واقع الأحداث والمتغيرات التي تأخذ طريقها داخل حدودنا أو بالقرب منا أو أمام أعيننا ، تعكس بوضوح قدرة القوى الخفية والعلنية على تنفيذ أهدافها الإستراتيجية مهما طال الزمن وبأي ثمن ما دام يخدم في نهاية الأمر مطامعها ومصالحها، ويمكن أخذ النموذج الإسرائيلي الصهيوني في المنطقة بوجه عام وضد السودان بوجه خاص ، ويجوز الالتفات لهذه الواقعة ثم متابعة تداعياتها اللاحقة، ففي إحدى الزيارات المفاجئة لرئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات ولقائه بالرئيس جعفر نميرى في الخرطوم ، قدم إليه »عملة وخارطة«، العملة المعدنية كتب عليها بالعبرية »إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات«، أما الخارطة فهي لإسرائيل الكبرى »من النيل إلى الفرات« واسهم ودوائر وخطوط، و ألوان لمناطق ومدن وقرى وأنهر رئيسية وأخرى فرعية وطرق برية رئيسية تمتد وتتداخل لهذه الإمبراطورية من »النيل إلى الفرات«، ونقل ياسر عرفات لجعفر نميري وجانب منها أذيع في لقاء تلفزيوني ان منظمة التحرير الفلسطينية استطاعت بوسائلها الحصول على العملة وعلى الخارطة التي أعدت وفقاً لخطة وإستراتيجية تنفذ بصبر ومثابرة على مراحل، وهي في الأصل كانت مجرد حلم وخطوط على ورق لمؤسس الدولة الإسرائيلية بن غوريون العام 1948م في فلسطين والتي اعترفت بها الولاياتالمتحدة وبريطانيا والأممالمتحدة فور إعلانها، ثم تحول الحلم والخطوط إلى خارطة وعملة أودعت في خزينة رئاسة الدولة وجهاز الموساد في عهد غولدا مائير رئيسة الوزراء وموشى دايان وزير الدفاع في حقبة الستينيات، ولتجاوز محطات مهمة نمسك بالملف الإسرائيلي الخاص بالسودان، لقد كان السودان بوجه خاص على طول امتداد نهر النيل والشمال حيث الأراضي الخصبة مقترحاً مهماً لتوطين اليهود من المنظمة الصهيونية في الولايات وبالتعاون مع الحكومة البريطانية قبل وعد بلفورد نوفمبر 1917م .وتمت زيارتها ودراسة خصائصها ومؤشرات التوسع المرتقب لتكون الملاذ والوطن المقترح لليهود وتحتفظ وثائق وزارة الخارجية ورئاسة الوزراء البريطانية بالوثائق والمذكرات الخاصة بإيجاد وطن لليهود في السودان و صرف النظر في أعقاب التعهد البريطاني بان تكون فلسطين الوطن المرتقب حال انسحاب الإدارة البريطانية عنها ،ثم تابع محطات لالتفات والمتابعة من تل أبيب للخرطوم. إعلان السودان استقلاله مطلع 1956م وانضمامه للجامعة العربية وتأكيده على العمل لاسترداد »فلسطين الحبيبة« وقبلها مشاركة القوات السودانية في الحرب 1948م. توقيع اتفاقية مياه النيل مع مصر نوفمبر 1959م بالقاهرة وموافقة السودان على قيام السد العالي .هذه الاتفاقية دفعت إسرائيل إلى إقامة علاقة خاصة مع الإمبراطور هيلا سلاسى حاكم إثيوبيا القوي ،وأوفدت إليه خبراء ومستشارين ليكونوا عوناً له امنياً وفي مياه النيل .وأوعز له أن السودان ومصر يقومان بسحب المياه من إثيوبيا لصالحهما، وركزوا في الواقع على دراسات وافية لكميات التخزين في بحيرة تانا ومناسيب المياه أبان الخريف والفيضانات السنوية .فقد ظلت إسرائيل تدرس بجدية بالغة كيفية سحب أو مد مياه النيل عبر سيناء فوقها أو تحتها إلى داخل إسرائيل. فوجئت إسرائيل بموقف السودان لدى وقوع العدوان الثلاثي بريطانيا وفرنسا و إسرائيل على السويس »مصر« 1956م وإعلانه الحرب إلى جانب مصر وإرساله قوات سودانية إلى السويس وقيامه بحملة قوية في الأممالمتحدة لإدانة العدوان الثلاثي وإقناعه الدول الأعضاء بقرار انسحابها مجتمعة من القناة والسويس و تعويض مصر عن خسائر الحرب ووصفها لها »بأنها دولة معتدية عدوانية غير مؤتمنة »اغتصبت ارض فلسطين وتريد أن تتوسع بأي ثمن.« وأخذت تل أبيب في متابعة الجنوب بعد أحداث التمرد الدموي في أغسطس 1955م واتصالها بالقيادات التي هربت إلى الدول المجاورة إثيوبيا ويوغندا، واعتبرت أن نقطة الضعف في السودان القارة هو الجنوب، وان بمقدورها ان تنال منه عبر تقوية ومساعدة حركات التمرد انانيا »ون« وانانيا »تو« بقيادة جوزيف لاقوشهدت الأعوام 1960م-1961م و1962-1963م نشاطاً عسكرياً مكثفاً من قوات الأنانيا ضد القوات المسلحة في الجنوب بدعم من إسرائيل التي زودتهم بالسلاح والذخيرة والمستشارين.وعندما حققت إسرائيل بعدوانها ما أسمته بالانتصار العظيم على العرب باحتلالها للأراضي العربية مصر والأردن و سوريا واجتياحها لكل فلسطين في يونيو 1967م م وأعلنت إسرائيل أنها تنتظر اعتراف القادة العرب بهزيمتهم وإملاء شروطها في ظل احتلالها وإدارتها للأراضي التي استولت عليها في العدوان الكاسح. فوجئت إسرائيل بما لم يكمن في الحساب، النجاح المذهل الذي حققته الخرطوم بجمع الملوك والرؤساء العرب في أغسطس 1967م حيث توصلوا بفضل حنكة القيادة السودانية إلى قرارات حاسمة حيث وافقت القمة العربية على »اللاءات الثلاث« التي صاغها السودان »لا صلح مع إسرائيل ولا اعتراف بها ولا تفاوض معها«.. وكانت صدمة بالغة لها.. ونجح السودان أيضاً في توفير الدعم المالي للصمود والتصدي للجيوش العربية وبوجه خاص مصر والأردن 145 مليون جنيه إسترليني كل ثلاثة أشهر و لتمكينها من الرد على العدوان الإسرائيلي والذي تحقق عبر انتصار 6 أكتوبر 1973م حيث استطاع الجيش المصري نسف أسطورة تفوق الجيش الإسرائيلي. وعبور القناة ورفع العلم المصري و استرداد سيناء واتفقت تقارير أمنية وعسكرية وسياسية في إسرائيل انه لولا قمة القادة العرب في الخرطوم 29 أغسطس 1967م بالدعم المادي والعسكري والمعنوي للجيوش المصرية وتحويل قرار حظر البترول إلي ضخ البترول لما تهيأ للعرب المال ولا الصمود ولا التصدي للعدوان الإسرائيلي، وكذلك لولا نجاح السودان في تحقيق المصالحة بين المملكة العربية السعودية ومصر لما انتهت حرب اليمن ولا تحقق لها الاستقرار، ولا عودة القوات المصرية »70 ألف ضابط وجندي« من جبال اليمن إلى مصر ليشاركوا في ملحمة عبور 1973م. قمة الخرطوم العربية الفاعلة والنافذة قلبت خطوط إسرائيل رأساً على عقب حيث وجدت لأول مرة الملوك والرؤساء والشعوب العربية على هدف واحد هو مواجهة إسرائيل ورد عدوانها ودعم حقوق شعب فلسطين في استرداد أرضه. وشكلت بعدها إسرائيل فرقاً من الباحثين والدارسين والأمنيين لمتابعة الشأن السوداني وتزويدها بكافة المعلومات عنه بما يخدم إسرائيل من جهة و بما يساعدها على إعداد خططها في زعزعة أوضاع السودان سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، ولكي تتمكن من تحقيق أهدافها بعثت بشركات ومنظمات مجتمع لمساعدة الدول المجاورة للسودان يوغندا وإثيوبيا وليبيا وإفريقيا الوسطى. ü ووطدت تل أبيب علاقاتها مع قيادات الحركة الشعبية في معاركها ضد القوات المسلحة في الجنوب وزودتها بكافة الاحتياجات والمساعدات العسكرية، وبالخبراء والمستشارين، و بتوفير التدريب العسكري في إسرائيل، وغالبيتهم زاروا وتدربوا في إسرائيل وبوجه خاص العقيد سلفاكير الذي كان مسؤول الأمن في الحركة الشعبية وقد نفى غالبيتهم العلاقة مع إسرائيل أو أنها أعانتهم أو ساعدتهم في حربهم في الجنوب ولكن الوثائق قالت بغير ذلك وظلت تقدم إليهم النصائح والمشورة وأحياناً التوجيهات المباشرة وأيضاً التحذير بعدم وقف الحرب أو قبول الضغوط لتحقيق السلام. ولم توافق إسرائيل على مبدأ الحوار والسلام إلا بعد دخول الولاياتالمتحدةالأمريكية ورعايتها لمفاوضات السلام في نيفاشا . وكان المستشارون والخبراء الإسرائيليون بجوار المفاوضين الجنوبيين لتقديم المشورة في كافة مراحل التفاوض لتحقيق الهدف الاستراتيجي للحرب وللمفاوضات المتمثل في تحقيق انفصال الجنوب عن الشمال وليس الوحدة الجاذبة، وكانت نصيحة تل أبيب لقيادة الحركة الشعبية استفيدوا من أموال العرب لإصلاح ما خربته الحرب بطمأنتهم بالوحدة الجاذبة.. ثم تحقيق الهدف الاستراتيجي »إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.« ربما التفاتة إلى الوراء نحو غزو القوات المسلحة الأمريكية أو التحالف الغربي للعراق العام 2001م بزعم امتلاكه لأسلحة مدمرة تهدد البشرية بينما في الواقع هدف إلى تدمير أجهزته، الجيش والبوليس والخدمة المدنية، وتحويله من دولة إلى طوائف لكي لا تقوم له قائمة كبلد عربي فاعل، ولعلنا نذكر أن أول تقرير خرج من بغداد بعد الغزو الأمريكي هو قيام خبراء إسرائيل بنهب الآثار والمقتنيات التاريخية في المتحف الوطني العراقي، لقد أرادت إسرائيل تجريد العراق من إرثه وتاريخه وحضارته بنهب ثروته الأثرية بادعاء أنها ثروة تخص تاريخ اليهود، وتحول العراق الآن من دولة عربية عظمى إلى مجرد اسم في أخبار النسف والقتل والتفجيرات والاغتيالات. المخطط الإسرائيلي الصهيوني استهدف العراق »إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل« أو »من النيل إلى الفرات«.هذه مجرد إشارات تمهد لمغزى زيارة الفريق سلفاكير رئيس دولة الجنوب لتل أبيب واعترافه »ما كنا سنقيم دولة لولا دعم إسرائيل« قاتلتم معنا لقيام دولة الجنوب. ويفيد التذكير بإستراتيجية إسرائيل التي تعتبر أن أي استقرار في السودان هو مهدد لأمنها، ثم آخر تحذير أطلقه المفكر المصري احمد بهاء الدين. نقلاً عن صحيفة الرأي العام السودانية 26/12/2011م