السودان شهد 6 آلاف معركة.. و17 ألف مدني فقدوا حياتهم    شاهد بالفيديو.. مذيعة تلفزيون السودان تبكي أمام والي الخرطوم "الرجل الذي صمد في حرب السودان ودافع عن مواطني ولايته"    مسيرات تابعة للجيش تستهدف محيط سلاح المدرعات    مصر: لا تخرجوا من المنزل إلا لضرورة    الملك سلمان يخضع لفحوصات طبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    واصل برنامجه الإعدادي بالمغرب.. منتخب الشباب يتدرب على فترتين وحماس كبير وسط اللاعبين    عصر اليوم بمدينة الملك فهد ..صقور الجديان وتنزانيا كلاكيت للمرة الثانية    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    تمبور يثمن دور جهاز المخابرات ويرحب بعودة صلاحياته    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خواطر حول الحبّ والإيمان والغناء والقرآن (2) ... بقلم: صلاح عبّاس
نشر في سودانيل يوم 16 - 01 - 2010


=========================
وأذبت الأسى في جمال الوجود
ودحوت الفؤاد واحةً للنشيد
والضياء والظلال والشَّذى والورود والهوى والشباب والمنى والحنان
من أغنية الصباح الجديد
=========================
عزيزي القارئ
في الحلقة الأولى من هذه الخواطر، وفي إطار التّنويه بأغنية "الصباح الجديد"، قلتُ:
"إنّها أغنيةٌ تحكي على مستوى العاطفة والشُّعور مسيرةً إنسانيَّةً ظافرةً, يطمحُ كلُّ إنسانٍ ينبضُ قلبُهُ بالحياة إلى أن يُحقِّقها على مستوى الواقع، ومن خلال ذلك تنمو شخصيّتُه ويتكامل وجوده الإنسانيّ، ويكتشفُ في نفسه منجماً زاخراً بالقدرات والإمكانات. وبمثل هذا الجهدِ النّبيل يكون للحياة رونقٌ وبهاء، يجعلانها رغم كلِّ ضروب الإحباط، ساحةً للعمل والجهاد والعبادة ...".
هذه الفكرة، وما يُرافقها من دفقٍ شعوريٍّ، هي المحورُ الذي تدور حوله هذه الخواطر.
الأماني العذبة:
لقد كان للأغنيات الجميلة دورٌ لا يُنكر في التّنويه بتلك الفكرة المحوريَّة، فبالإضافة إلى أغنية "الصباح الجديد" كانت هناك أُغنيةُ "الأماني العذبة" الّتي استثارَ بها كلٌّ من الشّاعر محمد علي أبو قطاطي والفنّان خليل إسماعيل، ذلكم الينبوع العاطفيّ الكبير، الّذي يموج في صدور كلِّ التّائقين لتحقيق أهدافٍ إنسانية كبيرةٍ في حياتهم:
الأماني العذبة تتراقص حِيَالي
والأمل بسّام يداعب في خيالي
حُلمي بكرة، وذكرى أيَّامي الخوالي
بكرة تتحقّق أماني
والفؤاد يرتاح ويتبسَّم زماني
ورغم أنّ هذه الأماني أو المعاني تلعب دور المحرّك للنّشاط الإنسانيّ، إلا أنّها لا تخلو من غموض، إذ تبدو للإنسان وهو في بواكير حياته وأولى مراحل الوعي بذاته، كالحُلم الهائم الكبير، الّذي يسعى لتحقيقه، وهو يخوض "معركة الحياة" بكلّ عنفوانها، مستهدفاً إثبات ذاته ووجوده في إطار مجتمعه الصَّغير، تائقاً إلى تحقيق الأماني الكبار التي يجيش بها صدره، والآمال التي يعقدُها عليه أهلُه.
ويقيني أنّ هاشم صديق في الأغنية التي غنّاها له ابنُ البادية:
عايز أكون
عايز أكون بهجة ومسرة
فى دروب البائسين
...
عايز أكون أنا صدر حاني
أبقى للمجروح طبيب
أحضن الهايم مشرد
واحضن العايش غريب
واحضن الطفل اليتيم
وابقى زى الأم حبيب
ابقى فى عيونه ابتسامه
وابقى فى ثغره الحليب
كان يُحاول رسم بعض ملامح ذلك الحلم أو الطّموح الإنساني، بما أورده من إشاراتٍ حسية تُشير إلى كُنه تلك الأماني والمعاني، أو إلى حقيقةِ تلك المسيرة الإنسانية الظافرة، التي تعلّق بها الشَّابِّيّ، إنّها رغبةٌ في البذل والعطاء الإنسانيّ، إنه نزوعٌ إلى الاستعلاء على النّزعات الفرديّة والأنانية، إنه إثباتُ الذّات الإنسانية، لكن من خلال إفنائها جهاداً نبيلاً، من أجل تحقيق القيم الإنسانية الرفيعة!
ثم في "أكتوبر الأخضر" نجد محمد المكي إبراهيم ومحمد وردي، يعملانِ على تحقيق ذات الرؤية الإنسانية الحُبلى بالإنجازات الكبيرة، لكن على صعيد الوعي الجمعيِّ هذه المرّة، فيقولان:
كان أكتوبر في أمّتنا منذ الأزل
كانَ خلف الصّبر والأحزان يحيا
صامداً منتصراً
نعم، إنّه مشروع التّغيير الإنسانيّ الكبير نفسِه، مجسّداً على صعيد وعي الأمّة كلها، وهي تحلُم بعطاءٍ أكتوبريٍّ غيداق!
كان أكتوبر في أمّتنا منذ الأزل!
عبارةٌ مكتنزة بالمعاني والرؤى العميقة، وبعاطفةٍ فيّاضة يلمسُها من عاش أيام أكتوبر، أو أيام الانتفاضة، ورأى كيف "سالت مشاعرُ الناس جداولَ" من المحبّة والطّيبة والتّوق إلى عالمٍ مزدانٍ بالقيم الإنسانية الرفيعة!
ولكن!
إحباطٌ مُدوٍّ!
ونحنُ نعلم أنّ "أكتوبر" قد وُئدَ كما وُئدت من بعده الانتفاضة!
وقبل ذلك: وُئدتِ تلك الآمالُ الكبيرةُ، الّتي طالما أسالت المدامع!
نعم، وفي ظلّ مجتمعٍ رأسماليٍّ، تسود فيه القيم المادية، استحالت تلك الأمنياتُ العذبة في صدورنا إلى مجرّد تطلُّع لإحراز (لقبٍ اجتماعيٍّ مرموق): أستاذ أو باشمهندس أو دكتور أو...! المُهم أن تثبت وجودك في المجتمع.
فذلك يكفي في سدّ الجوعة المعنويّة! أمّا وشوشاتُ الضمير ونداءاتُ أعماقه البعيدة، فستستحيل إلى آهاتٍ عميقة تحكي آلام الفشل الذّريع، ولسوف تُمجِّدُها وتُحيي ذكراها أغنياتٌ حزينة:
وذكرياتنا مهما كانت برضو ترديده بألم
كيف بدت كيف انتهت واتبدّدت قُبَّال أوانها
وكيف أمانينا الجميلة حلّت الآهات مكانها
وكأنّي بخليل فرح، يختصر هذه المعاني في كلماتٍ قلائل:
في سموم الصيف لاح له بارق
لم يزل يرتاد المشارق
كان مع الأحباب نجمه شارق
ماله والأفلاك في الظلام!؟
وكأنّ سيف الدين الدسوقي وإبراهيم عوض، في رائعتهما "المصير"، إنّما يسجلان اللحظات التاريخية التي حدث عندها ذلك الانكسار:
ليه بنهرب من مصيرنا، ونقضى أيامنا في عذاب!؟
........................
كنا فى ماضينا قوة تتحدى الصعاب!
نقطع الليل المخيم ونمشى فى القفر اليباب!
كنا للناس رمز طيبة وكنا عنوان الشباب!
ورغم ما في الأغنية من روح التفاؤل المخيّم، لكنّ آهاتِ إبراهيم عوض، المنبعثة من أدائه الصَّادق، تكشف عن النّتيجة المأساويّة التي انتهى إليها ذلك الحبُّ، وذلك المشروع الّذي كان يحمله الحبيبان!
وعموماً، بناءً على أنّ الطبيعةَ ترفضُ الفراغ والسّكون، فإنّنا سنلجأ إلى القيام بنشاطاتٍ تعويضيّة، فبالإضافة إلى سماع الأغنيات الجميلة، الّتي تذكّرنا بذلك الحلم، نُتابع الرّياضة المحلية أو العالمية، ولا بأس في شيء من الاهتمام بالشّأن السياسيّ الداخليّ أو الخارجيّ، فذلك على الأقل سيُتيح لنا التّنفيس عن ذاك الغبن المكنون، حيث نقوم بتوجيهِ زفراتٍ حارقةٍ من رصيد الإحباط المخزون نحو الآخرين سواءٌ كانوا أفراداً أو أحزاباً أو أنظمة سياسيةً!
لقد كان فشلاً ذريعاً وإحباطاً مدوِّياً، سُمعت أصداؤه في طوايا الأنفس وأعماقها البعيدة، كما تردّدت أصداؤه في أركان نظامنا السياسي والاجتماعيّ، ليلحقَ جيلُنا بجيل الدكتور منصور خالد وصفوتِهِ التي أدمنت الفشل، والتي بعد بضع سنواتٍ من ثورة أكتوبر الشّعبية قامت بصناعة نظام مايو 1969م، ثمّ بعد بضع سنواتٍ من انتفاضة مارس أبريل، قامت بصناعة نظام يونيو 1989م.
فالفشل هو الثمرةُ الطبيعية والحصاد المرّ، الّذي نجنيه في غياب ثقافة حيَّة، تستوعبُ تلك الطاقة الإنسانية الفطرية، وتوظّف العلوم والتجارب الإنسانية المعاصرة، لخدمة الإنسان فرداً أو مجتمعاً!
الإسلام!
وفي يقيني أنّ الرؤية الإسلامية تمدُّنا بالعناصر الكافية لبناء تلك الثقافة الإنسانية الحيّة، لأنها:
أولاً: تعترف بذلك الينبوع الإنسانيِّ الفطري، وتحتفل بتلك الأشواق والآمال، وترسم لها طريقاً يُعين على تحقُّقها.
ثانياً: تهتمُّ بعملية تحريك هذه الطاقة وتوليدها واستجاشتها من خلال الاستغراق في التّأمّل والذّكر والعبادةِ التي تحرّك ذلك المخزون العاطفي.
ثالثاً: تُوجِّه إلى تجسيد تلك الطاقة في أعمالٍ إنسانيّة: تأمّل في قوله تعالى: ((ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليٌّ حميم))، وانظر إلى قوله -صلى الله عليه وسلم-: (واللهِ، لا يؤمنُ من باتَ شبعانَ وجاره جائع، وهو يعلم به)، ... الخ.
رابعاً: لا تَحجر على الرؤى والأفكار الأخرى، بل تدعو إلى العلم والبحث والتّحقيق، وكما قيل: فالحكمة "ضالَّة المؤمن، أنَّى وجدها فهو أحقُّ الناس بها"!
خامساً: تعمل على تحقيق أهدافها من خلال إثارة الاقتناع بها في نفوس المتّبِعينَ، وليس على سبيل الفرض والإملاء، ولذلك كانت الأعمالُ عند الله -عزّ وجلّ- لا تُقبلُ إلا بالنّيّات، يعني بأن يتعمّق إيمانُ العامل بها في نفسه أولاً.
أصداء الفشل!
وفي غياب الدّور الّذي كان ينبغي أن يقوم به (المثقّفونَ) من أجل توظيف تلك الطاقة الإنسانيّة الخيِّرَة وتحويلها إلى فكرة واقعيّةٍ قابلة للتّجسد؛ وجد أهلُ الفنّ والغناء أنفسهم في مقام الأساتذة ومرشدي الأمّة.
وكما كان للغناءِ (يدٌ بيضاء) في الاحتفاء بتلك الطاقة الإنسانيّة الخيِّرة في بعض الأغنيات الجميلة، كذلك كان له الفضلُ في "احتضان بعض النّاجين من المجزرة الإنسانية الكبيرة"، من المُحبّين الصادقين، الّذين حماهم حبُّهم من الوقوع في تلك الهُوّة المادّية السّحيقة -ومن أبرز مظاهر هذا السُّقوط: الرِّضاء بنظامٍ سياسيٍّ (حكوميٍّ أو حزبيٍّ، مُوالٍ أو معارض) يرضى بانتهاك حقوق الإنسان الأساسيَّة- فبقُوا وبقيت جذوة تلك العاطفة الإنسانيّة فيهم متَّقدةً، ولكن بعد إبطال مفعولها الكلي، وحبسها داخل سجن الحياة العاطفية بين حبيبين، يعتبرُ أحدُهما الآخرَ غايته ومراده في الحياة، ليس لهما من غايةٍ وراء ذلك، أو كما قال أبوداود:
مشاكلي بسيطة بالريدة بتُحلّ..
إذن، بعد أن كانت تلك العاطفةُ الكبيرة، تدور في فلكٍ إنسانيّ رحب، تمّ اختزالُها في إطار "الرؤية الغنائية السائدة"، لتدور حول كوكب المرأة خاصّة، تعبيراً عن حبّها وما جعله الله فيها من الصفات المعنوية والجمالية.
وبعد ما كان الحبُّ زاداً في طريق تحقيق تلك الأمنيات والأهداف الإنسانية الكبيرة، كما غنّى محمد الأمين من كلمات أبو آمنة حامد:
في عيونُه فاض شوقن هتن لي حبّه للناس للوطن
ما غيّرت ريدتُه السّنين وما بدّل إحساسُه الزّمن
وشفنا المشاعر الحلوة في ساحاتنا بالآمال مشن
صار الحبُّ هدفاً مطلوباً لذاته، وعملاً أنانيّاً، وبسبب ذلك صار أحدُ الحبيبين ساديّاً والآخر نرجسيّاً، وهذا واقعٌ تُعبّر عنه كثيرٌ من الأغنيات العاطفيّة، ومن ذلك ما غنّاه زيدان:
ليه كل العذاب ليه كل الألم
بزرع في المحبة وحصادي العشم
.....
الدرب المشيتو مشيتو عشانك
عذب وزيد عذابك يا سلطان زمانك
.....
لو تعرف يا ظالم بحبك قدر إيه
بحبك -والله عالم- ده حب احترت فيه
.....
قالو البهوى دايماً يا ما يشوف كتير
وشفت غلاوتي عندك وحبّيت الألم
البرتكان والرمان
وفي غضون هذه الرؤية الغنائية السائدة، عكفت معظمُ الأغاني على دغدغة أحاسيس الشّباب ومشاعرهم! واستثارة عاطفة الحُبّ الفطريّة في نفوسهم البريَّة، واستلابها استلاباً غَرَزيّاً شهوانيّاً، من خلال التّنويه بجمال المرأة ومحاسنها ومفاتنها، وبالتّالي الحضّ والحثُّ على النَّظر إليها من أجل الاستمتاع بذلك الجمال.
وهذه بعض النماذج:
ففي عصر حقيبة الفنِّ (الخالدة)، كتب الشاعر سيد عبد العزيز:
حاول يخفي نفسو
شفناهُ شفناهُ
وهل يخفَى القمر في سماهُ!
وفي سبب نزول الوحي والإلهام، بهذه الأغنية، تحكي الرواية أنّ الشاعر ورفاقه كانوا مارّين في إحدى حواري أمدرمان، فوجدوا إحداهنّ تريد دفق "موية البلاعة"، فلما رأتهم دعاها حياؤها إلى الاستخفاء، ولكن...
وفي الأغنية المشهورة: (اذكري أيام صفانا)، يقول الشّاعر محمد بشير عتيق متوسّلاً:
يا أمير الحسن يا سامي المكانة
أهدي لي تفاحة بس أو برتكانة
فهي غير شك مرضية
بيها أقتبس الضياء
بل أذوق طعم الحياة!
وأيضاً، من أغاني الحقيبة (الخالدة):
الزمان زمانك
أهدى لي من فضلك نظرة فى رمَّانك
يا الفريد فى عصرك
ثمّ إذا تقدّمنا خطوةً إلى الأمام، نجد وردي في (القمر بوبا) يُسهم في بناء هذه الرؤية، بشحنةٍ من الأوصاف الحسية، والمعاني الدائرة حول فلك المرأة وجسدها.
ويخرق سمعنا كذلك نداء الأستاذ محمد الأمين:
يا مُعاين من الشباك
يا أحلى زول شفناك
أرحم قلوبنا معاك...
هذه بعض النماذج التي أريد من خلالها أن أؤكد فقط على أنّ الرؤية الغنائية السائدة التي يتلقّاها المتلقِّي، باتت تدور حول المرأة لا باعتبارها كائناً إنسانيّاً عاقلاً، له دورٌ في الحياة، ويواجه كثيراً من العقبات والابتلاءات، لا بل من حيث هي جسدٌ جميل، ابتداءً من تقرير معاني الحبّ العذري العفيف، إلى إظهار مجرد الإعجاب والاستمتاع بجمال المرأة والرَّغبة في الغَرف من مَعين هذا الجمال نظراً فقط، كما قال:
أنا ما بقطف زهورك بس بعاين بعيوني!
أو أكثر من النَّظر، كما حدث يوم القبلة السكرى، ويوم الجمعة في شمبات.
بل: وعبادةً ورسالةً في الحياة: كما غنّى رمضان حسن:
حبّك مُنيتي وفرضي وسنّتي ناري وجنّتي
وكما كاد حسين بازرعة أن يفعل:
يا حبيبة بجمالك أنا مغرم
والجحيم من فراقك ليّ أرحم
يا حبيبة، لولا ربي وجهنم
لعبدتك وسجدت بين يديك!
وكما نادى المنادي
البعبده وين!
إذن، فذلك الحبّ الذي كان ينبغي أن تسموَ به الحياةُ وترقَى، أصبح سجناً لإنسانية الإنسان، وقضاءً على استقلاله الذّاتي! حيث يرهن أغلى ما يملك ويجعله تحت رحمة إنسانٍ مثله، كما يُقرّر إدريس جماع وسيد خليفة "في ربيع الحب":
ليس لى غير ابتساماتك من زاد وخمر
بسمة منك تشع النور فى ظلمات دهري
وتعيد الماء والأزهار فى صحراء عمري
وكما يحكي سيف الدسوقي والجابري:
وصرت بعدك يا حبيبى ذرة فى بحر الزمن
بعت للآلام مواهبي بعتها بأبخس تمن
فكان أن تسرَّبت كلّ هذه المعاني والقيم السلبية عبر هذه الرؤية الغنائية, ونتج عنها ما أصاب مجتمعنا من مظاهر التفسُّخ الخُلقي والسُّلوكيّ!
نعم ثمَّةَ عوامل أخرى أودت بأخلاقنا وقيمنا: عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية، ولكنَّ أخطرها على الإطلاق هو هذا الذي يتسلَّل خِلسةً, وعبر النَّغمةِ الجميلةِ إلى طوايا نفسك، منتهزاً لحظةَ ضعفٍ أو قهرٍ, لِيَدُسَّ في تربة القلب بذور اللامبالاة بالأخلاق والقيم!!
بل كلُّ نظامٍ سياسيٍّ، إنّما كان انبثاقُه من قلب هذا المجتمع الّذي تربّى بهذه القيم! فهو وليدُه الشّرعيُّ!
تعاطي الوهم:
كذلك ينبغي الانتباهُ إلى أنَّ الرؤية الغنائية السائدة، بحسب دورانها حول كوكب المرأة وعالم العشق والهيام، تدعو السَّامعين والمتذوِّقين إلى التعامل مع الخيالات والأوهام, بعيداً عن الواقع الملموس وما فيه من مشاغل ومسئوليَّات والتزامات.
ومن النَّماذج الطريفة التي تُقدِّم هذا المعنى في مشهدٍ كوميديٍّ أغنية "قبل ميعادنا بساعتين" لخليل إسماعيل: يَحضر المحبُّ إلى الموعد مبكراً, ويُعاني ما يُعاني من مرارة الانتظار، الذي كان كذلك بلا جدوى, فماذا كان شعوره؟ انظر إليه يقول:
أغالط نفسي بإصرار وأقول:
يمكن أنا الما جيت
ومن هذا الباب معظم الأغنيات العاطفية، التي تجعل المحبّ هائماً على وجهه لا يعرف شيئاً إلا ليلاهُ، ولا يعرف قيمةً إلا لهذه العاطفة التي استولت على وعيه وشعوره.
إنَّ الحبَّ الذي يرفع المحبوب إلى هذا المقام، ويُردي المُحبَّ إلى هذه المهاوي، ليس حبًّا حقيقيًّا, إنَّما هو عاطفة استبدَّت بقلب صاحبها, فرهن مشاعره وما حباه الله به من ذاتية واستقلال وكبرياء لإنسان مثله, وللأسف فإنَّ كثيراً من الأغنيات تُروِّج لهذا الضَّعف الذي من شأنه إذا استحكم أن يُدمِّر كيان الإنسان كله, ويحوِّلَه إلى حطام وركام من الطُّموحات والآمال.
ماذا علينا إذا نظرنا؟!
إنّ القاعدة التي تقوم عليها هذه الرؤية الغنائية السّائدة كما رأينا، تتمثّل في النّظر والدّعوة إلى النَّظر إلى المرأة الجميلة، إذ إنّ هذا النظر هو السبيل لمعرفة مفاتنها ومحاسنها الحسّية!
أو كما تساءل إدريس جمّاع مستنكراً:
أعلى الجمال تغارُ منّا
ماذا علينا إذا نظرنا؟!
والواقع: إنّ النّاظر للمرأة الجميلة، يشعُر من وراء ذلك بلذّةٍ معنويّة، ومن وراء اللّذة المعنوية برغبةٍ في الوصل خفيّة، عبر نظرةٍ خائنة أو قبلة ماجنة أو ... الخ.
هذا هو السّياق الطبيعيّ، ولا يحولُ دون تحقيقهِ إلا اعتباراتٌ أخرى كالخوف من رقابة الآخرين، أو كونُ الناظر منشغلاً بأمرٍ آخر، أو خشيتُُه من أن يَصفع خدّه كفٌّ صاعق، أو لأنه استهلك كلَّ رصيده الحِسِّيّ الفطري، ولم يعُد يُحرّكه مجرّدُ النَّظر ... الخ.
اعتباراتٌ واقعية كثيرة جداً تحول دون هذا السبب ونتيجته الطبيعية! ولكنّها لا تمنع من التقاط صورةٍ، يتمّ حفظها في خلايا الذاكرة، ليُعادَ عرضُها لاحقا، في لحظات خلوة وفراغ!
لذلك نلحظ أنّ الإسلام يتعامل مع هذا الأمر تعاملاً واقعيّاً وحازماً، يتمُّ توجيه المؤمن من خلاله إلى أن يغُضَّ بصره عند وُقوع أشعته على امرأة أجنبية؛ خشية أن يؤديَ ذلك إلى الوقوع في أسر الشهوة المستبدَّة، وبالتالي: خطر الاعتداء على حقّ الفرد أو على حقِّ المجتمع، ... فليغضّ بصره ابتداءً، ويحمي نفسه من الآلام والهموم والغموم التي طالما شكا منها الشعراء والمغنّون، والتي إنَّما تسبّبت ابتداءً عن النَّظر!
ولنذكر قول الشاعر الحكيم:
كم نظرةٍ فعلت بقلب صاحبها
فعلَ السِّهام بلا قوسٍ ولا وترٍ
يُسَرُّ ناظرُه ما ضلَّ خاطرُه،
لا مرحباً بسرورٍ عاد بالضّررِ
حقَّاً: لا مرحباً بسرورٍ عاد بالضرر، هكذا يُقرر "المنطق" أو العقل، ولكن هل تستجيب العاطفة أو القلب؟!
تستجيبُ إذا تمّ استقطابها وتدويرُها حول محور الإيمان بالله عزَّ وجلَّ، عبر الصَّلوات والأذكار!
بقيت الحلقة الأخيرة!
صلاح عبّاس
المدينة 13\7\2009م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.