السودانيون كانوا أسبق الشعوب العربية في إسقاط الديكتاتورية والاستبداد، في انتفاضتهم السلمية التي أنهت حُكم جعفر النميري الذي سبق أن علق على المشانق خيرة أبناء السودان وأذكاهم، وأقاموا حكومة ديمقراطية، لكن ثنائي حسن الترابي وعمر البشير أسقطاها بانقلاب عسكري، ذهب بما اختاره أبناء السودان وبناتها. ولولا هذا الانقلاب، كان سيقُيض للعملية الديمقراطية التي أطلقتها انتفاضة السودانيين على حكم النميري، أن ترسخ قاعدة للتداول السلمي للحكم، وأن تُجنب البلاد الكثير من المآلات الدامية التي قادتها إليها هذه السلطة، من حروب أهلية، أفضت في ما أفضت اليه، إلى تقسيم السودان إلى دولتين، ومازالت مخاطر الانفصال تهدد أقاليم أخرى في ما تبقى من الدولة السودانية بعد انفصال الجنوب عنها، ناهيك عن التوترات وحالات الكر والفر على الحدود بين دولة الشمال ودولة الجنوب. ربيع السودان لم يأتِ متاخراً، لأنه، في العمق، امتداد لربيع سابق تم إجهاضه من قبل القوى التي اتخذت من الإسلام عباءة لها، وعلى خلاف ما يقال الآن في أكثر من مكان عن أن التيارات الإسلاموية لم تمنح فرصتها في تسلم السلطة في العالم العربي من قبل، فإن القاعدة الإيديولوجية للحكم السوداني الراهن هي قاعدة «إسلاموية» بامتياز، وقد اختبرت في الممارسة بما يكفي ويزيد من الوقت، وكانت الحصيلة علقماً مراً. لذا تبدو انتفاضة السودانيين اليوم حالاً معكوسة لما شهدته بلدان عربية أخرى، فهي موجهة ضد النموذج الذي أريد تجريبه في مصر ويراد تجريبه في تونس وغيرها، ولعل هذا ما يفسر، إلى حدود كبيرة، لماذا لا تحظى انتفاضة السودانيين الحالية بما هي أهل له من احتضان ودعم جديرة به من أرباب هذا النموذج. السودانيون يضعون بصمتهم في التحولات الجارية في العالم العربي، وهي بصمة خاصة، مختلفة، من خلال ربيعهم ذي المذاق المختلف، لأنهم يوجهون رسالة تحذيرية إلى الشعوب العربية الأخرى بألا تسمح بتكرار نموذج الحكم السوداني الراهن المعجون من الصلصال ذاته الذي عجنت منه القوى التي استوت، أو تتهيأ للاستواء، على كراسي الحكم في البلدان العربية التي طالتها وتطالها التغييرات. شعب السودان يناضل لاستعادة حكم ديمقراطي سبق له أن حققهُ، ولكن جرت مصادرته بانقلاب عسكري، في زمن انقراض هذا النوع من الانقلابات، أوقف مسار التحول نحو الديمقراطية، وأقام ديكتاتورية عسكرية متشحة برداء إسلاموي زائف. أهمية ما يجري في السودان، بصرف النظر عن مآله، هو أنه يقدم طرازاً جديداً من نوعه في اللحظة العربية الراهنة.