وجد حزب المؤتمر الشعبي المعارض في السودان بزعامة الدكتور حسن الترابي نفسه، بين عشية وضحاها في ورطة ما تحسَّب لها، وفات تماماً أوان إمكانية معالجتها بحيث يمكن القول إن الورطة سري مفعولها وباتت النتائج الكارثية المنتظرة جراءها مسألة وقت فقط. ورطة الشعبي- كما شاعت وذاع صيتها الأسبوع الماضي - أن أحد أبرز قادة الحزب الأستاذ عبد الله حسن أحمد شارك في أعمال ورشة الدستور الإسلامي، وهو أمر ربما بدأ كشئ طبيعي في سياق أطروحات الحزب المستندة علي أيديولوجية إسلامية، أو علي الأقل وفق السياق التاريخي لتوجهات زعيم الحزب وقادته. غير أن الأمر سرعان ما أثار موجة غضب عارمة علي جبهة ما يسمي بتحالف المعارضة أو كما يحلو لقادتها "قوي الإجماع الوطني". فقد كان عصَّياً وصعباً علي قادة سياسيين أمثال فاروق أبو عيسي، كل ما تبقي لهم من رأسمال سياسي هو العلمانية، أو علي الأقل الابتعاد مئات الأميال عن الدين أن يتقبَّلوا فكرة أن (حزباً متحالفاً معهم) يدلي بدلوه في دستور إسلامي بما يهدم فكرة (نضالهم) ضد السلطة الحاكمة تماماً ويجَّردهم من (ميزتهم) السياسية في السوق السياسي السوداني. أبو عيسي وهالة وقادة البعث والشيوعي واليسار العريض، هاجموا - بضراوة - عبر مذكرات (داخلية) ساخنة موقف الشعبي، ولم يتحمل زعيمه (الدكتور الترابي) الأمر رغم ما عُرف عنه من مقدرة علي الإحتمال، وسعة الصدر، والصبر علي المكاره، كما تعوًّد أن يقول. الدكتور الترابي هاتف المسئول السياسي للحزب، المحامي كمال عمر، أحد أكثر قادة الشعبي تذبذباً في التصريحات والمواقف وأكثر برجمانية وطلب منه اصطحاب السيد عبد الله حسن أحمد، إلي قيادة الحزب بأسرع فرصة ليواجه الأخير تفريظاً غير معهود وغير مسبوق وليتم تلافي الإشكال عبر نظرية (التنصَّل الكامل) من القصة بكاملها بحيث تم التوصل إلي صيغة يقول بموجبها عبد الله حسن أحمد أن مشاركته في الندوة الدستورية كان (بصفة شخصية) وليس تمثيلاً للحزب! وقد كان؛ وإعتقد الدكتور الترابي ورفيقه كمال أن العاصفة قد مرّت بسلام وهدأ الجو وانقشعت السُحب. لقد تفجَّرت في الواقع بهذا الصدد أزمتان ؛ الأزمة الأولي كانت علي صعيد التحالف المعارض، فقد شعر المتحالفون من قبائل اليسار العريض أن الترابي (غير مأمون الجانب) وأنه يصعب إيلاؤه الثقة، فهو في خاتمة المطاف لا يمكن أن يُحسب في أي حساب سياسي خارج الرصيد الإسلامي العريض وهو ما يقلق قوي التحالف التي باتت تدرك أنه وعلي فرض وصولهم للمتبغي؛ فإن عليهم أن يضعوا في حساباتهم حليفاً ذا وجهة أخري مغايرة وخطيرة بالنسبة لهم! وهذه الأزمة في الواقع – وعلي صعيد التحالف – أوجدت شرخاً خطيراً في جدار التحالف وباتت تنذر بإشتعاله في القريب العاجل. الأزمة الأخرى هي أزمة داخل (بيت الشعبي) وهي ذات طابع داخلي أكثر خطورة فهي أوجدت مقدمة لإنشقاق وشرخ عميق باعتبار أن الشعبي (بدَّل دينه) وغيَّر قميصه السياسي ولم يُعد بذات أطروحاته التي نشأ عليها والأنكى إن هذا التبدّل سببه تحالفه مع اليسار والذي له يدٌ سلفت حين عمل علي مصالحة زعيمه الترابي والسيد الصادق المهدي في دار حق قبل أشهر وهو بهذا التطور يتجه ليفقد آخر من تبقي فيه مسانداً لزعيمه الترابي لأنه نقد مشروعيته السياسية حين رضي إرضاء الآخرين وهم خصومه التقليديين مجاناً ولأجل مغانم دنيوية عابرة. ولعل من الغريب هنا أن الدكتور الترابي زعيم الحزب الذي كَّون مع آخرين أول جبهة دستور إسلامي في ستينيات القرن الماضي وعاني وقتها من ورطة محاصرة الأعضاء غير المسلمين في البرلمان السوداني حول شروط تولي الرئاسة السودانية وأضطر الدكتور الترابي يومها للمراوغة كعادته، يعود بعد نحو من خمسين عاماً ليذم - ومع سبق الإصرار - الدستور الإسلامي ليُحاصَر هذه المرّة مِن أعضاء في حزبه، هم دون شك ليسوا من غير المسلمين!