بمجرد انقشاع غبار الواقعة الأخيرة في العلاقات بين السودان ولبنان ينبغي تدريس مبدأ جديد في العلوم الدبلوماسية وتضمينه أسس العلاقات بين الدول، ألا وهو كبح جماح التصرفات الرسمية التي تبدو بسيطة في مبتدأها لكنها سرعان ما تجر المشكلات الجسام واحدة خلف الأخرى كما كرة الثلج المتدحرجة من عل!. ومن بلد الثلج والأرز لبنان الوديع خرج تصرف سلطات الأمن بسيطا في مخبره، مداهمة حفل لمجموعة من اللاجئين العزل مع إطلاق شتائم مهينة بحقهم وألوانهم ونهلهم بالضرب المبرح، إلا أن جوهر الموقف تصاعد في الساعات الماضية، عبر المواقع الإلكترونية، ليصل إلى أبعد ما يمكن تخيله، باستثناء الحرب، لتحطيم العلاقة بين دولة وأخرى شقيقة لها. لا تزال حادثة الأوزاعي ببيروت، تتضخم بأثر التفاعلات الشعبية من جهة والدبلوماسية من الجهة المقابلة، وسط تشكك من السودانيين بالخارج من حرص حكومتهم القائمة على كرامة من أُهين في حادثة الأوزاعي في 6يونيو الجاري . ففي رسالتهم المفتوحة للتوقيع، إلى الرؤساء الثلاثة، الجمهورية اللبنانية والحكومة ومجلس النواب، العماد عون وسعد الحريري ونبيه بري، إضافة إلى زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله، توجه الموقعون أدناه، المستنكرون لما وقع، إنابة عن أربعين مليون مواطن سوداني لأمر تعلق بكرامة الشعب السوداني. وتحدثت الرسالة عن ذكرى عزيزة منذ مهد التاريخ منذ أن قام الملك السوداني "ترهاقا" وجنوده، أصحاب الوجوه السوداء، بتحرير شعوب لبنان وفلسطين من استعباد جيوش الغزاة. كما استحضر الموقعون ذكرى وقوف السودانيين مع أشقائهم اللبنانيين في محنة تفجر الحرب الأهلية منتصف عقد السبعينيات، عبر الفيلق السوداني ضمن قوات الردع العربية، وحتى فيروز وردت في الرسالة، كملهمة حَبها السودانيون كثيرا. دعا الرئاسات الثلاث، والزعيم الشيعي الكبير، إلى توجيه رسالة إلى الشعب السوداني بهذا الخصوص، فالغضب هنا غضب شعبي لا يمكن علاجه فقط عبر القنوات الحكومية أو الدبلوماسية، وجلب الموضوع إلى مجلس النواب اللبناني، فهو أمر يهم الشعب اللبناني الكريم، فتح تحقيق على غرار ما يحدث عادة في مثل هذه الحوادث من أجل استجلاء الوقائع وكشفها وتقديم المشتبه فيهم للقضاء اللبناني، فتح قنوات التواصل المعرفي بين الشعبين السوداني واللبناني، والإيعاز إلى أجهزة الإعلام اللبنانية إلقاء الضوء على الروابط المشتركة وفرص التعاون والاستثمار الذي يعزز الروابط والمصالح المتوازنة المشتركة للشعبين اللبناني والسوداني. ومعالجة أوضاع "اللاجئين" السودانيين في لبنان، إلى غير ذلك مما ترون من القرارات والمعالجات التي تدفع العلاقات بين الشعبين قدما وتمحو عن النفوس ما لحق بها جراء تصرف فئة معزولة. بعيدا من السلوك المتزن والهادئ الذي تجلى بداخل سطور الرسالة، تصاعدت مطالب السودانيين الآخرين المتفاعلين مع الحدث، بمطالب لم تقف عند سحب سفير السودان في بيروت فورا، وطرد السفير اللبناني من الخرطوم نهائيا، بل مضت إلى المناداة بإنهاء إقامات جميع اللبنانيين في السودان، تسيير مسيرة سلمية إلى السفارة اللبنانية بالخرطوم والاعتصام أمام مبانيها وعمل مخاطبة جماهيرية هنالك، تقديم مذكرة للسفير اللبناني بالخرطوم، تسيير مسيرات سلمية إلى الشركات والمصالح اللبنانية بالسودان، مثل مطعم الساحة اللبناني الأعلى صيتاً، رفع شعارات مكتوبة من قبيل: لا نريد لبنانيين بالسودان - على لبنان احترام السودانيين المقيمين بلبنان مثلما نحترمكم - نقاطع كافة البضائع والمطاعم اللبنانية حتى يحاكم المجرمون في الأمن اللبناني - عودوا إلى بلادكم لا نريدكم بيننا..، بل وإلى تقديم شكوى للأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية كمنظمة العفو الدولية والاتحاد الأوروبي والجامعة العربية. وتساءل بعض المنفعلين بالحدث، هل الحكومة السودانية تعتبرهم مجرد معارضين هاربين من جحيمها، ولذلك تتمنى لهم المر والويل في المغترب؟، أم تنظر إليهم كرعايا يهمها ما يجري في حياتهم وتتفقدهم لتحافظ على كرامتهم ؟؟. وهو تساؤل يصعب فهمه تماماً ومن ثم الإجابة عليه بمعزل عن تطورات الأيام القادمة، إلا أنه بالإمكان استحضار ما رشح من تلقاء الأطراف الدبلوماسية في كل من بيروتوالخرطوم، لوضع مقاربة للإجابة الصعبة. السفير اللبناني بالسودان، أعلن على رؤوس الأشهاد أن بلاده استنكرت ما حدث للمواطنين السودانيين، قال بذلك عبر (الأخبار) السبت الماضي مثلما ردده أمس الأول من خلال مؤتمره الصحفي. ورغم وعده بأنه إذا كان هناك من أخطاء أقدم عليها عنصر، فإن رؤساءه سوف يتخذون العقوبات السلمية والقانونية ليكونوا عبرة لمن يعتبر. صوب السفير إلى عمق العلاقات التاريخية التي تربط السودان ولبنان، موضحا أن هناك تنسيقاً بين السلطات اللبنانية والسفارة السودانية بلبنان لمعرفة ملابسات الاعتداء وإجراء تحقيقات حول الحادث ومعاقبة المخطئ. وأضاف بأنه نقل اعتذار وزير الخارجية اللبناني للحكومة السودانية لما حدث للسودانيين، مشيراً إلى مواقف السودان الداعمة للبنان وشعبه. وزاد بأن اللبنانيين المقيمين بالسودان، بإقامة دائمة، يبلغ عددهم 750 لبنانياً في شمال وجنوب السودان، يعملون في قطاعات التجارة، والفنادق، والاتصالات والسياحة والمصارف وغيرها. مبديا تخوفه من مضايقات تعرض إليها رعاياه في جنوب السودان حيث يتولى اللبنانيون إدارة فندق صحارى الفخم وشركة للاتصالات. الصحف اللبنانية أفادت نقلا عن السفير السوداني بلبنان، عن خطوات إطلاق سراح من يملكون أقامات قانونية من السودانيين المقبوضين، (عددهم نحو ستة آلاف ألفان منهم لا يحملون إقامة قانونية) وترحيل الآخرين الذين يقيمون على الأراضي اللبنانية بصورة غير شرعية، معربا عن اقتناعه بالتبرير الذي قدمته سلطات الأمن العام. أكد بأنهم لا يريدون إثارة مشكلة هي عبارة عن مسألة فردية، وجزم بأن حكومته ستكتفي بهذا القدر حالياً. وفي الخرطوم تطابق موقف الخارجية مع سفارتها ببيروت كما هو متبع إداريا وعرفيا، إذ قال الناطق الرسمي بأسم وزارة الخارجية، معاوية عثمان خالد، في تصريحات صحفية، إن السفارة السودانية ستقوم بمعالجة أمر إقامة السودانيين في لبنان لتكون بطريقة شرعية، كما تعمل على رد الحقوق والاعتبار لمن تضرروا جراء حادثه منطقة الأوزاعي. واعتبر ما حدث في لبنان حدث عابر لا يمكن أن يؤثر على العلاقات بين البلدين. ولكن حديث رد الاعتبار الذي وعدت به الخارجية السودانية، ينافيه ما رجحته الصحف اللبنانية أمس، بخلوصها إلى أن مثل هذه الحوادث، غالبا ما تمّر بلا رقابة أو محاسبة، في بلاد تفتقر إلى قوانين تنّظم علاقتها بمواطنيها أساسا، وبزوارها - لا سيما الفقراء منهم - تالياً. ترى هل يعتبر الرسميون في البلدان الموصوفة بالشقيقة في علاقاتها مع شقيقاتها وبعضها البعض بما لا يؤثر على علاقات الشعوب طبقا لما تصدر التقرير وأيضا الخلاصة المتشائمة السابقة بشأن افتقاد القوانين المنظمة للعلاقات مع المواطنين والزوار كلاهما. سودان توداى اونلاين