المصادفة غير مسبوقة، وكذلك ظروفها. فللمرة الأولى بعد الحرب الباردة، يتزامن، أو بالأحرى، يتوالى التغيير في قمة هرم السلطة الروسية والأميركية والصينية، خلال أقل من سنة. ويكتسب ذلك أهميته من حصوله وسط توتر مرشح للتصعيد في علاقات الثلاثي بعضه مع بعض. وكذلك نتيجة حدوث الاستحقاقات الرئاسية هذه في فترة انتقالية دولية هشّة تعيش حالة تغيير مفتوحة على المجهول. وبالذات في الشرقين الأوسط الذي يعيش " ربيعه" والأقصى الذي تشهد ساحته تحولات في موازين القوى الإقليمية والدولية المتواجدة فوقه. غداً الأحد 4 مارس تعيد روسيا بوتين، وفق التوقعات، إلى سدّة الرئاسة. وقبل نهاية العام الجاري يحلّ نائب الرئيس الصيني كسي جينبينغ مكان الرئيس جينتاو. ثم في الفترة نفسها تكون أميركا قد اختارت رئيسها: إما أوباما لولاية أخرى وإما أحد خصومه. تشكيلة لا بدّ وأن تترك بصماتها على المشهد الدولي عموماً ومعادلاته الرخوة واللامستقرة. قد لا تخرج في توجهاتها العامة عن الاستمرارية. لكن لن تنسخها. وتميل معظم التوقعات إلى ترجيح التشدّد، أو في أحسن الأحوال مناخ إدارة الأزمات، خلال مرحلة الثلاثي. وثمة من يتوقع استمرار مثل هذا الوضع طوال السنوات العشر المقبلة. موضوع تسلّطت عليه الأضواء خلال زيارة المسؤول الصيني الثاني،أخيرا، إلى واشنطن واللقاءات التي أجراها مع الرئيس أوباما وكبار مسئولي إدارته وقادة الكونغرس. عودة بوتين المتوقعة، يضعها الأميركيون في خانة غير المرغوب. العلاقات الأميركية الروسية قادمة على تأزم متزايد، في اعتقاد الخبراء في واشنطن. الفيتوات الروسية الأخيرة في مجلس الأمن، رأوا فيها رسالة مسبقة من جانب بوتين، في هذا الاتجاه. فالعائد من الباب الدوّار، يزمع توظيف ورقة الخارج لتعزيز مقبوليته الضعيفة في الداخل. فهو ما عاد ينعم بالسمعة التي توفرت له في ولايته الأولى، كرمز قومي روسي. التظاهرات الرافضة لعودته وثمة من يرى فيها بداية ربيع عربي في الآونة الأخيرة تنطق بذلك. الفساد والاستئثار والترهل الاقتصادي والتنموي، أسقط هالته. لهذا تتحدث الدوائر الأميركية عن "بوتين متشدد أكثر " من السابق، في محاولة لشدّ العصب الروسي القومي وتصويبه نحو الخارج. وبالتحديد نحو واشنطن، وبالتالي تزويغ الأنظار عن إشكالات الحكم في الداخل. أما القادم الصيني الجديد، فقد تعاملت معه واشنطن بمعايير مختلفة وإن بكثير من التحفظ والارتياب. الثقل الاقتصادي الثاني عالمياً وحجم التبادل التجاري الأميركي الصيني، فضلاً عن الدور الأمني الضابط في المنطقة، خاصة تجاه كوريا الشمالية، كل ذلك يجعل من الصين حاجة إقليمية أمنيا واقتصادية دولياً. مع ذلك استعصت العلاقات على التحسّن. بل هي تغوص في المزيد من التباعد. المنافسة الإستراتيجية تضعهما على طرفي نقيض. الشكوك المتبادلة عضوية منبثقة من طبيعة الصراع المحتوم بين المتنافسين الكبيرين. زيارة جينبينغ، رغم التنويه "بانفتاحه وفكره المتنور " وتمايزه عن رئيسه جينتاو، ما كان من المتوقع أن تعزّز الثقة المفقودة إلى حدّ بعيد بين الطرفين. واشنطن منزعجة من الزحف الاقتصادي الصيني الذي يستهلك اليوم 9 ملايين برميل نفط يومياٍ وقبل نهاية العقد يلزمه 15 مقابل 20 لأميركا. ومنزعجة أكثر من التمدد العسكري الذي تمارسه بكين في مياه بحر جنوب الصين. ضيق أميركي يقابله إصرار صيني. كسر هذه الدوّامة مرهون بالتوافق على " معادلة عسكرية تضمن للصين الانتشار اللازم لحماية مصالحها الأمنية الجوهرية وفي الوقت نفسه تسمح لأميركا بمواصلة النهوض بمسئولياتها تجاه حلفائها في تلك المنطقة ". كما يقول الخبير كينيث ليبرتول، المدير في مركز جون ثرونتون للدراسات الصينية. معادلة يبدو تحقيقها أقرب إلى التمني منها إلى الواقع المحتمل، ما لم تتوفر مقومات القرار السياسي بشأنها. " ومن هنا تبرز أهمية القيادة السياسية القادرة على الخروج من هذا السياق عبر توفير الضمانات المطمئنة المتبادلة، مثل وقف سباق التسلح" كما يقول زبغنيو بريجنسكي. العلاقات مع موسكووبكين، أولويات إستراتيجية أميركية وإلى حدّ بعيد دولية. الثانية تبقى الأهم، نظراً لحالة الفوران التي تعيشها الصين والتي تشكل " مزاحمة " لأميركا تفرض عليها بعض التنازلات. احتمال التوصل إلى صيغة متوازنة مع الرئيس الصيني المقبل، ترجح كفته لو فاز أوباما، المرجح حتى الآن. لكن إذا جاء أحد المحافظين إلى البيت الأبيض فقواعد اللعبة ستتغير ويصبح سيناريو الحلحلة مستبعداً أكثر. تظهير الصورة يتطلب المتبقي من هذا العام.