جولة سريعة في الخرطوم، كفيلة بأن تجعلك تعرف بأن المدينة تغيرت عن تلك التي كنت تعرفها قبل عقد أو اثنين. فالزحام بات أشد من ذي قبل، والشوارع أمست مكتظة بالسيارات التي لا يمل سائقوها من إطلاق أبواقها على نحو متكرر. كما أن المطاعم الفخمة والشعبية انتشرت بسرعة البرق في كل زاوية، كأن بيع الأطعمة والمشروبات هو التجارة الوحيدة الرابحة في المدينة، فضلاً عن الواجهات الزجاجية التي غزت المحلات، واللافتات الضوئية والإعلانات التي توحي بوجود فرص أعمال لا تنتهي. ما يلفت النظر أيضاً في خرطوم 2011، أن الجميع فيها يتحدثون عبر الهواتف النقالة، وهم يجلسون، أو يتناولون الوجبات، أو يسيرون بسرعة في الطريق، أو يقفون في عرضه، أو يقودون سياراتهم، ما يوحي بأن إيقاع المدينة الهادئ القديم قد مضى إلى الأبد. وتوحي بصات المواصلات العامة الجديدة، بأن المدينة أخذت تتلمس طريقها إلى الروح العصرية، فضلاً عن البنايات الفخمة التي باتت موضة في ضواحي المدينة التي لا تتوقف عن التمدد. والعديد من شوارع الأسفلت الواسعة، المليئة بإشارات المرور، باتت تعطي انطباعاً بأن المرء يعيش في مدينة أخرى غير تلك المدينة القديمة، التي تقطع فيها الكهرباء باستمرار، ويسهر أهلها ليلاً لتخزين مئونة النهار التالي من ماء الشرب. الخرطوم بنكهة خليجية وسط كل تلك المظاهر العصرية، لا يعدم المرء ملاحظة الملامح الخليجية للمدينة، فالعديد من البنايات الجديدة، وحتى القديمة، سواء كانت حكومية أو غير حكومية، مدنية أو عسكرية، باتت تمتلك واجهات خارجية لامعة تعكس ضوء الشمس، تلك الواجهات التي ميزت طويلاً المدن الخليجية الثرية في المملكة العربية السعودية والإمارات، وقطر. هذا الطراز المعماري الذي تتزايد شعبيته في الخرطوم، لا يعكس فقط تأثيرات رياح الثقافة الخليجية التي تهب من على الضفة الأخرى للبحر الأحمر، لكنه يختزل كذلك صورة الحقبة النفطية السودانية، باعتباره واحداً من مظاهرها العمرانية الفارقة. الآثار الخليجية ليست في واجهات البنايات الخارجية فحسب، بل يمكن مشاهدتها في عرض الطريق، فذوق السودانيين في المدن كان دائماً يفضل السيارات الصغيرة، وبقيت سيارات الدفع الرباعي في الخرطوم لوقت طويل شبه مقتصرة على المنظمات الأجنبية، وعلى البعثات الدبلوماسية والمسيحية. لكن ذات الذوق أخذ يصبح خلال الآونة الأخيرة خليجياً شيئاً فشيئاً، وبات امتطاء سيارة دفع رباعي من أحدث طراز سمة لافتة في شوارع المدينة، ليس بواسطة الرجال فحسب، ولكن للنساء نصيب وافر أيضاً من ذلك الذوق الصاعد: امتطاء سيارات الدفع الرباعي. لا يمكن مغادرة خانة ثقافة السيارات الجديدة في شوارع العاصمة دون المرور على (التفحيط)، والانطلاق بسرعات مهولة ليلاً في شارع النيل وامتداداه الشرقي الجديد، فالتفحيط، والقيادة بسرعات فائقة هو هاجس مسؤولي شرطة المرور الخليجيين الدائم، وفي الخرطوم، تتزايد شعبية هذا الأسلوب الخليجي بسرعة بين الشباب. التأثير الثقافي الخليجي، لم يقتصر على عالم المعمار وعالم المحركات سيارات الدفع الرباعي، بل بإمكانك أن تجده في دنيا الأطعمة، فإلى جانب البيتزا والكنتاكي، توجد مطاعم (المندي)، تلك الوجبة الخليجية الشهيرة ذات الجذور الآسيوية، والتي دخلت إلى قائمة الوجبات المفضلة عند عدد من السودانيين. تراجع التأثير المصري في الحياة اليومية في السابق، تأثر السودانيون في عالم الأطعمة بالمصريين، ابتداء من الملوخية وحتى الكباب، وتأثروا كذلك بالأتراك، فأحد أهم المشروبات الشعبية في رمضان (الآبريه) ذو جذور تركية، ورغم تواجد الفطائر المصرية حتى داخل الجامعات، لكن ثقافة الطعام الخليجية أخذت تدخل الآن على الخط، وتنافس التأثير الثقافي المصري في هذا المضمار. ليس غريباً أن تأخذ الخرطوم الكثير من أطعمتها عن المصريين أو الشوام أو الخليجيين، أو حتى الأتراك، فعالم الأطعمة بات ضمن عوالم العولمة الثقافية الرئيسية، وبات الذوق العام على هذا العصر ميالاً لتجربة الكثير من الوجبات والوصفات في دنيا الطعام، والمشروبات. سرعة التفاعل مع الرياح الخارجية رغم ذلك، يبقى السودان سريع التأثر بالموجات الثقافية الوافدة، وربما يكمن تفسير ذلك في ما يخبرنا به المؤرخون، أن البلاد بقيت مفتوحة عبر العصور للتفاعلات والهجرات البشرية والثقافية بالطبع، ما يفسر جزئياً التأثيرات الثقافية الحالية القادمة من الغرب وعولمته، أو من الجيران العرب. عالم الأزياء مضمار آخر لتتبع التأثيرات الثقافية الخليجية، فبينما يفضل الشبان ارتداء أزياء العولمة بطابعها الأفرنجي، وبأنماطها المتعددة، تقاسمهم مجموعة من الفتيات ذات الذوق، ارتداء العولمة النسائية التي تنتجها المصانع الآسيوية، في المقابل، تتصاعد بسرعة فائقة شعبية العباءة الخليجية بين الفتيات، وحتى النساء الأكبر سناً. العباءة الخليجية، التي انتشرت بإيقاع سريع خلال السنوات القليلة الماضية، باتت منافساً جدياً للثوب السوداني التقليدي، ففي الحارات وداخل الأحياء أصبحت العباءة خياراً مفضلاً للشابات، وفي الأسواق كذلك، وحتى في الجامعات التي يفترض أن تكون رياح العولمة الغربية قوية فيها، تحوز العباءة الخليجية على نصيب لا يستهان به من ذوق الطالبات. التشكيلات الخليجية ترث جنيه الذهب الفرعوني حتى في عالم الزينة والمعدن النفيس، لم يعد للجنيه الفرعوني الذهبي وجود في زينة العروس في الخرطوم، وفي المقابل، باتت التشكيلات الذهبية الخليجية تشق طريقها أكثر فأكثر إلى واجهات عرض تجار الذهب في عمارة الذهب وسوق سعد قشرة. كل ذلك يعطي إشارة إضافية بأن التأثير الثقافي المصري داخل السودان في انحسار، يقابله صعود لتأثيرات العولمة، والثقافة الخليجية. في الماضي، ارتبط السودانيون أكثر بالأزهر الشريف، وكان المزاج الديني العام صوفياً وأزهرياً، ومن المعروف أن السودانيين كان لهم رواق في الأزهر، كدلالة على ارتباط الثقافة الدينية للبلدين. الآن، بات المزاج الديني أقرب للخليج منه إلى الأزهر، ولا يبدو ذلك فقط في أشرطة الكاسيت الدينية التي تباع في أمكنة كثيرة وتسمع داخل الكثير من المركبات التي تنطلق في شوارع الخرطوم، لكن العديد من رجال الدين البارزين بدورهم تلقوا تعليمهم الديني في الخليج، أو يرتبطون بثقافته الدينية أكثر من ارتباط أسلافهم بالجامع الأزهر. التفاعل الثقافي بين ضفتي البحر الأحمر التفاعل الثقافي بين ضفتي البحر الأحمر، ليس وليد العقود الأخيرة، فالمؤرخون يعيدون التواصل بين الضفتين إلى أزمنة بعيدة، ربطت فيها علاقات تجارية وثقافية بين اليمن السعيد وشرق أفريقيا، وبين السودان والحجاز، فعنترة بن شداد، والسليك بن السلكة، وغيرهما من الشخصيات الجاهلية السمراء تمنح مؤشراً على قدم العلاقة بين ضفتي البحر الأحمر. هذا التأثير الثقافي اللافت، لا تقتصر تفسيراته على التفاعلات الطبيعية بين إقليمين متجاورين، لكن عامله الأبرز، هو بالطبع الهجرة السودانية المستمرة إلى الخليج، فالملايين من السودانيين يعيشون أو عاشوا فترات تطول أو تقصر من حياتهم هناك، حتى أن تصنيفهم قد يمتد إلى ثلاثة أو أربعة أجيال من السودانيين الخليجيين إن جاز التعبير. سودانيون خليجيون الجيل الأول من السودانيين الخليجيين لم يتأثر على نحو عميق بالثقافة الخليجية، ومثله الجيل الثاني من المهاجرين، لكن التأثيرات بدأت تشتد وضوحاً مع الجيل الثالث، والجيل الرابع الذي ولد أو نشأ في الخليج، واكتسب خصائص ثقافية خليجية، تمتد للتعليم، والمظهر، واللسان. الخرطوم، يمكن للمرء أن يرصد فيها أكثر من ملمح ثقافي خارجي في واقع الأمر، خاصة خلال العقد الأخير الذي شهد تسارع وتيرة الانفتاح على الخارج، ورغم وجود العديد من العلامات التي تدل على سرعة التأثر بالرياح الثقافية القادمة من الخارج، سواء كان الخليج أو غيره، إلا أن المدينة، لحسن الحظ، لا تزال تمتلك ملامح مميزة خاصة بها، تعود إليها وحدها دون غيرها. ينقسم الناس عادة بشأن العديد من الأشياء، ومنها التأثيرات الثقافية الخارجية بالطبع، فبينما يرى البعض أنها تخصم من رصيد الهوية الثقافية المحلية، وتحتل الأماكن المخصصة لها على مسرح الحياة اليومية، يعتبر آخرون أن الرياح الثقافية التي تهب من الخارج، ضرورية لإضفاء مزيد من الحيوية على الثقافة وأساليب الحياة المحلية، وتؤكد على ثراء تلك الحياة، بأكثر مما تؤشر على فقرها. *صحفي بصحيفة الرأي العام السودانية موقع الشروق الالكتروني 29/5/2011