ليس سراً أن الانتخابات في مل دول العالم الثالث تفضي بالناس الي مجموعتين, الأولي تفوز بالنتيجة وتشرع في الاحتفال بما يشبه الرقص علي جراحات الآخرين, بينما تلوذ الفئة التي خسرت الانتخابات بكيمان الاتهامات الجزافية لتشكك في نزاهة الانتخابات تارة, ولتتهم خصومها بشراء الذمم واستغلال السلطة وغيرها من الأمور الانصرافية تارة أخري, كما أن الوقائع التاريخية لم تسجل حالات كثيرة لحكومة من حكومات العالم الثالث خاضت انتخابات برلمانية أو رئاسية وهي علي سدة الحكم وخسرتها, وعندها حدث ذلك في زامبيا مثلا قال البعض أنها أنموذج سليم للديمقراطية في هذا أفريقيا وينبغي أن تحذو بقية الدول حذوها من حيث النزاهة وقبول النتيجة بصدر رحب.. وما كنا ننتظر من الحركة الشعبية قطاع الجبال أن تتقبل النتيجة بصدر رحب بدون أن تريق الكثير من العبارات التي تحرق ما كان قد نبت من زرع طيب في حقل تشاركوا فيه مع المؤتمر الوطني, وكعادة أثبتت قيادات النوبة بالحركة الشعبية أنها من الهشاشة بمكان لدرجة أنها تتعامل في بعض الأمور المصيرية بالعقلية الجماهيرية مرة وبعقلية تسيطر عليها ظنون العنصرية التي تقود الي سوء الظن بالناس لمجرد أنهم لم يتفقوا معهم في الرأي, وكذلك ضيق القلوب لديهم بالرأي الأخر حتي لو جاء من عنصر قيادي من عناصر الحركة نفسها, لذلك كانت الهزيمة منذ فترة بعيدة جداً في الأساسيات التي سنرصد بعضها فقط في هذا المقال القصير, ونستعرض كيف أن الحركة الشعبية لم تعمل أصلاً من أجل الفوز في أيه انتخابات أو كسب أية معركة بينها والمؤتمر الوطني, والشئ الأهم في هذا العراك المفتعل أن حقبة ما بعد التوقيع علي اتفاقية نيفاشا وكل الفرص التي سنحت للحركة وقياداتها للانتقال من بيئة الحروب والنزاعات والعبارات الخشنة الي البيئة السياسية ضاعت هباءً منثوراً, ولم تنجح الحركة في مواكبة التحول من قوة السلاح الي قوة الحوار والدبلوماسية والمنطق, وبينما كان الطرف الأخر يخطط ويعمل من أجل الغد كانت الحركة تفكر في كيفية إحراق المراكب التي تربط بين الجزيرتين, بدلاً عن ردم المساحات بينها وتعييد الطرق التي تؤدي الي المزيد من التفاهم من أجل الوطن الكبير أولاً ومن أجل تعويض إنسان جبال النوبة قروناً من عدم الاستقرار وغياب التنمية والظلم والقهر والأمية والفقر, فأضاعت الحركة بنوع من التعنت غير المبرر زمناً غير قصير في الصراع الذي نشب في حقبة ما بخصوص المجلس التشريعي, وأهدر بسبب ذلك الصراع ما يقل عن سنتين كانا خصما علي الفترة الانتقالية التي تأسس فيها كل ما أدي الي فوز المؤتمر الوطني في الانتخابات المنتهية الآن, وذلك في صراع بيزنطي كان مسحه المجلس التشريعي الذي ترأسه الأخ إبراهيم بلنديه وناب عنه بحسب البروتكول الزميل صديق منصور الناير.. الأول كان عن المؤتمر الوطني بينما مثل الأخر الحركة الشعبية, وإذا عدنا الي الوراء لنتصفح تأريخ الحركة مع أبناء جبال النوبة الذين استنفروا قواهم وهرعوا في هجرات عكسية من أجل الانضمام الي صفوفها قعد توقيع الاتفاقية سنكتشف واحدة من أهم النقاط التي كانت سبباً في بناء حاجز متين بين أناء المنطقة والحركة, ولا أقصد الذين حاولوا الانضمام إليها من أبناء النوبة المقيمين بالشمال, ويشكل غالبية منهم المتعلمين والمتخرجين من أرقي الجامعات وأعرقها بالعاصمة ممن أصبحت العاصمة أضيق مجالاً من تطلعاتهم فانطلقوا يبحثون عن عدالة أو عن (فرص) مع الحركة بعد ان تواترت أنباء بوجود عالم جديد في المناطق المحررة, ولكنهم بدأوا العودة السريعة بعد فترة قصيرة جداً ونقلوا حكايات منفرة جداً عن سياسات بعض القادة الميدانيين الذين لم يرحبوا بالوافدين الجدد, أو ضايقوا ذرعاً بهم.. فكانوا يقولون لهم: أين كنتم عندما كنا نتنقل في الأحراش ونحارب الأعداء وحدنا؟.. ولماذا أتيتم الآن بعد أن حان الحصاد... وكان حملة الشهادات الجامعية من قانونيين ومحاسبين وغيرهم يتلقون معاملة غيرهم من غير المتعلمين فعادوا من هناك يجرجرون أذيال الإحباط .. كانت حماستهم قد تبدلت وحديثهم عن الحركة قد تحول الي النقيض تماما في ذلك الوقت الذي كانت فيه الحركة الشعبية بحاجة الي حشد المزيد من القدرات والكوادر من اجل تحقيق التحول المواكب من مرحلة الحرب ومفرداتها وسلوكياتها الي مرحلة التخطيط والتنظيم والعمل وفقا لاستراتيجيات تحتمل كل المعطيات ..ووفق ماذا سوف نفعل غدا .في الملخص عن تلك الحقبة كانت الحركة الشعبية تلفظ أبناءها وقياداتها يتسابقون نحو مكاسب رخيصة لا تعبر عن مناضلين مكثوا عقودا مع النضال في الأحراش وفي الجبال أو قضية من القضايا كانت سببا م أسباب الانضمام للحركة من بداية الثمانينيات بينما انهمك المنافس في التخطيط والاستقطاب والدعم الفعلي والمساندة الميدانية التي كانت تمثل اعلي مراتبها في الجهد الكبير الذي قدمه مولانا احمد هارون والي جنوب كردفان المنتخب وقد أقدم علي تنفيذ مشروعات كانت مجمدة من فترات ما قبل الإنقاذ وقدم من مشاريع التنمية ما لم يقدمه وال واحد في تاريخ المنطقة والحركة الشعبية التي كانت مطالبة بالمزيد من الانفتاح في فترة ما بعد الاتفاقية وكسب وجوه أخري من بقية القبائل التي تشكل ديمغرافيا جبال النوبة ألحقت برصيدها من الإخفاقات نقطة ضعف أخري وهي العنصرية التي كان جزء من القيادات يعبر عنها بطريقة لا يمكن قبولها بأي حال من الأحوال وإلا فأن الخيار الأخر سيكون هو الحرب القبلية ونقطة أخري كانت تمس المسالة الدينية وبعض المعتقدات فبعضهم علي سبيل المثال كان يتحدث عن الخمر وتعاطيها ومتعاطيها بصورة وكأنه يريدها نكاته في المؤتمر الوطني وعناصره الإسلامية وبذلك فقدت الحركة تعاطف قطاع كبير من أبناء الجبال خاصة الشمالية منها ليسوا من أنصار المؤتمر الوطني ولكنهم ضد إباحة أسباب الفوضى فجزء غير يسير من قاطني بعض المناطق من الصوفية وأنصار الكتاب والسنة مثلا نفروا من الحركة الشعبية لعدم سلامة المنهج ..أو غياب المنهج المخطط في عملها واعتمادها في كثير من الأمور المفصلية علي شخصيات بعض قياداته واجتهاداتهم وبالتالي كانت تسير في الاتجاه العكسي لمنهج الحشد والتجنيد الذي انتهجه المؤتمر الوطني ونجح فيه بدرجة امتياز . وكان من واجبات الحركة أيضا إن تتابع مراحل تنفيذ وتطبيق بنود بروتوكول جبال النوبة الملحق باتفاقية نيفاشا وجرد حساباتها أولا بأول ولكنها مارست سياسة العزلة الاختيارية وضربت علي نفسها الذلة وهي ترفض كل ما يأتي من قبل الحكومة أو المؤتمر الوطني فقالوا أنهم لن يسمحوا ببرنامج التعداد السكاني وتسجيل الناخبين بينما كان الشريك يرسم خططه ويضبط حساباته بشكل لا يقبل التحدي ..وعندما بدا التسجيل للانتخابات تأخرت الحركة في الموافقة وفي التفاعل والمشاركة وفي المقابل نجح طرف الشراكة الأخر في تنفيذ كل ما رسمه من خطط بشان الانتخابات وكان من الطبيعي إن تكون النتيجة هي خسارة الانتخابات ...حيث لا مجال للاتهامات والانطواء والانكفاء علي الذات لأنها كانت سياسات الحركة التي أودت بها الي هذه المحطات فهي لم تسجل ناخبيها كما فعل المؤتمر الوطني وحتى لو كانت شعبية الحركة جارفة في جبال النوبة فان المواطن المسجل هو (الناخب )المقصود وليس الذين رفضوا ..وإذا أرادت أن تعود كلاعب أساسي في العملية السياسية مستقبلا فعليها ان تعدل من هذه السياسات وتحول أسلوبها ليكون أكثر مواكبة ومرونة وهذه ليست دعوة لقياداتها ان تتداعي تحت أقدام الحكومة كما سيفسر البعض وإنما هي دعوة للحوار وإبداء نوع من الوعي المطلوب في مثل هذه القضايا الشائكة ..وإلا فأنهم يهدرون السنوات الطوال بدون طائل وهنا حقيقة مهمة يجب ان يعرفها الناس وهي ان معظم أو غالبية قيادات جنوب كردفان من الحركة او المؤتمر الوطني لا تقيم مع أسرها بكادوقلي أو بقية مدن الولاية وإنما يملكون بيوتا فخمة في كمبالا والخرطوم ونيروبي وبقية مدن السودان والعالم الأخرى وأبناؤهم يدرسون في أفخم المدارس واحدث المناهج ولو كانوا يقيمون هناك حيث الأحداث لحرصوا علي تحقيق مكاسب اكبر للمنطقة . الفترة الانتقالية شهدت حوادث فردية كانت تعبر عن عدوانية الحركة الشعبية وفشلها في استقطاب كوادر قادرة علي أحداث الإضافة السياسية مما جعلها محتفظة بكامل ملامحها في حقبة الحرب والنزاع المسلح ..ومثال لتلك الحوادث ان شبانا من منسوبيها أقدموا علي قطع وتري العرقوب لرجل قال انه من أنصار المؤتمر الوطني وأصر علي انتماءه له ..وذلك في الريف الغربي من الدلنج وبالتحديد في ريفي سلارا وعندما انتشرت الأنباء عن الواقعة ونقل الرجل المعتدي عليه للعلاج بمستشفي أم درمان لم تستنكر قيادات الحركة ذلك الحدث او تصدر حتى بيان إدانة ومساندة لمساعي السلم والأمن ..وربما لم يبد سكان المنطقة احتجاجا كبيرا لرفضهم لبدأ العودة الي فترة عدم الاستقرار وتمسكهم بالسلام ولكنهم قالوا كلمتهم عبر هذه الانتخابات ولسان حالهم يقول :ان العون في مشروعات مياه الشرب وتقويم التعليم ودعم الأسر الفقيرة وإنشاء المراكز الصحية تعتبر وعود قابلة للتحقيق مع احمد هارون ...ولكنها ستكون بعيدة المنال مع غيره . نقلا عن صحيفة التيار بتاريخ :26/5/2011