتل بنسبة عالية، وكان السَّبب الوحيد بعد البحث الذي قامت به وزارة الدَّاخليَّة، هو فعل هذه المجموعة القليلة العدد من الشخصيَّات ذات الطَّاغوتيَّة العالية، والتي كانت تخاف من عقوبة الإعدام من قبل، فلمَّا ضمنت حياتها أطلقت عقال وحشيَّتها.
والمفارقة هي أنََّ بعض هؤلاء الشَّخصيَّات سخروا من سجنهم ومحاولة علاجهم وتأهيلهم، بل وطالبوا بإعدامهم لأنَّهم سيُعاودون الإجرام حال إطلاق سراحهم، وقالوا بأنَّهم يقضون الوقت في تخطيط الجريمة الكاملة ويتعلَّمون من بعضهم البعض أساليب الجريمة بينما يتظاهرون للمُعالجين النَّفسانيين بالاستجابة للعلاج.
والسبب في طلبهم هذا لربما أن تكون هذه المجموعة أكثر بصيرة بنفسها، أو في حالة نزاع نفساني بعد أن استيقظ ضميرها، أو أنَّها زهدت في الحياة عندما فقدت الأمل في إطلاق سراحها، أو في تحمُّل الحياة فهي مجموعة غير متجانسة ودرجات طاغوتيِّتها تختلف من شخص لآخر حسب ظروف تنشئته أو ظروف ارتكابه للجريمة.
ولكن البعض منهم يرون في السِّجن مكاناً آمناً لأنفسهم ولمجتمعاتهم لأنَّهم لا يستطيعون التَّحكُّم في مشاعرهم أو تصرُّفاتهم، ولذلك ما إن يُطلق سراحهم حتى يُعاودون ارتكاب الجرائم بل والبعض منهم يذهب للشرطة طواعيَّةً طالباً أخذهم للسجن.
ومن الأسباب التي يُبرِّرون بها تصرُّفاتهم هذه، والتي تبدو أنَّها مُجافية للمنطق، أنَّهم يُواجَهُون بتوَقُّع التَّغيير من المجتمع ومن أهلهم والحياة كأيِّ شخصٍ طبيعي، ولكنَّهم يجدون صعوبة في ذلك ولا يستطيعون التَّواؤم مع الحياة خارج السجن؛ لأنَّ فيها من القوانين والأعراف الكثيرة الغير واضحة والغير مُتوَّقعة، بينما السِّجن قوانينه واضحة ولا تتغيَّر ويُهيئ لهم سياقاً ومناخاً يتحكَّم في أجسامهم وتصرُفاتهم، لفشلهم في التَّحكُّم الذَّاتي في عواطفهم وتصرُّفاتهم، لذا يشعرون بنوعٍ من الأمن الدَّاخلي وراحة من عبء المسئوليَّة.
وقد أجاب مستر جيمي نواك مدير مستشفى "برُودْ مُورْ" في عام 2011 على اعتراض الجمهور على الموارد الكبيرة التي تُصرف على هذه المجموعة التي سبَّبت أذيً جسيماً وألماً لضحايا ولعائلاتٍ كثيرة:
"أعلم أنَّه ليس من العدل أو الإنصاف أن نفعل ذلك، ولكن ما هو البديل؟"، والبديل بالطبع قد ألغته السياسة ويطالب به المجرمون أنفسهم.
وتختلط المسائل ظاهريَّاً عندما يكون ذو الطَّاغوتيَّة العالية من قادة الأحزاب السياسيَّة، أو الجماعات العقائديَّة، فيسعي بتصرُّفاته المناوئة للنِّظام السائد لدخول السِّجن، أو للاختفاء حتى يزيد من رصيده السياسي وترتفع قيمته في نظر النَّاس باسم المبدأ، أو الدِّين، أو الوطن، بينما هذه الشخصيَّات لا تستطيع أصلاً التَّواؤم مع الحياة الطَّبيعيَّة، لأنَّ أفكارها مثاليَّة لا تتماشي مع واقع الحياة المُرتبك، وذات تفكير اختزالي يري الأشياء أبيض وأسود ولا مجال في تفكيرها للمناطق الرَّماديَّة التي تُفسِّر الواقع أكثر من التَّبسيط المُخل له الذي ينتهجونه.
وفي غالب الأمر فإنَّ فترة سجن مثل هذه المجموعة تكون أكثر أوقاتها سعادة وإنتاجاً، وأجمل ذكرياتها، لأنَّها بعيدة عن الحياة الطبيعيَّة الواقعيَّة بمتطلَّباتها اليوميَّة وسعيها في سبيل أطفالها مثلاً وتأمين وسيلة معاشهم مثل بقيَّة النَّاس بما فيها من عنت، بل ومعظمهم لا وظيفة واضحة له ولا تعرف مصدر دخلهم، على عكس ما يبدو للنَّاس الذين يحاربون في سبيلهم لإطلاق سراحهم.

وهي في النِّهاية تقع بالفعل أسيرة سجن الهالة التي صنعوها لأنفسهم أو صنعها لهم النَّاس، ولا تستطيع أن تُغيِّر من واقعها حتى وإن أرادت، فهي لذلك تستبدل سجناً بسجنٍ أرحب ولكنَّه ليس بأرحم، إذ العيش تحت توقُعات النّاس العالية أقسي وتضحيتها من أجل الجميع هو الثَّمن لاستمرار الهالة. والنَّاس، خاصَّة البدائيُّون منهم، يرفعون "البطل" على قمَّةٍ فوق مرتبة البشر، ولذا انتقادهم له يكون عنيفاً لأنَّه يُمثِّل المثال الذي يتوقون له ويفشلون في الحصول عليه لبشريَّتهم الضَّعيفة، وإذا ما سقط في أعينهم فإنَّهم يهبطون به إلى قرار مقتهم والتَّبشيع به.
فمثل هذا الشَّخص هو ضحيَّة أيضاً؛ مثل الضَّحايا البشريَّة التي كان يُقدِّمها النَّاس للآلهة في الماضي لترضيتها من أجل أن تستمر حياتهم العاديَّة بصغائرها وطمعها، وهذه خدعة نفسانيَّة يلجأ لها النَّاس لتنظيف ضميرها من نزاع التَّناقض المعرفي والسُّلوكي، حتى تتمكَّن من الوصول لمرتبة الخلاص الرُّوحي المؤقَّتة والعابرة لتُعطيهم العذر للاستمرار في الإخفاق.
وهو مذهب البشر منذ الأزل لتوفيق العيش بين الواقع والمثال.
ولذلك بينما تُصبُّ اللعنة على المجرمين العاديين الذين قد يسرقون بيتاً، أو يقتلون أحداً، تنال هذه الشخصيَّات ثناء شعوبها وعبادتها وتمجيدها في نفس الوقت، بينما يندر أن ينجو أبطالها منها من عمل إجرامي في حقِّ نفس الشُّعوب قتلاً، وسرقةً، وتجويعاً وتشريداً للملايين منها، ولكنَّها لا تَعْدَمْ أن تجد من التَّبرير ما تلوم به الآخرين، أو من الظَّروف العامَّة ما تُبرِّر به سلوكها، وأيضاً تجتهد نفس هذه الشُّعوب لتجدُ لها من الأعذار ما يُحيِّرُ اللبيب.
وعلم النَّفس الحديث لا يزال يجادل في طبيعة هذه الشَّخصيَّات؛ هل هي مريضة فعلاً أم أنَّها شرِّيرة مسكونة بالشرِّ الخالص ولا تفسير آخر لها؟ وعندما تنبهم الحدود بين الحالتين تجد السؤال الذي يطرق الآذان: "هل هذا الشخص مريضٌ أم شرِّير؟".
والسَّبب المُهمُّ في ذلك هو تحديد ما يُسبِّب السلوك حتى يمكن تحديد المسئولية على السلوك. فإذا كان السَّبب هو المرض فتُرفع المسئوليَّة ويكون العلاج هو الحُكم، أمَّا إذا ما كان هو محض الشَّر، فيكون العقاب هو الحُكم.
والمشكلة التي تُعانيها مُجتمعات الغرب خلقها الفلاسفة وأطبَّاء وعلماء علم النَّفس عندما شخَّصوا هذه الشَّخصيَّات كمرضي نفسانيين ودافعوا عنها، ولأنَّ القوانين تصنعها النُّخبة، فقد وقع القضاء في ورطة بين رأي شعوبها، التي تري بفطرتها السليمة أنَّ السَّبب هو الشَّر المحض المُتمكِّن من هذه الشَّخصيَّات وليس المرض؛ ممَّا يعني بأنَّها مسئولة عن تصرّفاتها، وبين أقوال الفلاسفة والمُختصِّين، والتي تُصنع منها قوانين الدَّولة وسياساتها، ولذلك فقد لجأوا إلى حلٍّ وسط وهو سجنهم في مستشفيات.
فاللبراليَّة مثلاً تقوم على مبدأ الحريَّة واحترام حقوق الإنسان، وهي وراء إلغاء عقوبة الإعدام وتثبيت الحقِّ الإنساني للمجرمين، ولكنَّها تناست الحقّ الإنساني للضَّحايا. أمَّا التَّبرير الذي اتَّبعته فلسفيَّاً فهو أنَّ الشَّخص إذا ما كان بربريَّاً مُتوحِّشاً واعتدي على إنسانٍ ما، فهو فعلٌ حدث في الماضي ولا يُمكن تغييره، فلا يصح أن يكون الشَّعب المُتحضِّر في الحاضر، متوحِّشاً مثله ويعتدى عليه، ولكن يجب أن نحترم حقَّه في الحياة ونُعطيه كل الفرص لتأهيله ليصبح مواطناً صالحاً، وبذلك نسوا أو تناسوا المستقبل، لأنَّ الوقاية خير من العلاج، بناءً على افتراضٍ فلسفيٍّ وليس على حقيقة علميَّة ممَّا ورَّطهم في محنتهم الحاليَّة.
وسبب وصف هذه الشَّخصيّات بالشَّرِّ لأنَّها قد لا تحتوي على أي نوعٍ من الإنسانيَّة تماماً، بل عطفها على الحيوانات أكبر، وتبدو تصرُّفاتها مُخطَّطة ومُتعمَّدة، ممَّا عزَّز الأفكار الدِّينيَّة في أنَّها شيطانيَّة المصدر وهو ما تُثبته الآية الكريمة وما يثبته وصف المصطفي صلي الله عليه وسلم "بشرار القوم".
ولذلك فقسوة القلب من معايير الشخصيَّة الطَّاغوتيَّة، لانتفاء أي رحمة من قلب هذا الشخص وتمام نرجسيَّته حتى لأهله المُقرَّبين، فمثل هذا الشَّخص يمكن أن يقتل ابنه أو يسجنه، إذا زاحمه في سلطة زمنيَّة بلا تردُّد ولا شفقة، ويظنُّ أنَّه يُحسن صنعاً تبريراً بمصلحة الشَّعب أو الدِّين أو ما شابه.
والشَّخصيَّة الطَّاغوتيَّة تنقسم إلى مُجرمة وخلّاقة. فالمجرمة تُعادي المجتمع وتعتمد الجريمة المُتعارف عليها كالقتل والسرقة كوسائل لتحقيق أغراضها، مثل الذين يتردَّدون على السجون.
أمَّا الخلّاقة فأمرها أدهي وأَمَرْ لأنَّ ضررها أكبر شمولاً؛ إذ أنَّها ذكيَّة، وصفاتها مثل الإقدام والتَّهوُّر، وذلاقة اللسان، وجاذبيَّة الشَّخصيَّة أو قوَّتها العقليَّة تُؤهِّلُها لقيادة النَّاس في أوقات الأزمات أو الحروب، فهي تجذب النَّاس، وتُغامر بحياتها، وتُظهِرُ تمسُّكاً بالأيديلوجيَّة أو بالمبادئ أكثر من غيرها، ولذلك فمعظم القادة في الجيوش أو في البلاد من هذه النَّوعيَّة، فهي تزدهر باكتساب القوَّة، وتغامر بالسَّعي لها وتدعيمها وبنائها.
أو قد يكونون من قادة العمل السياسي، وإذا ما تسنَّموا السلطة فقد يسوسون أهلهم بشفاء الغيظ فيوردونهم موارد الهلاك، أو قد يرفعونهم إلى قمم الفلاح، وكلُّ هذا يعتمد على ثلاثة أشياء وهي الذَّكاء العاطفي، والوعي، والتَّقوي؛ وهي الصِّدق مع النَّفس، والتي تعتمد على أُسلوب تربية المرء، وتنقص غالباً في حالات الحرمان العاطفي، أو المعاملة السيِّئة في فترة الطُّفولة، أو نوع ثقافة المنشأ.
ولأنَّ هذه المجموعة ذات ثقةٍ بنفسها، وفي الغالب لا تسندها براهين وإنَّما أيديلوجيَّة جاهزة، وليس لها قُدرات تفكير عميقٍ حقيقيَّة أصيلة، فإنَّها تُغطِّي فقرها الفكري باختلاس أفكار الآخرين وتغيير طريقة عرضها ثمَّ ادِّعاء ملكيَّتها. فهي كالتلميذ الذي يقرأ الدَّرس قبل أقرانه ثمَّ يظهر في الدَّرس كأنَّه عالم يغبطه زملاؤه ويرفعون من قدره.
أو قد تبني فكرها بمعارضة أفكار الآخرين لتظهر كالمفكِّرين الأصيلين، أو قد تُغطِّي عجزها بتمكُّنها من اللغة وغموض الطَّرح، أو استخدام البلاغة، أو الإبهام، والتَّلاعب بالمصطلحات والمفاهيم، أو اختراع مصطلحاتٍ جديدة، ولذلك تَعمي عن الواقع، وتصمّ عن النَّصيحة، وتنتهي حياتها أو حياة من يتبعونها إلى نهاية أشبه بالمأساة الإغريقيَّة.
وسنواصل إن أذن الله سبحانه وتعالي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.