منذ صغري وأنا أعشق حتى الثمالة صوت هذا الرجل المبدع وكنت أعطش في سنيّ طفولتي المبكرة أن أسمعه وياحبذا صورة وصوت. أحببت أغانيه وأغاني غيره التي تغنى بها وأجادها. عشقت تطريبه وإيقاعات التم تم العارمة التي تنبثق من عازفيّ الايقاع الذين يصاحبونه (طبلتان وبنقز). كانت تعلو تلك الايقاعات الحارّة وقتئذ لتشمل كل الحضور وأنا مقتعد إحدى الكراسي بالصيوان - سواء في عرس أو احتفال عام – فتزملنا تلك الإبداعات بنشوة لا تقاوم وحميميّة لا توصف، فإذا بكل حاضر مستمع لا يملك أو يتمالك نفسه فتشده إليها شدّا حتى يذعن لطرقها فيه، فيتمايل طربا لِحَمِيَّتها ونارها المضطرمة. كان ترباس في ذاك الزمان فنان احترف الغناء مصاحبا لفرقة شعبية بديعة لا تضاهى وله الفضل كأول مغن شعبي في أدخال الكورس في قلب الأغنية بشكل شبه متكامل بعد أن كانوا يرددون استهلالية الأغنية أو الكوبليه. بيد أنه لم يصمد لموجات الانجراف نحو آلات الهاموني كما صمد زملاؤه من دار فلاح – على سبيل المثال محمد أحمد عوض ومحمود على الحاج - فترك الكورس والشيالين وغناء التراث وانزلق فجأة في حوبة الغناء بالآلات الموسيقيّة الصاخبة. من جهة أخرى وبعد أن كان يتغنى بجواهر الحقيبة ودررها في أغان مثل "يا نسيم بالله أحكي له تباريح شوقي وهيامي" صار ينشد "الغلط منك، أصلو ما مني"، وبعد أن شدا بأغنيات خالدة مثل "ست اللهيج السكري" عكف على ترديد "السمحة يا ستهم ... يا ستهم يا ستهم"، وبعد أن أطرب بإسهاب في أغنية "يا حمامي" جاء بأغنيات ركيكة فاقدة لكل معان الذوق الشعري والأدب الشعبي كأغنية "جنى الباباي يا جنى الباباي". وهذا تساؤل من محب حادب على سيرة هذا العملاق، هل صار عنده الكم أهم من الكيف؟ وهل غدت العلاقات الشخصية في انتقاء الكلمة الرصينة هي الفاصل؟ أهل غشته سنة في الرجوع لشعراء الأغنية العظام الذين كان لهم كل الفضل في علو اسم ترباس كالتجاني حاج موسى وعبدالرحمن الريح وغيرهم، إذ ما انفك أن يغني للعوام الذين قلت درايتهم بأبجديات القافية وأسس القصيدة السودانية الأصيلة في بحور العروض الشعبي. ما أحلى أغنياته تلك وما أعمق معانيها في سهولتها الممتنعة، مثل "أمي الله يسلمك ... أمي يا دار السلام"، وكم ذبنا وكم نذوب حينما نسمع "جاي تفتش الماضي ... خلاص الماضي ولّى زمان وجفت مقلتي الباكية ونامت من سنين أحزان وجاي تفتش الماضي"، يا سلام على الجمال! ومن أغانيه التي دخلت تاريخ الأغنية - كما دخلها هو- من أوسع أبوابها، أغنية "يا روحي ... أنصفني ... في حكمك، لإنو قاسي عليّ أنا يا حبيب ظلمك". وهنا نجد الكلمات لا تحتاج بالضرورة لإيقاع مصاحب لأنها مدوزنة على أيقاع فطريّ خلاق، أبدعته ريشة الشاعر عبدالرحمن الريح، سلمت يداه. هذه ألحان خالدة خلود تراث أهل السودان، فهي لا تفتأ تملك الفؤاد جمالا ووتنثر الطرب حلاوة والمرء منّا يا سادتي لا يستطيع الفكاك من عذوبتها التي تستبيح خياله إليها فتستحكم نواصيه أيما استحكام، كما تشحذ خياله كما يشحذه جمال النيل الخالد وحلاوة اللقيا إلى الأحباب بعد طول غياب. وهنا لابد من أن نقول بأمانة أننا نجد من أغنياته الأخيرة بعض القصائد الرائعة مثل "لو تخاصم أو تجافي، تبقى لطبعك منافي، يا زمان ريدي الخرافي ... زول بريدك زيي مافي"، للشاعر أشرف سيد أحمد، فهي بديعة دون أدنى شك. بيد أن ترباس لم يستطع بعد تحوله للغناء بالفرقة المصاحبة من الخروج من دوامة الألحان الدائريّة التي تتشابه كلها في طلعاتها وقفلاتها وفي إيقاع التم تم القافل والرولات والوردات التي تتخللها. يعني كأنها سفر مفتوح. للأسف لم يستطع ترباس الخروج من هذا اللون لنقول أنه بعد مصاحبته للفرقة طوّر في سياق وإطار الأغنية الشعبية شيئا ما. أي نعم أنه دخل التاريخ بأغنياته وهامته العظيمة لكن ماذا قدم للأغنية الشعبية أكثر مما قدمه لها محمد أحمد عوض أو محمود على الحاج أو غيرهم؟ المتابع لحفلاته يجد أن الآلات استلمت وظيفة الكورس أو الشيالين وفاتتها بمراحل، فصارت الأغنية تحوي حوالي أكثر من 80 ٪ من الموسيقى، حتى عندما يغني وهذا في أدب الأداء الصوتي غير محمود، فضلا عن أن كل الآلات تؤدي نغمة الصوت الواحد - دون التداخل في هرمنتها بالدرجة الثالثة أو الرابعة! غدت الآلات كالساكس تساعد هذا العملاق في محنته هذه لتوصيل رسالته بحنجرة ظهرت عليها منذ عدة سنوات علامات التعب والفتور والإعياء - من كثرة مجاراة العدادات في الأعراس والاحتفالات - فضلا عن عامل السن الذي يلعب دورا رئيسا في شيخوخة الحنجرة. لذا غدا ترباس يلجأ إلى الصوت الكاذب الذي لم يفارق شفتيه في محافل كثيرة في غضون السنين الفائتة. نراه يهمس الغناء همسا في "أغاني وأغاني" سيما في أغنية "أمي الله يسلمك". الكل رأى مزرف دموعه عندما غناها معه (أحمد الصادق، المدعو الإمبراطور) الذي هو أيضا في طريقه لكسر حباله الصوتية. نراه أيضا يغالب الغناء رغم حسه الجميل فيه فتنحبس عنه بعض مقاطع الكلمات حسب مخارجها وأماكن لفظها فيصيبه الجهد حتى نرى حباله الصوتيه تبرز من خلال رقبته ومن ثمة يغني ويجاريه ترباس هامسا. إن الحديث عن إعياء صوت هذا العملاق في السنين الأخيرة يقودنا إلى تساؤلات هامة جداً ألا وهي: إلى متى ينبغي على مبدع مواصلة مشواره الفني تجاه جمهوره المحب؟ وما هي الخطورة من مواصلة الغناء في حال الإعياء والفتور الصوتي؟ ومن ثمة ما هي معايير الصوت البشري العذب الجميل الذي يستطيع أن يغني ويطرب ويمتع سامعه؟ دعونا نلقي نظرة على الجوّ العام السائد في حلبة الغناء بالسودان؛ الكل يريد أن يغني والكل يصبو أن يصير يوما من الأيام "محمودا جديدا" أو إمبراطورا أو برنسا أو، أو، فيا للمفارقات! نسمع – بعيد عنكم – من الأصوات ما يصفع بنشازه أسماعنا ورغم ذلك نرى أن بعض هذه الحناجر، الفاقدة للتدريب العلمي والتمرس المهني، يلقى رواجا محيرا بين العوام! وعند تمعن تلك الأصوات بصورة علمية نجدها تفتقد، دون أدنى شك، لأبجديات مقومات الصوت البشري الجميل ناهيك عن وجود موهبة أم لا! سؤال آخر: هل هذه مسألة جديدة طارئة في مجتمعنا السودانيّ، يمكن أن تعزى إلى ضحالة الثقافة الموسيقية العامة عند الناس، وضعف الذوق الفنيّ، في ظل غياب كلي لتربية موسيقية عامة وخاصة ترتقي بالأذواق منذ الصغر وتقوّم الابداعات في نعومة أظافرها لترقى في المستقبل لمرتبة سامية وتولد نواة لمجتمع يعرف معنى الذوق الموسيقي. (هذا يقودنا لموضوع آخر وهو موضوع النشاطات المدرسية الذي أهملته وزارة التربية والتعليم: رياضة، فنون، موسيقى) ترباس – كما ذكرت - ظهرت على حنجرته مبادئ الكبر والإعياء بسبب الاسهاب المفرط ركضا وراء العدادات؛ وكما يقولون عنه، أنه لا يلفّ عمامته إن لم يحصل على العداد الذي هو خليق بشأوه وخيلائه! لا أعرف كم يتقاضى الآن؟ كم مليون، ربما وصل عداده ل15 أو 20 مليون في الحفل الواحدة، والوجهاء لا يبالون بزيادة المال أو نقصانه! لكن كم يتقاضى عازف البنقز من هذا العداد أو أي عازف آخر من فرقته؟ أجزم أنه لا يتقاضي أكثر من مائة جنيه والأستاذ ينفرد بنصيب الأسد؛ وكما يقولون: الخيل تجري والشكر لحماد! وهنا يجب أن نقف في هذه النقطة وننادي رئيس اتحاد المهن الموسيقية أو دار الفنانين الأستاذ الجليل حمد الريح ونناشده بأن يرفع هذا الطلب للجنة أمينة للفصل فيه ومن ثمة أن يرفعوا من القيمة المعنوية والمادية للعازف المحترف مقارنة بما يتقاضاه المطرب. أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم؟! ويجب أن تقنن أمور أجور العاملين في هذه المهنة النبيلة، فلولا هؤلاء لما قامت لأفراحنا وابتهاجاتنا قائمة. إن هؤلاء المساكين لهم أسرهم وذويهم والتزاماتهم فلماذا نظلمهم؟ وأجدر للأستاذ حمد الريح أن يفصل في أمور كهذه من أن يبدد كل جهوده في محاربة هذا وذاك لأنه يغني، فالحرية والعدل يجب أن يطبقا على الكل دون تزكية أو فرق. حدثني أحد عازفي الأكورديون أنه كان يصاحب المرحوم محمود عبدالعزيز وأنه تركه لأنه لم يكن يتقاضى (لفترات طويلة) أجره بعد الحفلات (الرحمة له). الفرقة الموسيقية تساعد ترباس في إخفاء خفقات الحبال الصوتية التي تجد صعوبة في اخراج بعض الجمل الموسيقية أو النغمات أو الصعود لدرجات حادة – كما كانت الحال في أيامه الخوالي. هذا يذكرنا بصوت العملاق بادي محمد الطيب في تسجيلاته الأخيرة إذ صعب عليه الغناء وكان يصارع حنجرته لتخرج الصوت كما كان عليه من قبل. وهذه سنة الحياة ... والحبال كالجلد، تصيبها علامات الكبر والشيخوخة كما تصيب الجلد علامات التجعد والترهل، فضلا عن عامل الإعياء بسبب كثرة الغناء وعدم الاكتراث بإعطائها الراحة اللازمة كي تستعيد قواها وتبري جروحها. وكما تعلمون الشخص الذي يصيح في جوطة يفقد صوته بكثرة "اللعلعة والكوراك". وهكذا الفنان. وترباس لجأ في تسجيلاته الأخيرة لشيئين: أولهما الصوت الكاذب والثانية التستر خلف الآلات الموسيقية. قصة ترباس تذكرني بتراث عظيم يعنى بالأغاني كما جاء به أبو الفرج الأصفهاني. يقول التاريخ أنه عندما توفي شيخ المغنيين إسحاق الموصلي ببغداد عام 850 م وكان حينذاك شيخ شيوخ الغناء بها، بكاه الخليفة المتوكّل. بيد أنه ذاع عنه كثير من القول وانهمرت فيه كثير من الأسطر كون صوته كان مخنثا لا طلاوة فيه ولا عذوبة. ويقولون أنه أول من استخدم الصوت الكاذب المستعار بين مطربيّ بغداد أو قل بين مطربي العرب في تلك الحقبة. لكنه مثله مثل ترباس استطاع أن يغطي عيوب حباله الصوتية وحنجرته بحذق ومهارة وحسّ موسيقي لا يشق له غبار. ومن سرّه زمن ساءته أزمان. فالسؤال الأخير: هل يحتاج الفنان ترباس لعميلة في الحبال الصوتية لتخرجه من مأزقه الحالي؟ أم يحتاج للراحة وترك الساحة لمدة من الزمن؟ إننا نحب ونعشق غناءه، لكننا أيضا قلقين على حاله التي تردّت في آخر عهده. ولاعبيّ الكرّة العمالقة يعتزلون اللعبة وهم في أوج العطاء والازدهار، فهل له في أولئك من عبرة؟! فالتاريخ يسجل كل كبيرة وصغيرة ويا حبذا أن يسجل كل ما أعطاه لنا هذا العملاق في سخاء وحب وازدهار. وهذه الكلمات لا تقصد النيل منه لكنها مرسلة إليه للذكرى والتفكر فذكر فإن الذكرى تنفع المغنين. للحديث عن العملاق ترباس تتمة محمد بدوي مصطفى عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.