مساء الثلاثاء الماضى، صب د. رياك مشار نائب رئيس حكومة الجنوب جام غضبه على الطريقة التى أجاز بها المؤتمر الوطنى قانون الإستفتاء فى البرلمان، وبدأ المؤتمر الصحفى كما لو كان مخصصاً لتلك القضية وحدها، إلى أن قال بعد ذلك، كنت سأقيم هذا المؤتمر الصحفى حتى ولو لم يحدث فى قانون الإستفتاء ما حدث، وأما السبب الجديد الذى رفد به مشار الذى يضعه البعض فى مقدمة التيار المتعقل أو حكماء الحركة الشعبية الصحافيين، فقد كان خبراً لم يصمد لأكثر من يوم واحد مفاده إستقالته من عضوية المكتب السياسي للحركة الشعبية، وتوجيهه لقواعده بالاستعداد لخطوات لم يكشف عنها إثر خلافات بينه وبعض قادة الحركة الشعبية المتنفذين. --- ونفى مشار حينها، ما تردد من شائعات فى هذا الإتجاه، ثم سارع مكتبه بإرسال نفي مغلظ لخبر الإستقالة، ووصف مسربوه بأصحاب الأجندات الخبيثة الساعين لشق صفوف الحركة الشعبية ونسف عملية السلام التي أرست لها إتفاقية السلام الشامل (نيفاشا). (1) الحركة الشعبية التي أعلنت غيرما مرة خوضها الإنتخابات المقبلة في مستوياتها كافة ستكون عرضة لإختبار صعب فرضته (نيفاشا) التي حرمت الترشح لمنصبين، فالتراتيبية التنظيمية تجعل من كير مرشحاً للحركة في إنتخابات الرئاسة، فالرجل من بين كل قيادات الحركة يجد قبولاً أكثر، أما لقب مرشح الحركة لرئاسة حكومة الجنوب فيتوقع البعض أيلولته للرجل الثاني د. رياك مشار وبحسب ذات الترتيب. ولكن من الإستحالة بمكان التوصل لتلك النتيجة دون إستصحاب الطقس الذي يكتنف الجنوب حالياً، فنفي خبر إستقالة د. مشار شديد اللهجة لم يكن كافياً لإسكات الهمس الدائر عن وجود خلافات داخل الحركة، خلافات قديمة ترجعها تقارير صحفية إلى ايام حياة د. جون قرنق مبعثها منصب الرجل الثاني ودارت رحاها بين مشار وكير، حيث طالب مشار وقتها بتقديمه على كير وأستند في أحقيته تلك على أن الدينكا ممثلين في (قرنق وكير) مستأثرون بأهم منصبين داخل الحركة إضافة الى أن رتبة مشار العسكرية في القيادة العليا للحركة عام (86) كانت اعلى من رتبة كير. خلافات الرجلين حسمها مجلس التحرير الوطني بإقراره أفضلية كير مع أيلولة المنصب الثالث لمشار وفي أعقاب رحيل قرنق تقدم الرجلان منصباً أمامياً مع إحتفاظهما بذات المسافة الفارقة بينهما. هذا عن الجرح القديم، أما الجديد فيتبدى بوضوح بحسبما يرى كثير من المراقبين بين مشار من جهة والتيار المصطلح عليه ب (أولاد قرنق) في الجهة المقابلة وتعتمد رؤية المراقبين على رفض عرمان وباقان للنتائج التي توصل اليها مشار في الإجتماعات المشتركة التي جمعته والنائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان طه حول قانون الإستفتاء، فيما سربت الأخبار، أن مشار أعاب على باقان وعرمان ركضهما خلف الأحزاب الشمالية ما يهدد بضياع المكاسب التي يجنيها الجنوب من إتفاقية السلام. (2) ويتمتع د. رياك مشار الحاصل على دراسات عليا في مجال الهندسة من الجامعات البريطانية بنفوذ كبير داخل قبيلته (النوير) فضلاً عن دعم قوى من القبائل التي تقف على طرفي نقيض من الدينكا، ويرى الأكاديمي بول دينق أن لمشار طموحات كبيرة مستمدة من خبرته السياسية والعسكرية الطويلة ورغبته في بلوغ أعلى مناصب الجنوب. طموحات مشار الكبيرة تصطدم بإرتياب كبير هو الاخر داخل جسم الحركة والسبب إنشقاقه عنها في الماضي، وتصطدم بصخرة معايير وضعتها الحركة لمرشحيه بحسب بول دينق بغية لجم تلكم الطموحات وتتمثل بأن لا يكون المرشح ممن حملوا السلاح بوجه الحركة، إضافة الى أن يكون وجوده داخلها إستمر لفترة بين خمس الى عشر سنوات متواصلة، تتفاوت بتفاوت أهمية المنصب، ونجد أن المعيار الأول لا ينطبق على مشار الذي خرج على الحركة بتكوينه وآخرين منهم د. لام أكول رئيس الحركة الشعبية التغيير الديمقراطي مجموعة الناصر مطلع التسعينيات، و يبدو مشار غير قادر على القفز فوق المعيار الثاني بسهولة، إذ أن رئيس حكومة الجنوب يبدو جديراً بعشر سنوات متصلة في الحركة، إن لم يكن أكثر، إذا صدق الحديث عن المعايير،فمشار عاد لرفقة د. جون في مايو العام 2001م في مواجهة حكومة الإنقاذ عقب أن إتهمها حينها بمهاجمة قواته. وأكد أقوك ماكور القيادي بقطاع الشمال ل (الرأى العام) صحة نصف مقولة بول دينق بإعلانه أن الحركة بصدد وضع معايير للمرشحين ولكنه رفض إستباقها بالخروج بأية نتائج. (3) وفي ظل رفض الحركة للأحاديث الرائجة عن تداخل الجوانب السياسية والقبلية يدور حديث ولو خافت مصدره بعض قادة الحركة المتخوفون من تغييرات قد تطرأ على الخارطة السياسية بالجنوب إن تمكن مشار من الفوز بمنصب حاكم الإقليم حال ترشحه للمنصب لكن أقوك عمد الى التشديد على أن الحركة تنظيم قومي وبمنأى عن آفة القبلية وأكد أن المكانة التي وصل اليها مشار نجمت عن كسبه وجهده داخل الحركة. ونحا د. معتصم أحمد الحاج مدير -مركز محمد عمر بشير للدراسات السودانية بجامعة أم درمان الأهلية- الى أن الحركة واقعة تحت إسار لا يمكنها الإنفكاك منه وهو القبلية ووصف وضعها ب (الحلف القبلي الكبير) الذي قال إن تمزقه يعني لا محالة إنفراط عقد الأمن بالجنوب. وبإخضاع ترشيح د. مشار للتمحيص يتبين أن خيارات الرجل تتمثل في أن يدفع به المكتب السياسي لخوض غمار إنتخابات الرئاسة ومدى تقبله للأمر خاصة وأن المهمة محفوفة بالمخاطر، أو أن تتحرك الحركة وفقاً لآلتها التنظيمية فيترشح كير لمنصب الرئيس ويترك الجنوب حينها لخلفه في التنظيم وهي الخطوة التي يستبعدها د. معتصم ويؤسس موقفه على أن الحركة حسمت أمرها بإختيارها الإنفصال والإتجاه جنوباً كما أستبعد الزج بمشار في أتون معركة الرئاسة وخسرانه كممسك بتلابيب توازن القوى القبلية وتوقع أن تدفع الحركة بمرشح شمالي لمنصب الرئاسة لمجرد حفظ ماء الوجه. الخيار الثالث الذي قد يجد مشار نفسه فيه وربما يكون الأكثر مرارة بالنسبة للحركة هو أن يختار الرجل ذات الدرب الذي إختاره قبله د. لام أكول وسلكاه معاً في العام 1991م، فينشق لمرة ثانية لمقارعة الحركة في الجنوب ولكن سياسياً هذه المرة على الأرجح سواء تم ذلك بصورة منفردة أو برفقة لام من جديد ، هذا الخيار بالنسبة لمشار ربما يكون مبعثه مخاوفه من أن تميل دفة الصراع حول الحفاظ على ولاء قبيلة النوير بينه وبين تعبان دينق والي ولاية الوحدة لصالح الأخير، أو أن تعمل الحركة على تقديمه ككبش فداء فى الإنتخابات الرئاسة المقبلة. (4) الحركة والى الآن لم ترتب بيتها لإستقبال إنتخابات أبريل، ومرد التأخير ربما كان صعوبة التوصل لمعادلة تضع الجميع على منصة الفوز، فإذا ما ترشح سلفا لرئاسة حكومة الجنوب، قد يجد مشار نفسه مرشحاً للرئاسة القومية أو رجلاً بلا منصب يترشح له، في إنتظار فوز سلفا المتوقع في الجنوب ليعيد تعيينه نائباً له، أو لا يفعل، والوضع الأخير بالتحديد ربما لا يعجب مشار كثيراً، ولا يبقى أمامه سوى القبول بوضعية الرجل الثاني، أو تلمس ذات نهجه القديم في الإنشقاق إذا أبعده المكتب السياسى للحركة من قائمة المرشحين. نقلا عن صحيفة الرأي العام السودانية 27/12/2009م