كانت فرحة الشعب السوداني عظيمة بتوقيع اتفاقية السلام الشامل التي أوقفت الحرب في ربوع هذا البلد. وجاءت الاتفاقية بعد ولادة متعثرة استمرت سنيين طويلة وشارك فيها بل نقول هندستها دول وأصدقاء الإيقاد. ورغم ثنائية الاتفاق الذي جعل مصير ومستقبل السودان في قبضة المؤتمر الوطني والحركة الشعبية إلا أن الفرحة كانت غامرة علي خلفية إيقاف وتوقف الحرب التي حصدت الأرواح ودمرت كل البنيات التحتية وعطلت بل أوقفت تماماً التنمية والتطور.هللت الجماهير السودانية لأن الحرب اللعينة كانت تدخل في البيوت السودانية بلا استئذان وتضرر منها الوطن ضرراً بليغاً أقعده وعطل مصالحه وربما لهذا السبب كان يطلق علي السودان لقب رجل أفريقيا المريض. واتفاقية نيفاشا التي رسمت مستقبل السودان وحددت طريقاً للوحدة أو دروباً للانفصال كان يجب أن يشارك وتشارك فيها كل الفعاليات السياسية السودانية وكل مجموعات وتجمعات الشمال والجنوب وان لا يترك مصير ومستقبل هذا البلد في أيادي المؤتمر الوطني والحركة الشعبية وهما الحزبان الجديدان في ساحة العمل الوطني في هذا البلد.عموماً كان الشعب ينظر فقط نحو هدف واحد حققته الاتفاقية وهو إيقاف نزيف الدم الذي استمر طويلاً والاتفاقية وهي تخاطب كل قضايا الوطني كان يجب أن تنفذ حسب ما جاء في جدول الاتفاق المدمج ولكن يبدو إن الرياح في هذا البلد دائماً تأتي بما لا تشتهي السفن. ولعل الرحيل المفاجئ لرجل الحركة الشعبية الوحدوي والقوي جون قرنق قد كان بمثابة الفاجعة لكل العناصر الوطنية التي كانت تتابع نضالات الراحل وانحيازه القوي واللا محدود نحو الوحدة.وفوق هذا وذاك فإن أوراق الحركة الشعبية كلها قد تشابكت واختلطت وظهرت بعض الخلافات العاصفة حول خلافته الخاصة في المقربين للقائد جون قرنق أمثال نيال دينق وغيرهم وبين القيادة العسكرية التي ربما تمسكت بنائبه سلفاكير الذي لم يكن مهيأً للقيام بدور الزعامة في الحركة الشعبية. ويمكننا أن نقول إن عقد الحركة الشعبية قد انفرط وظهرت الخلافات بعد تولي سلفاكير عجلة القيادة. ولا نقول الخلافات فقط ولكن يبدو أن الخط المرسوم لعملية السلام والوحدة قد أصابه الوهن بعد رحيل رجل الحركة الشعبية القوي الذي كان يحتفظ بكل الخيوط في يده وكانت القوي المحلية والدولية والإقليمية تحسب له ألف حساب وكانت الجماهير السودانية تراهن علي حدودية الحركة كلها ولعل رحيل القائد جون قرنق هو الذي جعل زعماء ورموز الحركة الشعبية لا يتحمسون كثيراً لإنفاذ الاتفاقية إلا تلك البنود التي تعجل برحيلهم وانفصالهم بأسرع ما تعجل حسب نصت عليه الاتفاقية.وقد تلاحظ إن سلفاكير لا يقوم بكامل عمله كنائب أول ولا يمارس الصلاحيات الوظيفية التي يتطلبها المنصب. وبعبارة أخري فإن الهم العام والهدف ربما من الاتفاقية في نظر الحركة الشعبية بعد رحيل جون قرنق كان الانفصال ولا شيء غير الانفصال رغم بعض التصريحات التي تتحدث عن وحدة السودان ربما لزوم إنفاذ بعض الأجندة. كنا نأمل أن تحافظ اتفاقية نيفاشا علي وحدة السودان الذي أورثناه من الآباء والجدود وكنا نتعشم أن يفارق هذا البلد دروب الحرب إلي غير رجعة ولكن يبدو أن بذور الحرب في البلد تحملها رياح المستعمر لتنثرها في هذه الأرض الطيبة رغم الاتفاقات والمعاهدات الموقعة ولم توقف الاتفاقية الحرب في جنوب السودان وربما توقفت "الحرب النظامية" بين جيش الحكومة وقوات الحركة الشعبية ولكن حروب قبلية اندلعت في جميع أنحاء الجنوب. ولعل اتفاقية نيفاشا هي التي فتحت شهية البعض في دارفور ليحصلوا علي ذات المكاسب التي حصلت عليها الحركة الشعبية بدعوي التهميش أو تحقيق المطالب بقوة السلاح بعيداً عن الحوار الهادي الذي يقود إلي تطوير المنطقة. وبعد الاستفتاء الذي شمل كل أبناء الجنوب وجاءت التنمية المتوقعة من المراقبين بالانفصال لأننا لم نجعل الوحدة جاذبة وعندما نقول "لأننا" فنحن نخاطب ونقصد المؤتمر الوطني والحركة الشعبية فقد ظل التشاكس والتلاسن والاتهامات هي أساس حكومة ما أطلق عليه في ذلك الوقت حكومة الشريكين. ولم تكن مصلحة الوطن في ذلك الوقت تعني الحكومة بقدر ما كانت المصالح الآنية ومكاسب الأفراد في الحزبين هي التي تسيطر علي إيقاعات التعامل وقد شهدنا كيف أن أركان الحكومة يشدون الرحال نحو واشنطون العاصمة الأمريكية بحثاً عن الحلول والتوسط لإزالة العقبات.وشهدنا وشاهدنا كيف أن الحركة الشعبية في وقت من الأوقات قد جمدت عضويتها في كل الجهاز التنفيذي بما فيه مجلس الوزراء احتجاجاً علي عدم تنفيذ اتفاقية نيفاشا والتلكؤ الذي حدث في إنفاذ بعضها. وكان انفصال الجنوب ولكن ظلت بعض مسامير جحا عالقة مثل قضية أبيي ومناطق جنوب كردفان والنيل الأزرق وقضايا ترسيم الحدود وقسمة النفط ولا نريد أن نكتب عن تداعيات فصل الجنوب والحروب التي انتظمت جنوب كردفان وأرهقت وأنهكت الاقتصاد السوداني. وخسارتنا التي تعادل 70%في موارد العملة الأجنبية. وحتى لا تصبح نيفاشا لعنة أصابت هذا الوطن علينا أن نحاصر حصاراً حقيقياً كل إفرازات هذه الاتفاقية التي كنا نظنها نهاية للحرب ولكنها فتحت علينا أبواب للحروب المغلقة. ونحن نناقش ونتحاور حول معبر أنابيب النفط علينا أن نتحلى بمخزون كبير من ضبط النفس والحكمة والبعد عن الانفصال والاستقرار. قلنا ونقول إن اقتصاديات الدولتين لا تسمح إلا بالحوار الهادي الذي يقود إلي المصالح المشتركة. ونحن نقول بصوت يسمعه كل المعارضين من الطرفين، إن الحوار أقل كلفة وتكلفة من الحرب. ولا بديل للتفاوض في كل القضايا العالقة بين البلدين إلا التفاوض. نقلا عن صحيفة السوداني السودانية 14/2/2012م