المراقب الحصيف والمتابع الدقيق لمجريات الأحداث والتصريحات الرسمية الصادرة من دولتي السودان، المؤكدة دائما على عدم العودة إلى مربع الحرب مجددا، مهما كانت الأسباب والذرائع، لا بد أن يشتم بصورة ما رائحة البارود المنبعثة من تحت تلك التصريحات لا سيما منذ انفصال جنوب السودان رسميا في التاسع من يوليو الماضي، بعدما اختار غالبية شعبه المفاصلة مع السودان. تلك الرائحة المتصاعدة هي ما دفعت بالمجتمع الدولي أخيرا لأن يمد الأنوف من كل حدب وصوب ناحية دولتي السودان، اللتان تزداد رقعة القضايا المتبقية بينهما يوما بعد الآخر بدلا من أن تتقلص وليس أدل على ذلك بحسب محللين، الأزمة الناشبة بينهما – السودان وجنوب السودان – بشأن النفط والرسوم المقرر أن تدفعها جوبا للخرطوم مقابل تصدير نفطها مستخدمة خطوط الأنابيب العابرة لأراضي السودان. ومع خطورة وتعقيد القضايا المتبقية على طاولة التفاوض بين الخرطوموجوبا والمنتظر أن تستأنفا حولها مباحثات جديدة خلال أسبوع بالعاصمة الأثيوبية أديس أبابا، إلا أن حسمها سيشكل المقياس الحقيقي لمدى نجاح اتفاقية السلام الشامل الموقعة في نيروبي 2005م، بين الحركة الشعبية لتحرير السودان، والمؤتمر الوطني ممثلا لحكومة الخرطوم، باعتبارها وفقا للمجتمع الدولي اتفاقية أنموذج حقنت دماء الملايين، وأوقفت حربا امتدت لنصف قرن أو يزيد، هي الأشد ضراوة بين الحروب التي شهدتها القارة السمراء، كما أنها – الاتفاقية - اشتملت بجرأة لافتة نصا بمنح جنوب السودان حق تقرير المصير، وأفضت إلى انفصالا هو الأول في نوعه على مستوى العالم، كما شهد المجتمع الدولي بالتزام طرفيها – الشمال والجنوب - بتنفيذها بصورة أدهشت العالم، باعتبار أن سنوات الانتقال الست لم تشهد انتهاكات كبيرة عرقلت مسيرة الاتفاقية. غير أن الخلافات المستمرة بين الخرطوموجوبا حول القضايا العالقة والاتهامات المتبادلة بينهما بدعم الحركات المتمردة في كل منهما بجانب التطورات الأخيرة على الحدود في منطقة "جاو"، الأربعاء الماضي، حيث وقعت اشتباكات بين القوات المسلحة والجيش الشعبي التابع لجنوب السودان، دفعت المجتمع الدولي إلى اعتبار تلك التطورات بمثابة مقدمة لانهيار الأوضاع بين البلدين. واعتبر وزير خارجية جنوب السودان نيال دينق نيال، في تصريح لبي بي سي، إن المواجهات في منطقة "جاو"، اخطر تهديد يواجه السلام منذ انفصال جنوب السودان في يوليو. ودعا المجتمع الدولي إلى التدخل، محذرا من وقوع حرب شاملة بين البلدين. غير أن القوات المسلحة أكدت سيطرتها على المنطقة ودحر القوات المهاجمة، بينما أكد والي جنوب كردفان، أحمد هارون، في تصريحات سيطرة القوات الحكومية على الحدود بين البلدين وتأمينها. وأعربت الأممالمتحدة عن خشيتها من تنامي التوتر، وحذَّرت من تردِّي العلاقات بين دولتي السودان وناشدت الطرفين بضبط النفس وتجنّب العنف. وقالت المنظمة الأممية الجمعة أنها تخشى وقوع المزيد من الاشتباكات بين السودان وجنوب السودان، مؤكدة أنها تعمل بجد على نقل 20 ألف لاجئ بعيدا عن المنطقة الحدودية التي تتزايد فيها أعمال العنف. وقالت باسم مفوضية الأممالمتحدة العليا لشؤون اللاجئين، مليسا فلمينج المتحدثة في مؤتمر صحفي "نحن في قلق شديد لأن نحو 20000 لاجئ من الموجودين على الحدود بين جنوب السودان والسودان في ولاية الوحدة بجنوب جمهورية السودان، يواجهون خطرا متزايدا مع تصاعد القتال". لكنها ذكرت أن المواجهات التي وقعت في منطقة "جاو" الحدودية لم تصل إلى مخيم للاجئين يقع على بعد عدة كيلومترات، وقالت "لكن هناك مخاوف هائلة من وقوع هجوم وهذه المخاوف دفعت العديد من اللاجئين إلى الأحراش". التطورات على الحدود بين البلدين، بجانب التصريحات "البارودية"، المنطلقة من جوباوالخرطوم، لفتت أيضا انتباه الاتحاد الأوروبي، ودفعته إلى الدخول على الخط، مبديا قلقه إزاء تزايد الأعمال العسكرية أخيرا على طول الحدود بين السودان وجنوب السودان، وحثت الجانبين على الامتناع عن أي عمل أو تصريح يمكن أن يزيد من حدة التوتر بين الدولتين. كما دعا الاتحاد الأوروبي الطرفين في بيان أصدره أمس الأول إلى اتخاذ خطوات فورية لتنفيذ الاتفاق الأمني والترتيبات الأخرى بشأن منطقة "ابيي". وشدد على دعمه القوي لدعوة مجلس الاتحاد الإفريقي للسلام والأمن في الثلاثين من نوفمبر الماضي، لتشجيع فريق التنفيذ رفيع المستوى للاتحاد الإفريقي في السودان، برئاسة ثامبو أمبيكي، على إتباع نهج شامل في السعي من اجل إحلال السلام والعدالة والمصالحة في السودان وإعطاء الأولوية لإرساء الديمقراطية في كل من السودان وجنوب السودان. ولا يبدو أن المجتمع الدولي، على استعداد لمقابلة المزيد من المشكلات بين دولتي السودان، في ظل وجود تحديات متفاقمة في كل دوله صغيرها وعظيمها بما في ذلك الولاياتالمتحدةالأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي التي تشهد تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة، متمثلة في مظاهر الاحتجاجات المتصاعدة التي تعايشها العديد من عواصم العالم. وعلى هذا السياق، ناشد الاتحاد الأوروبي البلدين - السودان وجنوب السودان - على مضاعفة جهودهما من اجل حل جميع القضايا العالقة، ووقف القتال والعودة إلى المفاوضات من اجل التوصل إلى تسوية سياسية. ورحبت المنسقة العليا للسياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، كاثرين اشتون، بالتزام الخرطوموجوبا بعقد اجتماع في وقت لاحق من الشهر الجاري، بأديس أبابا لمناقشة القضايا العالقة. لكن المسئولة الأوروبية أعربت في الوقت ذاته عن القلق من احتمال فشل المحادثات في تحقيق مزيد من التقدم لاسيما بشأن المسائل المتصلة بقطاع النفط. وقالت أشتون "يأمل الاتحاد الأوروبي أن تؤدي المفاوضات إلى اتفاق بشأن جميع القضايا العالقة المتعلقة بقطاع البترول وكذلك القضايا المالية". مؤكدة استعداد أوروبا لمواصلة العمل مع فريق ثامبو أمبيكي، وكلتا البلدين من اجل تسوية سريعة للقضايا العالقة بما في ذلك قضية "ابيي". مخاوف الاتحاد الأوروبي، المتصلة باحتمال فشل محادثات أديس أبابا المرتقبة هو ما حذرت منه الصين الشريك الأكبر للدولتين – السودان وجنوب السودان – في مجالات النفط، على لسان مبعوثها، ليو قوي جين، الذي أنهى جولة مشاورات مع كبار المسئولين في الحكومتين بكل من جوباوالخرطوم، في إطار مبادرة لاحتواء الأزمة القائمة بشأن اقتسام إيرادات نفط الجنوب، عندما قال في تصريحات صحفية "إذا ما فشلت المفاوضات حول النفط فان ذلك يشكل خطرا كبيرا للجانبين في مجال الاقتصاد والسياسة". وبالمقابل وفقا للمبعوث فإذا ما توصل الجانبان إلى حل بشأن النفط فان ذلك سيشكل سابقة مفيدة لحل القضايا الأخرى، وأكد المبعوث الصيني دعم بلاده لمجهودات لجنة الاتحاد الأفريقي رفيعة المستوي، بقيادة أمبيكي، مشيرا الى أن المجتمع الدولي لا يريد المزيد من المشكلات، في المنطقة، وقال "نحن نريد المحافظة على السلام والاستقرار في هذه المنطقة لأن هذا في مصلحتنا وفي مصلحة المجتمع الدولي وفي مصلحة الجانبين". وأضاف "نحن نتعامل مع الجانبين بشكل محايد ولا نلعب أي دور غير محايد، لأن عدم الحياد من شأنه أن يؤدي الى تصعيد،والصين تأمل ان يمارس الجانبان ضبط النفس والهدوء والاستمرار في المشاورات من أجل حل المشكلة عبر تقديم تنازلات متبادلة وتحقيق السلام والاستقرار". وتعتبر "أبيي"، بحسب الأممالمتحدة سببا متحملا لتجدد الصراع بين السودان وجنوبه، وقال نائب الأمين العام للأمم المتحدة لعمليات حفظ السلام، هيرفي لادسوس أمام مجلس الأمن الدولي الجمعة إن الخرطوموجوبا بحاجة لاستئناف المفاوضات للحيلولة دون تجدد الصراع، مشيراً إلى أن المحادثات تمخضت عن إحراز تقدم على صعيد قضايا محددة، لكنهما لم يتمكنا من الاتفاق حول قضية ترسيم الحدود ولا تزال مواقف كل طرف أبعد ما تكون عن تحقيق اتفاق. مخاوف الأممالمتحدة، من تداعيات قد تقود السودان وجارته الوليدة الى مربع الحرب مجددا بإمكان المنظمة الأممية إبطالها اذا ما أعملت النظر في الشكاوى الثلاث التي أودعتها الحكومة السودانية منضدة مجلس الأمن. فالخرطوم تقدمت بثلاث شكاوى ضد دولة الجنوب لاعتداءاتها المتكررة على مناطق تقع داخل حدود السودان أخرها الهجوم التي تعرضت له القوات المسلحة بمنطقة "جاو"، وطالبت الأممالمتحدة بممارسة أشد الضغوط على دولة جنوب السودان لوقف اعتداءاتها المتكررة على الأراضي السودانية. وأكدت في ذات الوقت، احتفاظها بحق الرد بكافة الوسائل بما فيها العسكرية. وأكد المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية، العبيد مروح، أحقية القوات المسلحة في الرد على أي هجوم على الأراضي السودانية استناداً للقوانين الدولية بما فيها قوانين الأممالمتحدة. نقلا عن صحيفة الرائد بتاريخ :12/12/2011